مفاهيم قرآنية حبّذا لو تُطبَّق!

صبحي غندور

 

هوّة سحيقة بين من يقرأون القرآن، وبين من يفقهون ما يقرأون.. ثم بين من يسلكون في أعمالهم، ما يفقهونه في فكرهم!.

 

شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن الكريم الذي يعود المسلمون، من خلال المواظبة على قراءته، إلى النبع الأصلي لكلّ ما تفرّع عنه فيما بعد من أفكار ومذاهب ومعتقدات.

فقراءة القرآن الكريم في شهر الصوم الفضيل تعني ضرورة الجمع بين تنقية العقل والفكر وبين ترويض النفس والجسد وتهذيبهما. غير أنّ قراءة القرآن دون التفكّر والتعمّق في معاني ومرامي آياته هي كالصوم عن الطعام والشراب دون إدراك الحكمة منه ومن غاياته في تهذيب الذات وفي الحثّ على فعل الخير مع الآخرين.

صحيحٌ أنّ هناك الكثير من الآيات والسور التي تحوج العودة إلى كتب التفسير (الموروث بعضها منذ مئات السنين رغم إمكان التفسير المختلف ببعض المواضع في عالم اليوم وعلمه) لكن أيضاً هناك العديد من الآيات الكريمة الواضحة تماماً في معانيها ومراميها ولا يتمّ التوقّف عندها كثيراً لدى عموم الناس وهم يقرأون القرآن في هذا الشهر المبارك، أو في غيره من الأوقات، ولا يقارنون أيضاً مضمونها مع واقع حالهم وفي سلوكهم مع الآخرين.

ففي أكثر من آية قرآنية يؤكّد الله سبحانه وتعالى أنّ الحساب للناس هو على أعمالهم بشكل فردي: "يوم تأتي كلّ نفسٍ تجادل عن نفسها.." (سورة النحل/الآية 111)، ""من عمل صالحاً فلنفسِه ومن أساء فعليها.." (سورة فصّلت/الآية 46)، "كلُّ نفسٍ بما كسبتْ رهينة.." (سورة المدّثر/الآية 38) الخ.. لكن معظم الناس يتجاهلون الحكمة في هذه الآيات وغيرها بأنّ الله عزّ وجلّ يقاضي الناس ويحاسبهم على أعمالهم بشكل فردي فلا تُظلَم جماعة لا ذنب لها بأسرها إن كانت عائلة أو قبيلة أو طائفة لأنّ فرداً منها أساء، وبأنّه لا يجوز أن ينظر الناس إلى بعضهم البعض من مواقع عائلية أو قبلية أو طائفية، فيتمّ تكريم أشخاص أو ظلمهم تبعاً لانتمائهم وليس بسبب كفاءتهم أو أعمالهم.

وقد كانت هذه الحكمة الإلهية جليّة واضحة في قوله تعالى" "ولا تزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى".

للأسف، فإنّ الكثير من العادات والتقاليد في بلدان إسلامية ما زالت بعيدة تماماً عن مغزى هذه الآيات الكريمة، فالناس يحاسبون بعضهم على أساس جماعي لا فردي، بل يقتلون أحياناً أنفساً بريئة لأنّها تنتمي فقط لجماعة أخرى، كما هو الحال في جرائم الثأر أو ما يحدث في الحروب الأهلية، وفي بعض ممارسات النظم والحركات السياسية.

****

أيضاً، فمشكلة البعض في العالم الإسلامي الآن أنه لا يتوازن في أساليب عمله مع نصوص قرآنية تقوم على رفض الإكراه في الدين:

- "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (سورة النحل/الآية 125).

- "أفأنتَ تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين" (سورة يونس/الآية 99).

- "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" (سورة الحجرات/الآية 13).

- "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" (سورة الفرقان/الآية 63).

- "وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالمين" (سورة الأنبياء /الآية 107).

- "إنّا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فإنما يضلُّ عليها وما أنتَ عليهم بوكيل" (سورة الزمر - الآية)39.

****

ونقرأ في الآية العاشرة من "سورة فاطر":

مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ(١٠)

ففي هذه الآية الكريمة ربط جميل مطلوب بين "القول والعمل"، بين "الفكر والتطبيق"، بين "الإيمان والعمل الصالح" من خلال تأكيد الخالق عزّ وجلّ من ناحية على أهمية "ٱلكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ" الذي يصعد اليه لكن، من ناحية أخرى، على أنّ هذا الصعود يحتاج إلى عمل صالح يُرفق بهذا "الكلِم الطيب" لكي يرفعه. فكم من هوّة سحيقة نجدها بين فكر بعض المسلمين وسلوكهم، وفي كثير من المسائل العامة أو الشخصية. حتماً لا يقصد معظم الناس هذا الانشقاق بين "القول" و"العمل"، لكن ذلك مدعاة للتمييز المهم المطلوب بين حالاتٍ ثلاث: فحالة الكلمة الطيبة حتى لو لم تقترن بعمل صالح هي خير وأفضل طبعاً من حالة الكلمة الخبيثة. لكن الحالة المثلى حتماً هي في الجمع بين طيبة الكلام وصلاح العمل.

أيضاً، نجد في الآية 12 من السورة نفسها (سورة فاطر) ما هو حكمة بليغة ودرس هام لمن لا يقبلون بالرأي الآخر ولا يجدون الحقيقة والمنفعة إلاّ فيما هم عليه من معتقد وينكرون ذلك على المخالفين لهم. تقول الآية الكريمة:

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {فاطر/12}.

فسبحان الله الذي خلق هذا التنوع والاختلاف في كلِّ خلقه بما في ذلك الماء الذي جعل منه كلَّ شيءٍ حي، فإذا بالآية تؤكّد على أنّه بالرغم من عدم سواسية "البحرين"، أحدهما عذب والآخر ملح أجاج، فإنّ بينهما فوائد وقواسم مشتركة يستفيد منها الناس: أكل اللحم الطري، استخراج الحلي وتسيير السفن فيهما...

هكذا يجب أن تكون حكمة وأمثولة هذه الآية في كلّ أمور الناس وأفكارهم وأعمالهم وأشكالهم. فالاختلاف لا يعني عدم وجود قواسم ومنافع مشتركة يمكن البناء عليها بين "المختلفين".

***

على صعيد آخر، فإن عدالة قضايا المسلمين لا تكفي وحدها لاستقطاب الرأي العام الغربي (بل حتى الرأي العام الإسلامي)، فلا فصل بين الدعوة وبين الدعاة، بين الرسالة والرسول.

إن الخلط في الغرب بين الإسلام - كدين وحضارة - وبين ممارسات بعض الجماعات الإسلامية، يقابله أيضاً، عند الكثير من المسلمين، عدم تمييز بين حكومات الدول الغربية وبين شعوبها.

نعم، إن العالم الإسلامي كان ضحية سياسات وممارسات الدول الغربية مع دول العالم الثالث، ومنها الدول الإسلامية والعربية، حيث حفل ويحفل تاريخ الغرب مع هذه الدول، بالسيطرة والاستغلال والهيمنة...

.. نعم إن الإرهاب مارسته إسرائيل المدعومة من الغرب على الفلسطينيين والعرب (المسلمين والمسيحيين) في الأراضي العربية المحتلة، بينما - في الإعلام الغربي- يرتبط الإرهاب بالإسلام والمسلمين... لكن في العقدين الماضيين، لم تعد هذه مشكلة سوء نية البعض فقط في الغرب، بل أيضاً معضلة سوء فكر وعمل بعض الجماعات الحاملة لشعارات إسلامية والتي استباحت أسلوب العمليات الإرهابية ضد المدنيين الأبرياء، وتقوم أيضاً الآن بتحريض المسلمين على بعضهم البعض وبممارسة جرائم قتل لمن هم في موقع ديني أو مذهبي آخر، وتطرح مفاهيم فكرية لا تتوافق مع النصوص القرآنية الكريمة أو السيرة النبوية الشريفة.

***

فهل يتنبّه العرب والمسلمون إلى أن ليس كل من رفع شعار الإسلام، يعني بالضرورة التزامه بالمفاهيم القرآنية الإسلامية؟! وهل يتذّكر المسلمون والعرب ما قامت به إسرائيل ودول غربية من اختراقات لجماعات ومنظمات عربية وإسلامية؟ وهل يتّعظ المسلمون من حكمة رسول الله - ص - الذي أمر بهدم جامع ضرار الذي بناه اليهود في المدينة؟ وهل يربط العرب والمسلمون بين الحملات الصهيونية في الغرب عن الإسلام والإرهاب وبين ما يحدث من أعمال إرهاب باسم جماعات إسلامية حتى داخل الدول العربية والإسلامية؟

فأين هذه الجماعات من قول الله تعالى في كتابه الكريم:

- "من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" (سورة المائدة/الآية 32).

- "ولا تزر وازرة وزر أخرى" (سورة فاطر/الآية 18).

- "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (سورة البقرة /الآية 143).

***

هذه نماذج قليلة من كثيرٍ ورد في القرآن الكريم الذي يكرّر المسلمون قراءته (بل حفظه أحياناً) في شهر رمضان المبارك من كلّ عام. لكن الهوّة سحيقة أيضاً بين من يقرأون، وبين من يفقهون ما يقرأون.. ثم بين من يسلكون في أعمالهم، ما يفقهونه في فكرهم!.

ربما تحتاج اللغة العربية إلى كلمة جديدة هي "فكلوب" لتجمع دائمأ بين "الفكر" و"الأسلوب" في كل أمور الدين والدنيا. وكلُّ شهر رمضان وأنتم بخير!.

* مدير مركز الحوار العربي في واشنطن

[email protected]

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/sobhigandor.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 15/تموز/2013 - 6/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م