الشيعة في العالم و آفاق القوة الناعمة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: تتابع وتسارع وتيرة الاحداث على بعض البلاد الاسلامية، على شاكلة مصر والعراق وسوريا وافغانستان، جعلت الطابع السياسي سيد الموقف، بل هو عنوان التطورات والمستجدات في ميادين الاعتصام وشوارع الاحتجاج، في غياب الطابع العقائدي، رغم انه المحرّك الأساس لتلكم التحركات الجماهيرية، كما هي مصدر نشوء الافكار وبلورتها على شكل ثقافات وسلوك ومواقف.. لذا نجد ان "الاسلام"، كمفردة في وسائل الاعلام التي تنقل لنا أخبار التطورات في منطقتنا الملتهبة، لا يكون إلا في إطار "التطرف" و "الارهاب"، و"الجماعات المسلحة المختصة بالذبح والسحل والتمثيل بالجثث"، وفي أحسن الحالات، نسمع عن "الاسلام السياسي"، وحتى هذا المصطلح، بات مشكوكاً في مستقبله في نظر بعض السياسيين الذين يصرون على ترويج المآلات السلبية لهذا المفهوم في بعض البلاد، ومنها مصر.

في مقابل هذا الإصرار، الذي تقف خلفه أطراف إقليمية ودولية، هنالك إصرار على ثقافة السلم، وليس الحرب، والتعايش وليس التكفير، والودّ وليس الكراهية، ومن ثم منطق الحق والعقل، وليس منطق الباطل والتعصّب. والملاحظ على تضاريس الساحة، أن التوجه الأول قدم ما لديه من تجارب ونماذج للعالم في اوقات مختلفة، بدءاً من افغانستان، ثم العراق وسوريا والبحرين، والآن في مصر، حيث مشاهد الدماء والاشلاء في كل مكان، وبما ان هؤلاء يحرصون أن يكونوا الوحيدين في الساحة، فانهم وجدوا في شن حرب إبادة ضد الطرف المقابل، من أولويات مسيرتهم. فاذا نشهد، ويشهد العالم الهجمات الشرسة التي يشنها التكفيريون والسلفيون والوهابيون على الشيعة والتشيع، فمردّ ذلك الى الخوف الشديد الذي يعتريهم من آفاق المرحلة، ما يحمله الفكر الشيعي من أسلحة أمضّ وأشد مما لديهم من وسائل المواجهة الجاهلية، التي أثبت التاريخ فشلها.

وفي حديث له أمام ثلّة من علماء الدين والخطباء، يضيئ لنا سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي –دام ظله- نقطة هامة بقوله: "أن الشيعة اليوم هم قطب قويّ من أقطاب القوى بالعالم، بل إنهم الأقوى (كيفية) على وجه المعمورة، فعليهم أن يكونوا الأقوى بالفعل أيضاً، فالشيعة إذا فعّلوا قوّتهم، فسينعم العالم كله بالحياة، وينجو من المظالم المدمّرة".

لكن ما هي هذه القوة يا ترى..؟

قدم المفكر السياسي الامريكي "جوزيف ناي" نظرية "القوة الناعمة" لبلاده فيما كانت تستعد لشن أكبر وأضخم عمليات عسكرية خارج حدود امريكا منذ حرب فيتنام، وهي ما عُرف بـ "حرب تحرير الكويت"، ثم أصدر كتابه: "القوة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية"، عام 2004، ولم يكن "ناي" مجرد مفكرٍ أو محلل سياسي، فهو عميد كلية كيندي للدراسات الحكومية في جامعة هارفارد، وشغل منصب رئيس مجلس المخابرات الوطني و مساعد وزير الدفاع في أميركا.
يعرّف المفكر الامريكي نظريته بانها: "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال.."، بمعنى أن هنالك وسائل للتأثير غير القوة الصلبة المكونة من العتاد العسكري والثراء الاقتصادي واستعمالهما بالتهديد، او بالعقوبات أو الاستمالة بالمساعدات. فأن "تمتلك قوة ناعمة يعني أن تجعل الآخرين يعجبون بك ويتطلعون إلى ما تقوم به فيتخذون موقفًا إيجابيًا من قِيَمك وأفكارك وبالتالي تتفق رغبتهم مع رغبتك".

ويشير المؤلف، الى وسائل واشكال عديدة من هذه القوة  الجديدة، بدءاً من سلسلة مطاعم "ماكدونالدز"، ومروراً بـ "هوليود"، وليس انتهاءً بمقاعد الدراسة الجامعية للطلبة من المسلمين في امريكا.. وغيرها كثير من شأنها – حسب القوة الناعمة- أن تخترق الصفوف وتصل الى عمق الواقع الاسلامي، وتشيد صروحاً جديدة على انقاض ما هدمته الجماعات التكفيرية والدموية، مادياً ومعنوياً. وهذا ربما يكتب له النجاح، اذا غاب عن الساحة  الفكر الشيعي المتصل بجذور الحضارة الاسلامية التي شيّدها وأرسى دعائمها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وسار على أثرها أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من بعده عليهم السلام.

لقد فشلت الجماعات التكفيرية والطائفية ومن يقف خلفها، وبشكل ذريع، في جرّ الشيعة في العالم الى ساحة  الارهاب  الطائفي، والتعامل بالمثل، فقد بقي القتل والسحل والتمثيل بالجثث وتشريد الابرياء، من اختصاص تلكم الجماعات، لا غيرها، وهذا ما ثبت وتأكد للعالم الغربي، وللعالم بأسره، بمعنى أن العالم ينتظر النموذج الآخر للإسلام الذي يحمل بشائر السلم والتعايش والاستقرار، ليس في منطقتنا الملتهبة وحسب، إنما لجميع انحاء العالم.   

اذا اردنا استشراف آفاق "القوة الناعمة" للتشيع في المستقبل، علينا تسليط الضوء على أهم مميزات الفكر الشيعي عن الآخر – إن كان له فكر طبعاً- :

أولاً: البناء والإصلاح.. بينما نلاحظ الهدم في مقومات حياة الانسان وتحريف مبادئه وقيمه وحتى انسانيته. لنطالع المشاهد المريعة في سوريا، وقبلها في افغانستان وبلاد اخرى. في المقابل يلاحظ العالم، الاعداد المتزايدة للعلماء والمبدعين والباحثين من  الشيعة في العالم، لاسيما المغتربين والهاربين من جحيم الحروب والسياسات القمعية للأنظمة الجائرة. كل هؤلاء اليوم يعدون عوامل بناء وتقدم في البلاد الغربية، باعتراف وإقرار العديد من الباحثين والمراقبين الغربيين، سواء في اوربا او الولايات المتحدة وكندا.

ثانياً: السلم.. انه الخيار الاستراتيجي في الفكر الشيعي، ليس الآن، إنما منذ فجر الاسلام، وهو ما جعل يُسقط في أيدي الاعداء والمناوئين والمعارضين، ويدفع الشعوب لأن تعلن براءتها من الحرب والكراهية والعداء، ولو بعد حين، ويذعنون للدين  الحق، الذي يضمن لهم السلام والاستقرار. فلا مثال واحد، او حالة واحدة في التاريخ، ثبت أن الشيعة بدأوا الحرب والمواجهة العنيفة مع أعدائهم، وإن كانت ثمة مواجهة، فهي للدفاع عن النفس في أقصى الحالات، مع الاخذ بعين الاعتبار الحيطة والحذر من انعكاس آثار المواجهة العسكرية على البنية التحتية للمجتمع والدولة، وعلى الوضع النفسي والاقتصادي والاجتماعي. فلا دروع بشرية، ولا الاحتماء بالمباني او المزارع وغابات الاشجار المثمرة.

ثالثاً: التعايش السلمي.. وأبرز دليل على هذه النقطة، الوجود الشيعي في العالم الغربي، بل في جميع انحاء العالم، وما يتركه من آثار طيبة على النفوس، رغم التفاوت والاختلاف في العقيدة والسلوك. حتى الطقوس الدينية، مثل مراسيم إحياء ذكرى عاشوراء الامام الحسين عليه السلام، نجد انها مفتوحة للمشاركة العامة، سواء من المسيحيين أو اليهود او البوذيين، او سائر المذاهب والاديان. وهذا ما جعل قوة الانجذاب الى التشيع تزداد يوماً بعد آخر في العالم، بما لا يحظى به أي مذهب او دين آخر.

هذه الميزات بحاجة الى صقل وإثراء من لدن المعنيين بأمر الفكر والثقافة في الساحة الاسلامية، لاسيما من رجال الحوزة العلمية والخطباء والكتاب واصحاب الرساميل، بأن يتوجهوا في صفٍ واحد في تحكيم وتكريس هذه المميزات في الواقع العملي ، وإخراجه من الحيّز النظري، لذا يطالب المرجع الشيرازي في كلمته بتفعيل الإعلام المرأي، كونه الوسيلة الأكثر تأثيراً على العقول والاذهان، والاكثر انتشاراً، ونوّه الى وجود عدد من الفضائيات الشيعية، لكنه استدرك بالقول: "انها غير كافية"، فهناك المئات من القنوات الفضائية التي تضخ يومياً وعلى مدى الساعة، الافكار المحرّفة والمغالطات والحقائق المشوهة. وليس أدلّ على فضائيات دعمت ووقفت بقوة خلف الجماعات التكفيرية والدموية في العراق وسوريا، في مقدمتها "الجزيرة"، وها هي تنظر بأم عينيها كيف أن خيار العنف والدموية يتراجع أمام خيار السلم والبناء والحوار. فذهبت ملايين الدولارات التي انفقتها على تقارير من وسط الجماعات الارهابية وسوح القتال لعناصر "القاعدة" في العراق، و"جيش النصرة" في سوريا وقبل ذلك في افغانستان، أدراج الرياح. لذا يدعو سماحة المرجع – دام ظله- الى المزيد من العطاء والدعم لافتتاح قنوات فضائية جديدة، وتقوية ما موجود بالكفاءات والامكانيات المادية والمعنوية والفكرية، لتكون البديل الأحسن والأنصع للإسلام في العالم.

من هنا نفهم؛ أن الخطاب الاعلامي الملتزم بالقيم والمبادئ، ليس فكرة واقتراح، إنما هو استحقاق أكيد، ومسؤولية حضارية ودينية على أرض الواقع.. فمشاهد السحل والقتل والإبادة الجماعية ضد الشيعة التي يستنكرها المرجع الشيرازي وسائر مراجع الدين، هي بالحقيقة نتاج الفراغ الفكري والثقافي الذي يخلفه الاعلام وسائر وسائل النشر لنقل الحق والحقيقة الى العالم، لاسيما العالم الاسلامي، ليتبين من هو على هدى، ومن هو في ضلال مبين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 9/تموز/2013 - 29/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م