التركمان الشيعة... نار الارهاب تدفعهم نحو الطائفية

محمد علي جواد تقي

س 

شبكة النبأ: تجمّع الآلاف من أهالي "طوزخورماتو" على الطريق الرئيسي العام بين كركوك والعاصمة بغداد، ونصبوا الخيام لإعلان اعتصام مفتوح احتجاجاً على التسيّب الأمني الذي يدفعون ثمنه بدمائهم في مناطق عديدة يسكنها التركمان في مدينة كركوك ومدن وقرى أخرى في العراق.. هذا الطفح الغاضب في الكيل، جاء بعد احصائية تؤكد سقوط (500) شهيد واصابة الآلاف بجروح وتعرض (40) ألف تركماني للهجرة من مناطقهم، خلال عام ونصف. ثم جاءت سلسلة من التفجيرات الغادرة بسيارات مفخخة وعبوان ناسفة، خلال شهر ايار الماضي، منها استهداف مقهى شعبي في حي "أقصو" وسط قضاء "طوزخورماتو" بسيارة مفخخة، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن ثلاثة أشخاص وإصابة (26) آخرين بجروح، وفي الشهر نفسه، استشهد ثلاثة اشخاص بينهم ضابط شرطة برتبة نقيب، وجرح (53) مدنياً بينهم خمسة أطفال وعدد من النساء، بتفجير مزدوج بسيارتين مفخختين قرب حسينية وسط القضاء، فيما استشهد ستة مدنيين واصيب (67) آخرين بانفجار ثلاث سيارات مفخخة في منطقة "امام احمد" و "براوسلي" وسط القضاء.

كل هذه التضحيات التي قدمها التركمان على مذبح الديمقراطية والاجراءات الأمنية التي يتحدث عنها المسؤولون في بغداد، كانت دافعاً لذلك الاعتصام، ومختصر مطالبهم كانت؛ تعزيز القوات الأمنية في القضاء، وتشكيل صحوات من التركمان لحماية مناطقهم. لكن كان خافياً على التركمان، أنهم على موعد آخر مع الارهاب التكفيري والدموي في خيام الاعتصام، حيث اقتحم هذه الخيام اثنان من الانتحاريين وفجّرا انفسهما وسط جموع المحتجين الابرياء والعزّل، فكانت المجزرة المريعة والمنظر الدموي الذي يدعو ليس للأسى والأسف، إنما الى مزيد من التساؤل والتأمل.

إن بحثنا عن المسؤول عن أمن وحياة التركمان؛ هذه الأقلية المضطهدة والمقهورة في العراق، فان أول اجراء حكومي من بغداد، تمثل بتشكيل لجنة برئاسة نائب رئيس الوزراء نوري المالكي لشؤون الطاقة حسين الشهرستاني، للبحث في الاوضاع الامنية في القضاء، أعقبه دخول فوجان من قوات الشرطة الاتحادية ومن قوات "سوات" في محاولة منهم لتحكيم الأمن في القضاء. وفي الاجتماع الذي عقده الشهرستاني مع المسؤولين المحليين في القضاء، تم الاتفاق على استقدام قوة خاصة من محافظة ديالى لحماية التركمان في القضاء، وتشكيل فوج طوارئ يكون نصف منتسبيه من التركمان.. هذه الفكرة لم ترق للحاضرين من الكرد والعرب من محافظة "صلاح الدين"، فاعربوا عن اعتراضهم وامتعاضهم، ثم غادروا غرفة الاجتماع أمام مبعوث المالكي..!

عندما يكون التركمان أمام هكذا مشهد أمني وسياسي ينتهي كله عند استباحة دمائهم وانتهاك حرماتهم وحقوقهم، لن يستبعد المراقبين من أن تشهد الساحة التركمانية – كما حصل مع الساحة الكردية من قبل- تعبئة قومية وطائفية من اطراف داخلية وخارجية، مما يزيد من التمزق الاجتماعي الذي يعاني منه العراق اساساً، لكن لماذا يجب أن يتعرض التركمان لاسيما الشيعة منهم، ضحية طموحات الهيمنة والنفوذ لدى الكرد والعرب، من جهة، وطموحات التكفير والتدمير من الجماعات الارهابية من جهة اخرى؟

الدلائل تشير الى التركمان الشيعة يتعرضون في هذه المرحلة لحملة منظمة للإبادة الجماعية، أو لتشتيت الشمل في المناطق التي يسكنونها، سواء في قضاء طوزخورماتو ومدينة كركوك، أن المدن والمناطق الاخرى في الموصل وديالى، ومناطق اخرى في العراق.

 معروفٌ عن التركمان الشيعة تمسكهم وايمانهم العميق بأهل البيت عليهم السلام، منذ أمد بعيد، ومع جسور العلاقة الوطيدة بينهم وبين المرجعية الدينية في العراق، فقد انضم عدد كبير من الشباب التركمان في الحوزات العلمية، وتخرج منهم العلماء والخطباء، وهذا ما جعلهم ينضمون الى مسيرة الرفض والمعارضة لكل إنحراف وظلم وطغيان خلال نظام صدام المقبور، قدموا خلالها العديد من الشهداء في أقبية السجون وسوح الاعدامات.

ويعيش التركمان الشيعة في المحافظات الثلاث: الموصل وكركوك وديالى.. ومن الأقضية الكبيرة في الموصل، قضاء تلعفر، الذي يبعد عن الموصل 70 كيلومتراً، يسكنه 90 بالمئة من الشيعة، وفي اطراف الموصل هناك أحياء شيعية للتركمان، تضم حسينيات ومساجد ومراكز دينية، وحسب الاحصائيات فان حوالي (70) قرية شيعية تنتشر حول مدينة الموصل، اضافة الى (50) قرية للشيعة المعروفين بـ "الشبك".

أما في كركوك، فقد كان الشيعة يقطنون في أقضية ومناطق اقتطعت من المحافظة بأمر النظام البعثي البائد عام 1976، فقد كانت تتبعها ست أقضية و(23) ناحية، ومن أهم ما اقتطعوه، قضاء طوزخورماتو، والحاقها بمحافظة "صلاح الدين". وهي تبعد عن كركوك (90) كيلومتراً، وتعد هذه المدينة من الاقضية التركمانية الشيعية الكبيرة في العراق.

كما في داخل مدينة كركوك أحياء شيعية منها: "قصابخانه"، وفيها حسينية كبيرة باسم "حسينية الامام علي" عليه السلام، وفي وسط كركوك، هنالك "حسينية الشيخ خزعل التميمي" في شارع "أطلس" حيث كانت مقراً للمرحوم اية الله السيد محمد باقر البادكوبي، وكان وكيلاً عن المرجع الراحل السيد الخوئي - قدس سره-.

وفي محافظة كركوك هنالك أقضية ونواحي عديدة تقطنها الغالبية الشيعية، منها منطقة "تسعين"، التي تبعد عن المدينة (5) كيلومتر الى الجنوب الغربي منها، واندمجت فيها نتيجة التوسع العمراني للمدينة. وكانت تعتبر من اكبر الاحياء السكنية وأقدمها وجميع سكانها من الشيعة التركمان، وعلى بعد (15) كيلومتر ايضاً، هنالك ناحية "تازه" على طريق بغداد جنوبا. وعلى بعد (20) كيلومتر شرقاً، هنالك ناحية "ليلان"، وغالبية سكانها من التركمان الشيعة، و يعيش في الناحية، الشيعة والسنة معاً في أجواء ودّية وأخوية. وقرية بشير التي تبعد (8) كيلومتر جنوب ناحية تازة، وناحية "داقوق"، وهي مدينة قديمة جداً تسمى في الكتب التاريخية "داقوقا"، وبالتركمانية "طاووق"، تبعد عن كركوك (40) كيلومتر جنوباً، و "قره تبه"، وتعني بالعربية (التل الاسود)، وتبعد عن كركوك (120) كيلومتر جنوباً، وعلى بعد (8) كيلومتر، من هذه المدينة يوجد مزار "ابراهيم السمين"، الذي يُعد من أولاد الامام موسى الكاظم، عليه السلام، كما هنالك مقام محمد بن الحنفية، وهي مقاصد يأمها الناس للزيارة والتوسل الى الله تعالى. وفي محافظة ديالى هناك مدينة "المقدادية" التي تبعد (50) كيلومتراً شمال بعقوبة. ومدينة مندلي التي تبعد تبعد (85) كيلومتراً عن مركز المحافظة، وهي مدينة قديمة جدا يرجع تاريخ بنائها الى القرن السادس قبل الميلاد.

ومن الملاحظات المهمة والبارزة في أمر الشيعة التركمان في العراق، أن التصنيف الطائفي، بعد لم يصل الى حد التمييز والتفضيل، كما هو لدى العرب، بمعنى أن الطابع القومي هو الذي وفّر لهم كل هذه المدة أجواء الود والوئام والتعايش السلمي والتكافل الاجتماعي. وحسب دراسة أعدتها الكاتبة "نادية الصالحي" فان "لا فروقات بين التركمان السنة والشيعة في المناطق التي يسكنونها في المحافظات الثلاث، وهناك ومناسبات مشتركة يحضرها التركمان جميعاً في عدد من المناطق مثل مدينة "تسعين"، نفس الوضع موجود في المدن والقرى الاخرى على طول خط تواجد التركمان من تلعفر إلى خانقين". وتضيف: "سكان كركوك الشيعة والسنة متساوون عددياً في المناطق التركمانية".

المراقبون والمتابعون للشأن التركماني في العراق، يعدون هذه الميزة الاجتماعية الايجابية، فرصة كبيرة للحكومة العراقية لأن تنطلق منها لتعزيز الأمن والاستقرار في مناطق التركمان، وتذكير المعترضين والمتخوفين من ظهور الطابع القومي، بأن التعبئة الطائفية لها مخاطر أعمق وأكبر من التعبئة القومية. ثم لا ننسى التدخلات الخارجية التي ترى في الاصطفاف الطائفي خير ثغرة تنفذ من خلالها لتحقيق مصالحها، وأول دليل على ذلك تفاعل رئيس الجمهورية التركي عبد الله كل، مع حادث استشهاد نائب رئيس الجبهة التركمانية علي هاشم مختار اوغلو، الذي كان ضمن ضحايا حادث التفجير الانتحاري في قضاء طوزخورماتو. وقد عزّا كل التركمان في العراق بهذا المصاب.. وبعض النظر عن الجانب الانساني الظاهري، إلا ان التجيير الطائفي لن يغيب عن الرؤية التركية للاحداث في المنطقة مهما كان، بعد تبنيها مواقفاً عدائية للشيعة والتشيع.

من هنا يعتقد المراقبون أن التركمان بشكل عام، والشيعة بشكل خاص، أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الارتماء في أحضان الطائفية السياسية، كما حصل للعرب السنة، ويفتحوا نافذة ازمة متفجرة جديدة في العراق، أو تحتضنهم الحكومة والدولة العراقية، كونهم أحد المكونات الرئيسية للمجتمع العراقي، ولهم اسهامات وأدوار كبيرة في الماضي، وفي المستقبل لنهوض العراق وتطوره واستقراره.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 3/تموز/2013 - 23/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م