"الانتقال السلس" وسخرية التاريخ

عريب الرنتاوي

 

لطالما احتلت قطر صدارة العناوين ونشرات الأخبار، بوصفها "فاعلاً" رئيساً في العديد من أزمات دول المنطقة، و"مُتدخلاً" نشطاً في شؤونها الداخلية، بما في ذلك صراعات القصور والوراثة والخلافة.. هذه المرة تعاود الإمارة الخليجية الصغيرة، تصدر قائمة العناوين ونشرات الأخبار، ولكن بصفتها "مفعولاً به"، كما تشير لذلك تقارير غربية إعلامية وتسريبات مخابراتية.

الرواية الأكثر شيوعاً، ومصدرها الإعلام والخبراء الغربيين، لم تشتر حكاية "الانتقال السلس" للسلطة من الأب لابنه.. وعزت التغيير إلى ضغوط أمريكية، نقلها مسؤول في "السي آي إيه"، طلبت إلى حاكم قطر تسليم مفاتيح السلطة ومقاليدها إلى نجله الرابع من زوجاته الثلاث، والثاني من زوجته موزة.. ووفقاً لهذه التقارير فقد كانت الرسالة الأمريكية "آمرة"، لم تنته بالتمنيات المعتادة، ولم يكتف مرسلها بإسداء النصح والمشورة، بل بعبارة و"إلا"؟!.

لماذا تفعل الولايات المتحدة ذلك؟.. بم أزعجها الأمير المُعتل صحياً كما تقول التقارير، ولقد كان الرجل شديد المهارة في ضبط سلوكه وسياساته على إيقاعات المصالح والاستراتيجيات الأمريكية؟.. وأين تريد الولايات المتحدة لقطر أن تذهب بعد رحيل أميرها وانزوائه في ثنايا التقاعد المبكر والمريح؟.. هل تريد دوراً دوراً قطرياً أكثر حيوية وشراسة في قتال النظام السوري بعد أن حسمت أمرها بضرورة تسليح المعارضة السورية؟.. وهل قصّر الأمير عن القيام بهذا الدور، لتطلب استبداله بولي عهده؟.. ألم يكفها أن قطر أنفقت أزيد من 3.5 مليار دولار في مشروعها لإسقاط النظام السوري بأي ثمن؟.. كم تريد واشنطن لقطر أن تنفق في حرب سوريا العبثية والدامية؟.

هناك من يرى الصورة من "المقلب الآخر"، فيقترح تفسيراً مغايراً للموقف الأمريكي، كأن يُقال مثلاً، بأن واشنطن تريد لـ"جنيف 2" أن يرى النور، وأنها باتت تتحدث عن "استعادة التوازن" في سوريا وليس "قلب الموازين" فوق رأس الدكتور بشار الأسد، وأنها غدت على قناعة بوجوب حفظ الجيش والأجهزة، لمنع انهيار سوريا، وتحوّلاها إلى ملاذات آمنة، لجميع الفصائل والتيارات والمجاميع التي تكرهها وتناصبها العداء، من حزب الله حتى قادة أيمن الظواهري.. مثل هذه "النقلة" في الموقف الأمريكي، تستدعي كما تقترح هذه القراءة، خروج حمد والإتيان بتميم، فالأول وضع ثقله وماله وسمعته ومستقبله الشخصي في معركة إسقاط الأسد، ولن يهنأ له بال أن وُضِع قطار "جنيف 2" على سكته؟.

نحن لا نعرف في أية وجهة ستسير قطر.. هناك تأكيدات بأن تغييراً لن يطرأ على سياسة الدوحة، وحجة أصحابها ومطلقيها أن ولي العهد كان شريكاً في صنع كل السياسات والاستراتيجيات والقرارات الكبرى التي اتخذها أباه وذراعه الأيمن (حمد بن جاسم).. لكن دلوني على تجربة واحدة، انتقل فيها الحكم بالوراثة، وخرج علينا من يقول "أنا لن أعيش في جلباب أبي".. الجميع يتحدث عن "الاستمرارية" حتى وهم يبلغون ذروة القطع والانقطاع مع / وعن تجربة آبائهم وأجدادهم.. وبمقدور الأمير الجديد أن يزعم، بأنه ليس مسؤولاً عن سياسات أبيه، حتى وإن كان شريكاً فيها، سيما وان الرجل كان بعيداً (نسبياً) عن الأضواء، ما يؤهله للحديث عن "صفحة جديدة" و"بداية جديدة" إن هو شاء، وشاءت له العواصم المؤثرة في صياغة القرار القطري، إقليمياً ودولياً.

بعض القراءات، يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى خارج حدود إمارة النفط والغاز والجزيرة والعديد (دع عنك الشيخ والمفكر العربي)، وترى أن واشنطن بدأت تضيق ذرعاً بقيادات بعض دول الخليج الشائخة، وهي قررت أن تجعل من قطر "مختبراً" لانتقال السلطة من جيل الآباء إلى جيل الأبناء، علّها بذلك تساعد في إنقاذ بعض دول الخليج النافذة، من شيخوخة سياساتها وقيادتها الممتدة منذ سنوات وعقود، وأن الدور سيأتي بعد الدوحة، على عدد من عواصم الخليج الأكثر نفوذاً (والرواية على ذمة الراوي).

لا شك أن هناك جملة من العوامل التي جعلت التغيير في قطر ممكناً.. من بينها الحالة الصحية الصعبة للأمير الذي يعيش منذ زمن بكلية واحدة مزروعة من "متبرع" قريب.. وهناك من كشف عن صراع على السلطة بين ولي العهد وأمه من جهة، ورئيس الحكومة، وزير الخارجية من جهة ثانية.. وهناك من يقول أن ثمة من يتطلع لولاية العهد والإمارة بوصفه الأحق بهما، بالمعنى التراتبي في سلسلة الوراثة والتوريث.. وفي ظني أن جميع هذه العوامل قد فعلت فعلها، وإن بأقدار متفاوتة.

علينا أن نرقب سلوك الأمير الجديد داخليا وخارجياً.. نريد أن نرى كيف سيُسدل الستار على تجربة حمد بن جاسم، فهي مثيرة للاهتمام.. علينا أن نرقب السلوك القطري حيال أزمات المنطقة المتفجرة، وكيف ستتطور تحالفات الدوحة، مواقعها ومواقفها.. هذا أمر أكثر أهمية بلا شك.. إن ظل الحال على حاله، فلن يعنينا أمر التغيير في شيء، وسننظر إليه بوصفه شأناً عائلياً (Family Business)، أما إن تغيرت المواقف والسياسات والتحالفات، فحينها سيكون بمقدورنا أن نبني على الشيء مقتضاه.. لكننا لن نستطيع أن نمنع أنفسنا، ونحن نتتبع أخبار حمد وأردوغان ومرسي، وهم الثلاثة الأكثر حماسة لرحيل الأسد أو ترحيله، من التوقف عند واحدة من أهم مفارقات التاريخ وأكثرها إثارة للسخرية: كيف بدأ هؤلاء الثلاثة يخلون مواقعهم حتى قبل تطرق الفكرة رأس عدوهم المشترك: بشار الأسد.. الأول بالتقاعد المبكر، والثاني بفقدانه الأمل برئاسة كاملة الدسم والصلاحية بعد أحداث "تقسيم"، أما الثالث فدعونا ننتظر ما الذي سيحل به بعد الثلاثين من يونيو.. وإن غداً لناظره قريب.

* مركز القدس للدراسات السياسية

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/areebalrantawi.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27/حزيران/2013 - 17/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م