حكومة الخدمات من واقع الاسلام

قبسات من أفكار المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عندما يكون الإسلام، رسالة إنقاذ للإنسانية من الجهل والانحراف والدمار، وسيادة القيم والمفاهيم والمبادئ في الحياة، فهو ايضاً مشروع خدمة كبيرة للإنسان بما يكرّس تلكم الاهداف السامية، حيث تكتمل دورة السعادة لدى الانسان، وإلا لو لنفترض أن الاسلام فقط أحكام وقوانين وتوصيات أخلاقية، من دون مشروع عملي على الأرض يمهد الطريق لتحقيق ذلك، هل كان الإنسان يرى من نور الإسلام شيء...؟

واذا سلطنا الضوء قليلاً على الآية الكريمة المتعلقة بشخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، نجد الإجابة الشافية على هذا السؤال، فالرحمة مهداة من الله تعالى على يد رسوله ونبيه الكريم، دون مقابل، حتى يعرف الإنسان – المسلم- أن بإمكانه استبدال القسوة والعنف بالرحمة والسماحة، وهكذا سائر القيم الاخرى التي تُعد سلماً لارتقاء مراحل التقدم والتطور في الحياة.

وقد تمثل هذا في أول نظام حكم تشكل في الإسلام على يد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، كما حصل الشيء نفسه تماماً في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام، حيث بين النبي للمسلمين في المدينة المنورة، كما هي رسالته الى العالم والاجيال على مر الزمن، إن حكومة الدين، هي بالدرجة الاولى، حكومة الخدمات للناس، وليس العكس، بأن يكون الشعب خادماً للحكومة، كما كانت الحكومات والأنظمة السياسية الحاكمة في البلاد الاخرى قبل بزوغ فجر الإسلام. الى هذا يشير سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – دام ظله- في كتابه القيّم "السياسة من واقع الاسلام"، إذ يقول سماحته في تمهيده للكتاب:

 "أنّ السياسة الإسلامية تباين السياسة العالمية ـ اليوم ـ وتختلف عنها في أصولها وفروعها، فالسياسة الإسلامية هي غير السياسة المعاصرة التي تمارسها الدول تماماً، وذلك: لأن الإسلام يتبع في سياسته مزيجاً من: الإدارة والعدل، والحب الشامل، وحفظ كرامة الإنسان، وحقن الدماء. فهو يسعى في أن لا تراق قطرة دم بغير حق، أو تهان كرامة شخص واحد جوراً، أو يظلم إنسان واحد.. بل وحتى حيوان واحد. أما السياسة ـ بمفهومها المعاصر ـ فهي القدرة على إدارة دفّة الحكم وتسيير الناس والأخذ بالزمام مهما كلّفت هذه الأمور من: إهدار كرامات، وإراقة دماء، وكبت حريات، وابتزاز أموال، وظلم وإجحاف، ونحو ذلك، فمادام الحكم لـلحاكم والسلطة خاضعة لأمره ونهيه فهي الغاية المطلوبة لتبرر الوسيلة.. ".

يقول أحد المفكرين الإسلاميين أن في بلاد فارس خلال القرون المظلمة التي عاشها الناس، كان معبد النار الكبير الذي يمثل الديانة المجوسية، يكلف المزارعين ثمانين بالمئة من وارادتهم السنوية، إذ كان يتوجب عليهم تسديد أجور وتكاليف الإبقاء على شعلة النار هذه متوهجة طيلة السنة، مع تكاليف الامور الجانبية والخدمية للعاملين في "المحرقة"..!!

أما في حكم الإسلام الحقيقي والصادق، نرى الخدمة الجليّة للانسان، وفي أهم مسألة حياتية له، ألا وهي التعليم، فقد جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ثمن حرية الأسير الكافر لديه، تعليم القراءة والكتابة للمسلمين. وهذا بالطبع؛ قبل أن يعضده النبي صلى الله عليه وآله، بأحاديث شريفة عديدة حول ضرورة التعليم وأهميته: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، و"أطلب العلم من المهد الى اللحد". فالرسول الأكرم يدل الإنسان المسلم الذي يعيش في ظل حكومة اسلامية على مكانة العلم، إن سأل عنها وكيف تكون..؟ وكذلك الحال بالنسبة لسائر الأمور، مثل فرص العمل.. حيث جاءه صلى الله عليه وآله، رجل فقير يستعطي، فأشار اليه بالعمل والكد لكسب المال، فقال الرجل: لا مال عندي..! فأعطاه الرسول بيده الكريمة درهماً واحداً فقط، وقال له: انطلق واعمل به، فذهب الرجل واشترى كمية من الحليب وصنع منه لبناً وباعه فحصل على درهمين، ثم اشترى كمية أكبر من الحليب فاصبح لديه كمية اكبر من اللبن، وعندما كثر تواجده على السوق، ازداد مردوده المالي وكسب الكثير من المال..

هذا مثالٌ بسيط واحد، من عشرات ومئات الأمثلة في تاريخ صدر الإسلام، حيث كانت الحكومة تكرس القيم والمفاهيم وتنشر الأحكام في وقت يعيش الناس الرفاهية والهناء والاستقرار النفسي والمعيشي، إذ لا مشاكل ولا أزمات، وإن كانت فهي مع الكفار والمشركين والمنافقين، ومن هم خارج البيت الإسلامي.

 أما نلاحظ العجب العجاب – للأسف- فالادعاء بالدين وقوانينه وتشريعاته أكبر وأكثر بكثير من حالة بسيطة يوفرها الأدعياء، يتمكن الانسان المسلم من خلالها تطبيق تلكم القوانين والتشريعات، والمثير أن الحكام – بشكل عام – في بلادنا يدّعون دائماً أن قوانينهم وأحكامهم هي من صميم حاجة الناس ولتحقيق مصلحتهم، إلا ان الواقع على الأرض يؤكد العكس، فليس فقط لا يجدون ما ينفعهم ويحقق طموحاتهم، إنما يصطدمون بالتمييز والمحاباة والفساد، وحتى الظلم الفاحش.

هذه القصة المعروفة يذكرها سماحة المرجع الشيرازي – دام ظله- في كتابه، وقد جاءت في كتاب "وسائل الشيعة" للشيخ الحر العاملي، وهي أن الإمام علي عليه السلام، وفي عهده السياسي، كان يسير في إحدى طرقات الكوفة، فرأى رجلاً يستعطي الناس، فوجه سؤاله قائلاً: "ما هذا..."؟! ولم يقل عليه السلام، من هذا، في إشارة الى إنسان جالس، فهو يستفهم من حوله، الظاهرة الشاذة والغريبة التي يراها أمامه..

فقالوا: إنه نصراني.. كبر وشاخ ولم يقدر على العمل، وليس له معاش، فبات يكتنف الناس..!

فقال الإمام عليه السلام في غضب: "استعملتموه على شبابه، حتى اذا كبر تركتموه..."!

ثم أمر عليه السلام، لذلك النصراني – وليس المسلم- من بيت المال راتباً شهرياً يسد به حاجته حتى يأتيه الموت..

وفي مجال الطب نرى العجب والتفاوت الكبير والمؤسف بين ما كان عندنا في حكومة الإسلام الأولى، وما هو سائد في "حكومة الإسلام" في الوقت الحاضر.. حيث يشير سماحة المرجع الشيرازي – دام ظله- الى مسألة ضمان الطبيب إن أخطأ، وليس فقط تقديم خدمة الطبابة للناس وحسب.. يذكر سماحة المرجع الشيرازي في "السياسة من واقع الاسلام"، رواية من "وسائل الشيعة"، أن المريض إنساناً كان أو حيواناً، اذا تعرض للخطأ الطبي على يد الطبيب، أو توفي بسبب الخطأ كان مضموناً من قبل الحكومة في عهد أمير المؤمنين عليه السلام.

وعندما يسمع البعض عن هكذا منجزات حضارية باهرة في الإسلام، سيتذرع بعدم وجودها في الوقت الحاضر، بان حاجات الناس لم تكن بالكثرة والتشعب الذي عليه اليوم، كما ليست حكومات اليوم بالقدرة المالية الوفيرة التي كانت عليها الدولة الاسلامية في العهود الاولى، حيث كان الذهب يُكسر بالفؤوس ويوزع على الناس.

لكن هذه الحجة لا تصمد امام حقائق على أرض الواقع، فإنسان اليوم الذي يطالب بالترفيه الذهني والنفسي من خلال متنزهات ومرافق سياحية وأندية ومراكز رياضية وثقافية وفنية، الى جانب الخدمات الأساس، مثل التعليم والصحة والأمن، فقد تفتقت العقول وتفجرت الطاقات والقدرات عن ابداعات عظيمة ورائعة في العصر الحاضر، وبات الانسان مفكراً ومبدعاً ومنتجاً، وليس فقط مستهلكاً، مما يمكن القول معه بكل ثقة واعتداد، ان الخدمات مهما كانت وكبرت فانها لا ترقى الى مستوى انسان اليوم، ولعل هذا يفسر الاهتمام البالغ والمتزايد بهذا القطاع في بلاد الغرب.

والامر الآخر الذي يجب ان يتذكره دائماً المتنصّلون والمقصرون في هذا الجانب، هو حجم الثروات الهائلة المكتشفة في الوقت الحاضر، بما لم تشهد له البشرية خلال وجودها على البسيطة، وربما الاحصائيات تعجر عن تثبيت ارقام دقيقة لحجم الثروة الموجودة تحت تصرف الانسان منذ اكتشاف المعادن في البلاد الاسلامية على الاقل.. بينما نجد الخدمات تشكل عملة صعبة لا يحصل عليها الانسان المسلم إلا بشقّ الأنفس، فهي إن وجدت في بلاد غنية مثل البلاد الخليجية أو ايران، فانها بثمن باهض، حيث الضرائب تلهب ظهور المواطنين دون استثناء، حتى سمعت ذات مرة أن مواطناً ايرانياً شكا من أنه يتنقل بسيارة أجرة حكومية ويدفع ضرائب عالية لتعبيد شارع تسير عليه سيارة ثمنها بالملايين. وقسّ على ذلك..

أما الامثلة التي ينخفض فيها مستوى الخدمات مثل العراق، فنحن نشهد ان المواطن العراقي يدفع الكثير من أعصابه وماله وجهده ليحصل على بعض الخدمات الحكومية التي يرجى أن تكون متكاملة وصحيحة، ولا تلحق الضرر في بعض الاحيان بالناس، مثل مشاريع تعبيد الشوارع، او بعض المراكز الصحية أو التعليمية التي يكثر فيها الاخطاء الكبيرة.

ان الشعور بالمسؤولية إزاء البلد والشعب، وامتلاك الضمير الحيّ، هو المفتاح لدخول قلوب الناس وخدمتهم بالشكل الصحيح بما يضمن لهم الاستقرار النفسي، وامامنا فرصة "التجربة الديمقراطية"، التي نشهدها في بلادنا، وفي مقدمتها العراق.. لذا يشير سماحة المرجع الشيرازي الى هذه النقطة ويضغط على الحروف والكلمات علّها تشفع في انفراج قريب للوضع الخدمي في العراق وسائر البلاد..

ففي بيان له بمناسبة إجراء الانتخابات البرلمانية دعى سماحته الى ان تكون الانتخابات "خطوة للعراق الجريح والعراقيين المظلومين، لإسترداد أمنهم وسيادتهم وعزّهم ورفاههم. كما أؤكد على ضرورة الإهتمام بانتخاب الأفراد الصالحين الذين يكون همّهم الإسلام وخدمة العراق مركز أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم..".

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/حزيران/2013 - 10/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م