التوظيف السياسي لأفكار دارون في التطور

حاتم حميد محسن

 

مسار التطور

في عام 1957 استخدم البايولوجي جوليان هكسلي في مقالة له مصطلح "الانسانية العليا" او transhumanism أوضح فيه ما يتوجب على الانسان فعله لإيجاد بيئة افضل لنفسه، فهو يبقى انسانا ولكنه يسمو على ذاته. هو وصف الانسان كما لو انه "عُيّن فجأة كأكبر مدير تنفيذي لعملية التطور Evolution". هذا الإعلان ربما يتفق معه اليوم العديد من الايديولوجيين الدارونيين. وحسب قاموس ويبستر لعام 1983 جرى تعريف المصطلح المذكور بالانسان العملاق superhuman، اما اليوم فهو يعني التحول التطوري للكائن البشري من كونه انسان بايولوجي الى انسان متحد مع التكنلوجيا.

ان التطور لم يكن ابداً مجرد نظرية علمية. ومنذ ان صاغه دارون لأول مرة، جرى توظيف نظرية التطور لإيجاد مختلف المشاريع السياسية. "الدارونيون الاجتماعيون" المؤيدون لحرية الرأسمالية أعلنوا ان احلامهم السياسية لها جذورها في نظرية التطور. كذلك بالنسبة للنازيين والشيوعيين والفوضويين ومهندسو الفابية الاجتماعية.

اليوم، تُطرح الدارونية كجزء من حملة ضد الدين من جانب بعض دعاة التحرر. اما عقيدة هكسلي التي تكمن خلفها مختلف البرامج السياسية المرتبطة بالدارونية فهي ترى ان البشرية الآن في موقف التحكم بمستقبلها التطوري.

ان الانجاز الرئيسي في نظرية دارون هو ان التطور يعمل في غنى عن الهدف او التصميم. التطور هو عملية بلا اتجاه، تُنتج اشكالاً من الحياة شديدة التعقيد فقط لتختفي فيما بعد. ليس هناك تقدم في الطبيعة، ولكن في مجال الاخلاق والسياسة ارتبطت فكرة التطور بشكل او بآخر بأمل التحسن. اجيال من المفكرين التقدميين تبنّوا الدارونية لدعم رؤيتهم بمجتمع عالي التطور. غير ان محتوى هذه الرؤى قد تغير بمرور الزمن، وان احدى فضائل كتاب (الجين السياسي) هو بيان الكيفية التي اُستعملت فيها الدارونية لتعزيز احلام الانسان بالتقدم باعتباره انساناً غير متحرر، سلطوي، او عنصري.

وبالمقارنة مع (الكتاب الاسود للشيوعية) الذي نُشر في فرنسا في اواخر التسعينات من القرن الماضي، والذي يصف بالتفصيل فضائع الشيوعية، يذكر Dennis Sewell في كتابه (الجين السياسي: كيف غيرت افكار دارون السياسة ) ان "الكتاب الاسود للدارونية يحتوي على فضائع حقيقية". الجزء الاكبر من كتاب الجين السياسي يركز على الكيفية التي قاد بها كبار الدارونيون حملتهم لتحسين النسل.

 فمثلاً فرنسيس غالتون 1822-1911 وهو احد مؤسسي علم النفس الحديث، استعمل نظرية دارون لتدعيم تخصصه "كمشروع متفائل يعطي املاً طوباوياً"، خاصة في روايته غير المنشورة Kantsaywhere، التي تتحدث عن جمهورية طوباوية تحكمها احدى كليات تحسين النسل، حيث يتولى القائمون على الكلية وضع وادارة "اختبارات انثروبومترية" لقياس مدى لياقة البشر. ومع ان يوتوبيا غالتون تبدو كريهة وبعيدة عن الواقع السياسي للقرن العشرين، لكن افكار تحسين النسل التي دعا اليها غالتون اُخذت على محمل الجد، خاصة في الولايات المتحدة التي وافقت 33 ولاية فيها على قوانين منع الانجاب، وما لايقل عن 60 ألف شخص جرى اعاقتهم عن الانجاب باعتبارهم "غير لائقين".

في المانيا، كان ارنست هاكل (1919-1834) زعيم المناصرين للدارونية، وهو كما غالتون، سعى الى تعزيز فكرة الترتيب العنصري الهرمي. مؤكداً على ان" العرق الأدنى كان الأقرب سايكولوجيا الى الثدييات – القرود والكلاب- منه الى الاوربيين المتحضرين". كان هاكل يشكل ركناً هاماً في اضفاء الاحترام العلمي على عملية التصنيف العرقي. لا يمكن تأكيد المقدار الذي اُستعملت فيه افكار(هاكل) من جانب النازيين، ولكن مما لاشك فيه ان كتاباته كان لها اثر بعيد المدى كونها فتحت الباب واسعا امام علم عنصري زائف في اوربا.

بالتأكيد، ان نظريات دارون بصيغها المتعددة جرى توظيفها في الدفاع عن بعض القضايا الكريهة، وعندما رُبطت هذه مع النظريات العنصرية، خلقت مناخاً أصبح فيه بالإمكان قبول التطهير العرقي كسياسة يمكن تبريرها علمياً. وهنا يعلن المدافعون عن الدارونية في القرن الواحد والعشرين عن سخطهم ورفضهم للإساءات التي لم ترد وبأي شكل من الاشكال في نظرية الاختيار الطبيعي. هم يؤكدون ان دارون كتب بالفعل عن "الانسان المتحضر" الذي سيحل محل "الاجناس المتوحشة"، وهو لم يطور اي نظرية في التباين العنصري الفطري. واذا كانت الحركات العرقية تميل دائماً للعنصرية، فان نظريات النسل لا تحتاج منطقياً وبأي مقدار الى قبول العرق كصنف علمي. وبشكل أعم، لا يمكن لأحد تحميل النظرية مسؤولية ما يتبعها من استخدامات وذلك لأن الاحكام القيمية لا تصدر اوتوماتيكيا من الادعاءات التفسيرية لتلك النظرية.

هذه النقطة الاخيرة تأكدت من جانب مختلف الحركات التي ادّعت قربها من التفكير الداروني. ان كل من النازيين المناصرين "للعنصرية العلمية"، الشيوعيين الذين اعتقدوا بالمستقبل الجماعي للانسانية، الفوضويين المؤيدين لـ Peter Kropotkin في اعتقاده ان النظرية التطورية اثبتت اهمية التعاون المتبادل، دعاة حرية العمل مثل هربرت سبنسر(صاحب اختراع البقاء للاصلح) وكبار كهنة الهندسة الاجتماعية مثل Lord Beveridge المناصر القديم لتحسين النسل، جميعهم – كما يقول Sewell ليسوا على صواب. ربما من المنطقي الاستنتاج انهم كانوا على خطأ، لعدم امكانية اشتقاق اي موقف اخلاقي او سياسي من الدارونية.

غير ان الامور ليست بهذه البساطة. المبشرون المعاصرون بالدارونية يستمرون بالادعاء انها تدعم برنامجا سياسيا محددا وهو الصيغة المتشددة للعلمانية، وهي تهدف لتحويل الانسانية الى ما يعتبرونه رؤية علمية للعالم. غير انهم لم يفسروا منطقهم هذا ابداً. ان الظاهرة التي لها من الشمولية بمقدار ما لدى الدين يُحتمل ان يكون لها نفس الدور التطوري. وحتى لو كانت الاديان مضللة، فان نتيجة العلم الداروني هي ان الحيوان الانساني لا يستطيع العمل بدونها، وفي هذه الحالة، فان الدارونية ترى ان الالحادية التبشيرية هي عملية سخيفة وبلا معنى.

ان ما حدث بالفعل هو ان التطور جرى التعامل معه كدين. (غالتون) كان يأمل في يوم ما ان يكون للنسل سلطة الكنيسة. (هاكل) وضع مشروعه لكي يجد "ديناً تطورياً". اما (هكسلي) فقد اعتبر الانسانية العملاقة بديلا للدين.

ذكر لنا Sewell ان هذا ليس مجرد كتاب في الدين. بل انه يعالج التقاطع بين نظرية التطور والسياسة. طريقة (سيول) في معالجة الموضوع حرمتهُ من الدعاية الكبرى للعلم الاجتماعي التي كان فيها لفكرة التطور دوراً مركزيا. انظر في أعداد الكتب الهائلة المكدسة في رفوف مكتبات الجامعات جميعها تحتوي في عناوينها على "التطور الاجتماعي". ان فكرة المجتمعات "تتطور" بمرور الزمن، وان بعضها يصبح اكثر تطورا من الاخرى ظلت سائدة لعدة اجيال. مع ذلك هي ليست أكثر من استعارة مضللة. لا يوجد هناك شيء في المجتمع مشابه للاختيار الطبيعي، او اي شيء يمكن مقارنته بالجين. لقد سعى Sewell لتدقيق الاستخدامات السياسية الصريحة للدارونية، ووجد ان نظريات التطور الاجتماعي انما هي استراتيجيات لمنح القيم السائدة سلطة العلم. من الواضح دائما، ان المنظرين يفترضون مستقبلا مليئا بصيغ تحبها ذواتهم – الاعتقاد بمسيرة التقدم الى الامام.

في الواقع، لم يكن للتطور اي دور في التقدم، فالتقدم له مفاهيمه. ولكن الالتباس بين الاثنين كبير. هو يعبر عن الوهم الكبير في الزمن الحديث – اسطورة ان المعرفة العلمية تمكّن الكائن الانساني من السيطرة على مصيره. الدرس المستخلص من الدارونية هو ان الكائنات الحية ليس لها هدف جماعي. "الانسانية" ليست هي من يستعمل نتائج التحقيق العلمي. انما بعض الناس يستعمل العلم للسيطرة على الآخرين. ومن حسن الحظ، لا توجد جماعة سيطرت على البشرية بالكامل. ان رؤية هكسلي ستبقى مجرد حلم قبيح. مع ذلك لا نظن ان الاعجاب بهذه الفنتازيا سوف يتلاشى، لأنه يلبي الحاجة الى الايمان ويعطي في نفس الوقت الأمل المغري بالحكم.

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/hatimhameed.htm

.................................

كتاب Dennis Sewell

بعنوان: الجين السياسي:كيف غيرت افكار دارون السياسة

صدر عن Amazon في 5 نوفمبر 2010

 في 320 صفحة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/حزيران/2013 - 10/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م