روحاني... والرفسنجانية الجديدة

 

شبكة النبأ: انفرجت أسارير هاشمي رفسنجاني، وعمّت الفرحة والبهجة كوامنه وهو يرى تحقق حلمه بعودته ثانية الى الساحة السياسية، لكن هذه المرة، من خلال وجه جديد، وهو الشيخ حسن روحاني، أحد المقربين منه، والذي يُعد أحد خريجي "المدرسة الرفسنجانية" في ايران، ففي أول بيان له بعد الإعلان عن فوز روحاني في انتخابات رئاسة الجمهورية، استهل رفسنجاني بيانه ببيت من الشعر، في دلالة صارخة للشعور العميق بالارتياح والانبساط، مما جعله يلجأ الى الاسلوب الأدبي للتعبير عن مشاعره الجيّاشة والعارمة، و ربما يكون هذا الاختيار مقصوداً لمعرفته الدقيقة بالشخصية الايرانية المحبّة للشعر والأدب. استشهد ببيت من الشعر يقول ما معناه: بشرني هاتفٌ ذلك اليوم بحكومة تعبر عن الجور والجفاء والصبر والاستقامة.

لم يكن غريباً على أحد في ايران وخارجها، التفاعل الكبير الذي أبداه رفسنجاني بفوز روحاني رئيساً سابعاً للجمهورية الاسلامية في ايران، فقد شكر الكبار والصغار والرجال والنساء، وكل من شارك في الانتخابات، وساهم في هذا الفوز  الكبير، وقال في بيانه أن يتقاسم الفرحة والمناسبة السعيدة مع "الشعب الواعي بالمرحلة والفهيم.."، لان هذا الفوز الجديد يمثل عودة جديدة لـ"الرفسنجانية" في ايران.. ولمن يتابع الوضع الايراني عن كثب، يعلم بوجود محورين أساس: القيادة السياسية، والشعب.. ورغم الرؤية السائدة بوجود التقارب والعلاقة الوثيقة بين القيادة والشعب في ايران، كأحد موروثات الثورة الاسلامية – الجماهيرية. فان بوصلة الاحداث في ايران تدار، إما بواسطة إرادة الجماهير، المتشكلة من شرائح عديدة وفاعلة، مثل تجار السوق واصحاب الرساميل، وطلبة واساتذة الجامعة، والنقابات والاتحادات، وشريحة لابأس بها من المثقفين، وإما بإرادة القيادة المتمثلة برأس الهرم وهو قائد الثورة "السيد علي خامنئي"، ثم المؤسسات الحاكمة التي فُصلت دستورياً على مقاسات ايران، مثل "مجلس صيانة الدستور"، و "مجلس خبراء القيادة"،الى السلطة التشريعية – البرلمان- والسلطة القضائية، وهي ايضاً تتأثر برؤى ومواقف القائد، الذي يُعد المنصب الأول في  الدولة الايرانية – حسب الدستور- وفوق منصب رئيس الجمهورية.

هذه الخصوصية الاجتماعية والسياسية، هي التي جعلت رفسنجاني يكون "رجلاً لكل الفصول"، منذ الحدثين التاريخيين والفاصلين في تاريخ ايران المعاصر؛ توقف الحرب العراقية – الايرانية، عام 1988، و وفاة الامام الخميني عام 1989، ومّذ ذاك، حاول رفسنجاني استمالة الشعب الايراني وتضييق الفاصلة بينه وبين السلطة الحاكمة، نظراً للآثار العميقة التي تركتها حرب الثمان سنوات اجتماعياً واقتصادياً وحتى نفسياً على الموطن الايراني، جعلته يشعر أن الرئيس الحاكم في ايران عليه أن يثبت شهادة حسن سيرة وسلوك، قبل أن يزيد من الاضرار والاعباء على ما هم يتحملونه، وإلا فان معظم الخبراء الغربيين يعدون ايران في طليعة الدول النامية ذات الفرص الكبيرة للنمو والتقدم الاقتصادي والتقني، لما لها من موارد معدنية ثرية، وموارد بشرية كبيرة، ومساحات خصبة، ومصادر مياه، وشواطئ على المياه الدولية، فضلاً عن الموقع الاستراتيجي على الخارطة العالمية. كل ذلك يسقط على مذبح السياسة الخارجية، والعلاقات مع الدول الجوار، أو مع العالم الخارجي، ويمكن القول: أن المواطن الايراني ومنذ انتصار الثورة الاسلامية وحتى  الآن، ضحى برفاهيته وسعادته، من اجل تحقيق أجندة سياسية ومصالح خارج الحدود، كلفته التخلّف عن مسيرة التطور والتقدم ضمن الدول النامية – على الاقل- عقود من الزمن، وليس أدل على ذلك، التأثر الشديد للبنية الاقتصادية بالعقوبات التي فرضتها امريكا والغرب بسبب الملف النووي، فقد بانت الثغرات ونقاط الضعف للعيان، واتضح مدى حاجة الاقتصاد الايراني للمواد الأولية وقطع الغيار التي تستوردها من الغرب.

 لقد سعى رفسنجاني منذ أن وطأت قدماه مكتب رئاسة الجمهورية، أن يكون، أولاً: الشخصية الاولى في ايران، حيث كان "خامنئي" في أيامه الاولى في منصب القائد، والامر الثاني والأهم؛ ان يكون رجل المرحلة القادمة، وهي البناء والإعمار لما دمرته الحرب.. فكان له ذلك، وقد خدمته الظروف السياسية في الشرق الاوسط، كما خدمته الظروف الداخلية المتأزمة والمتفجرة، حيث صوّر نفسه للشعب الايراني بانه المنقذ وفارس الأحلام  الذي يحمله الى حيث الرفاهية والنعيم والسعادة، وحاول أن يكرس مفردة "البناء والإعمار" في كلمة مزدوجة باللغة الفارسية "سازندكي"، ثم انبرت وسائل الاعلام الموالية له لتصوغ مفردة جديدة تحولت فيما بعد الى كُنية  وصفة لازمته لفترة طويلة، وهي "سردار سازندكي"، أي بطل البناء والإعمار.. لكن الدورتين الرئاسيتين، لم تشفع له حتى يثبت امتيازاته على الأرض، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، فبدلاً من أن تكون فترة الثمان سنوات في الحكم (1989 – 1997)، رصيداً للتنمية الاقتصادية وتطوير الخدمات، شهدت ايران ارتفاعاً رهيباً في التضخم، وارتفاع نسبة البطالة، وما يؤكده ويؤشره معظم المراقبون في تلك الفترة، تعاظم طبقة الاثرياء واصحاب رؤوس الاموال، على حساب الطبقة الفقيرة وذات الدخل المحدود. وما زاد في الطين بلّة السياسات الخارجية لايران التي زادت من عزلتها عن العالم الخارجي، الامر الذي انعكس مباشرة على حياة المواطن الايراني، الذي بدأ بالبحث عن النموذج الآخر الاكثر قدرة على تحقيق تطلعاته واهدافه في العيش الكريم. بيد التململ الشعبي، لم يثن رفسنجاني عن طموحاته في السلطة، ففي الايام الاخيرة من ولايته الثانية، حرّك لجنة فرعية في مجلس الشورى لأن تقترح تعديلاً في الدستور يسمح لرفسنجاني بالترشيخ لولاية ثالثة، وهو ما جوبه برفض شديد، فكان الانسحاب بهدوء هو الخيار الأنسب.

 هذا النوع من الانسحاب، كان التجربة الاولى لرفسنجاني للقفز نحو السلطة، فقد حفّز وهيئ شخصية كانت مغمورة في تلك الفترة، وهو السيد محمد خاتمي، الذي كان يشغل منصب وزير الثقافة في حكومته، وبعد الاستقالة تحول أحد طاقم مستشاريه، وكانت الوثبة الجديدة، تحت عنوان "الإصلاحات" التي واكبها الشعب الايراني بشكل كبير ومنقطع النظير، حيث ظهر الى الناس بنفس الصورة التي ظهر فيها رفسنجاني بعد انتهاء حرب الثمان سنوات، فهناك كانت الحرب والدماء والدمار، وبعد ثمان سنوات، كانت الحرب الخفية التي ديرها المخابرات و الكارتلات الاقتصادية العملاقة المرتبطة بالدولة، فلا حرية رأي، ولا حرية عمل وانتاج وابداع، الى جانب البطالة والتضخم. وهنا تمكّن رفسنجاني من الخروج بسلام من مأزق السمعة السيئة لدى الشارع العام في ايران. لكن لم يدم عامين على دخول ايران مرحلة "الإصلاحات" تحت ظل حكومة خاتمي، وتحديداً في  عام 1999، أصيب رفسنجاني بنكسة غير متوقعة في الانتخابات البرلمانية، حيث تدحرج الى المرتبة الدنيا في سلّم عدد آراء المقترعين عن محافظة طهران، وهذا ما أشار اليه المراقبون على أنه يُعد حالة من اليقظة لدى الشعب الايراني لاسيما طبقة النخبة في المجتمع الطهراني، وهم صفوة المجتمع الايراني، حيث "البازار" الذي يُعد عصب الحياة الاقتصادية والتجارية في عموم ايران. وايضاً الجامعات والمؤسسات المهنية والنقابية، التي وجدت في نوايا رفسنجاني للعودة الى البرلمان ثانية، طموحاً جديداً نحو السلطة والتأثير على السلطة التشريعية لتمرير برامجه وأفكاره الاستراتيجية، ومن ثم إبعاد العقبات القانونية أمام حكومة خاتمي، وقد أثار المراقبين، وحتى الايرانيين، هذه الفشل الذريع لرفسنجاني في تجربة ديمقراطية تتم تحت ظل حكومة "الإصلاحيين"، حيث كان الجهاز الحاكم برمته، بما فيه وزارة الداخلية التي تشرف على عملية العد والفرز، هي من الإصلاحيين، وليست من الجانب الآخر المعروف بـ "المحافظين".

وفي الدورة التاسعة لانتخابات رئاسة الجمهورية في ايران، عام 2005 عاد رفسنجاني ليظهر أمام الشعب الايراني بأنه ما يزال ذلك المنقذ وفارس الاحلام من خلال توجهاته المعتدلة  في داخل وخارج ايران. والأكثر مقبولية لدى الغرب من سائر الشخصيات في ايران. وكان منافسه في هذه الملحمة الديمقراطية هو رجل شاب غير معروف على الساحة السياسية، يدعى محمود أحمدي نجاد، وهو وقد تم التعريف به كرجل المرحلة ويحمل طموحات للتجديد والتطوير والخلاص من وطأة الازمات الاقتصادية الخانقة. لكن مشكلته كانت أنه ليس من خريجي المدرسة الرفسنجانية، لذا عندما خرجت النتائج النهائية بفوزه على رفسنجاني، وجه الاخير اتهامه الشديد الى مسؤولي العد والفرز في لجنة الانتخابات، بارتكابهم عملية التلاعب في الآراء، ظناً منه أن شرائح واسعة من المجتمع تنتظر وصوله الى الحكم ليبدأ هو عملية إصلاح ما أخطأه خاتمي، أو يكمل ما لم يتوصل اليه.

لقد تنحّى رفسنجاني عن الحكم  لثمان سنوات كاملة، وهي فترة تخللتها أحداث جسام داخل وخارج ايران، أهمها وابرزها؛ أحداث العنف التي أعقب التشكيك بنتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، وانهيار الأمل الجديد لرفسنجاني، وهو "مير حسين موسوي"، والحدث الآخر؛ اصطدام الطموح النووي الايراني بالارادة الدولية، وما اعقبه من عقوبات قاسية، خلقت اوضاعاً اقتصادية شديدة التأزم والوطأة، حتى شبهها الكثير من المراقبين بالاوضاع التي كانت عليها ايران في زمن الحرب والحصار الاقتصادي في عقد الثمانينات.. لكن المراقبين لهم رأي غير المعلن، وهو وجود خلاف بين رفسنجاني ونجاد على السياسات الداخلية والخارجية، فما وصلت اليه ايران في برنامجها النووي، ومكانتها السياسية في المنطقة، يُعد امتيازاً ومكسباً لكل ايراني مخلص لوطنه ومحب لبلده، فما بالك بشخص مثل رفسنجاني الذي يرى مصلحة ايران فوق كل شيء. يبقى الملف الاقتصادي، هو يتخصص فيه رفسنجاني بمهارة عالية وتجربة طويلة في عقد الثمانينات والتسعينات، وهو الدور الذي يوكله الى الرئيس الجديد الشيخ حسن روحاني، لكن لا ينسى رفسنجاني مفتاح النجاح الكبير لهذا الدور، ألا وهو قلوب الايرانيين.

لقد ظهر روحاني أما عدسات الكاميرا في حملته الانتخابية وهو يحمل مفتاحاً كبيراً يرمز لامتلاكه عوامل حل الازمات الاقتصادية الخانقة في ايران.. فيما المراقبين يرون أن هذا المفتاح – الرمز، هو بالحقيقة سيقوم بدايةً بالدخول الى قلوب الناس على السعة والرحب، وكسب ثقتهم، بعد الضغوطات الهائلة التي تحملوها خلال السنوات الماضية. فالمفتاح كان شكلاً جميلاً زيّنه المسؤولين عن الحملة الانتخابية بأشرطة ملونة، لكنها يحمل المفردة الأهم والأكثر حساسية على مشاعر الايرانيين وهي "الاصلاحات"، وهي الكلمة التي تتردد على لسان معظم الايرانيين المتحدثين لوسائل الاعلام، بأنهم اعطوا آرائهم لـ "الإصلاح"، قبل أن يعطوا لشخص معين.

من هنا؛ يواجه روحاني آمالاً كبيرة من  داخل وخارج ايران، على تغيير مسار السياسة الايرانية، وانتهاج اسلوب اكثر اعتدالاً وتفهماً للآخر مما كان عليه "نجاد"، ومن يقف خلفه من مؤسسة المحافظين العملاقة والمدعومة مباشرة من القائد "الخامنئي"، وهي تضم الحرس الثوري ومؤسسات اقتصادية ومالية ضخمة تابعة لمكتب القائد مثل "مؤسسة المستضعفين"، ومؤسسة الاذاعة والتلفزيون. نظرة الأمل هذه، هي ما يبحث عنه رفسنجاني، بل هي ضالته دائماً، بأن يعود الناس اليه دائماً، وايضاً الاطراف الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فهو الأقدر والأجدر على توجيه ايران في طريق الاستقرار والامان، بما يرضي الجميع. لكن المراقبين يسألون في هذه البرهة الزمنية، وفي الايام الاولى لتولي روحاني منصب رئاسة الجمهورية، عن مدى قدرة المدرسة الرفسنجانية على إثبات هذه الجدارة وسط التحديات المستمرة من جانب "المحافظين"، وعلى رأسهم "قائد الثورة"، الذي يجد حرجاً كبيراً في الحصول على امتيازات ومكاسب للداخل الايراني، وتحقيق الرفاهية والنعيم والرخاء للشعب الايراني، من خلال الانفتاح على الخارج، إنما يريد تحقيق القوة والاقتدار ذاتياً. وهو عينه ما يريده رفسنجاني، وهو تحقيق المكاسب في الخارج، وفي الداخل في وقت واحد، وحسب المراقبين فان هذه الرؤية والمنهج يشكل أكبر تهديد للمحافظين والحاشية المقربة لخامنئي، لاسيما حرس الثورة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 19/حزيران/2013 - 9/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م