شبكة النبأ: التحولات الكبرى في
التاريخ البشري صنعها المفكرون والمثقفون، والامم التي انتقلت من
الهامش الى قلب الضوء والتطور، اعتمدت الثقافة المستقلة السليمة طريقا
لها، وكان المثقفون العظماء من اصحاب الارادات الجبارة والعقول الفذة،
هم في صدارة المتصدين لمسؤولية التغيير نحو الافضل.
في البلاد العربية عموما وفي العراق هناك وفرة في المثقفين
العاجزين، نعم لدينا كما تؤكد الوقائع مثقف بلا ارادة، عاجز عن
التغيير، الاخرون يقودونه، ويملون عليه افكارهم وارادتهم، فحدث المد
المعاكس للتطور، وحدث التراجع الخطير في القيم والفكر والثقافة، وباتت
السمة الواضحة التي يتسم بها مثقفو الحاضر العربي والعراقي هي العجز
وعدم القدرة على التغيير.
هذا العجز الواضح في ارادة المثقفين وعجزهم التام عن احداث التغيير
نحو الافضل، لا يتعلق بفئة عمرية معينة من المثقفين، فالمخضرمون عاجزون
والشباب بلا ارادة، والكهول صامتون او منعزلون متفرجون في الغالب، لذا
ليس هناك مغالاة في قولنا ان دور الثقافة هامشي متلكئ وتابع في افضل
الحالات، ولدينا دلائل قاطعة تؤكد هذا الاستنتاج، حيث المثقف التابع
العاجز الذي يفتقد للارادة هو النموذج الحالي للمثقف العربي والعراقي
ايضا.
وعندما نبحث في المسببات التي قادت المثقفين الى هذا النوع من العجز،
فإننا سنجد العيب في الثقافة نفسها، وثمة اسباب اخرى تدخل في هذا الباب،
فالعجز الذي يتسم به المثقف العربي ليس وليد الراهن بطبيعة الحال، وإن
كان الواقع له سطوة اكيدة لاحداث مثل هذا العجز في الارادة على التغيير
نحو الافضل، إن المثقف هو وليد الحاضنة الاجتماعية بتقاليدها واعرافها
وطبيعة ثقافتها ومساراتها، وطالما ان العرب خضعوا لمراحل من الكبت
والقمع لاسيما ابان الحقبة العثمانية التي عزلت العرب عن العالم الاخر،
ف‘ن النتائج المتوقعة هي عجز المثقف والثقافة، ليس في التأثير بالاخر
فحسب، انما في التلاقح السليم مع الثقافات الاخرى، الامر الذي ينعكس
على طبيعة التكوين الثقافي للمثقف الفرد والجماعة ايضا.
يقول احد الكتاب في دراسة معمقة عن الثقافة والمثقفين العرب، لقد
ظنّت الثقافة العربية بأنها ذات فرادة لا مثيل لها في الثقافات
الإنسانية الأخرى. وبشعورها هذا، أصبحت ثقافة متعالية ومُستكبرة، وذات
خيلاء طاووسيّة كاذبة. ويعتقد الحمد أن هذا التعالي والاستكبار من أخطر
أمراض الثقافة العربية التي يعيقها من التلاقح، والاستفادة، وتبادل
الخبرات مع الثقافات الإنسانية الأخرى، كذلك إحساس الثقافة العربية
بأنها ثقافة علوية، وفريدة، وذات خصائص مميزة، غير موجودة في الثقافات
الأخرى ـ وهو إحساس خاطئ ومجاني ـ أدى بها إلى التقوقع والانكماش على
الذات، وبالتالي أغلاق الأبواب أمام هبوب نسائم الثقافات الأخرى، ويؤكد
الكاتب نفسه قائلا: في ظني أن رضوخ العالم العربي للاستعمار العثماني
طيلة أربعة قرون (1517- 1918)، وانغلاق العالم العربي بانغلاق
"الإمبراطورية العثمانية"، وفرضها ستاراً حديداً على العالم العربي
والإسلامي، وعزلها عن العالم الخارجي الآخر عزلاً كلياً، هو الذي أدى
إلى أن يكون التقوقع سبباً من الأسباب. فيقال إن العرب لم يسمعوا بقيام
الثورة الفرنسية 1789، إلا بعد زمن متأخر، نتيجة للحصار العثماني على
العالم العربي.
إن هذا العزل الثقافي الصارم، بالاضافة الى الاسباب الفردية للمثقف
العربي والعراقي، ومنها ركونه الى اللامبالاة وعدم قدرته على التاثير
في مجرى الاحداث، فضلا عن تقاعسه عن مواكبة ما يستجد في الثقافة
العالمية، كل هذه العوامل ساعدت على خلق نوع من العجز والتراجع والضعف
التام بخصوص التاثير في المسارات السياسية والاجتماعية وسواها.
لذا فلا غرابة اذا اتسم المثقف بالعجز وعدم القدرة على التغيير،
لأننا ازاء عوامل كثيرة أسهمت في تراجع المثقف والثقافة معا، لتصبح
الثقافة ومن يقودها في آخر الصفوف، وتترك مواقع الصدارة لغيرها. |