في سبيل اخلاق تواصلية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في كتابه المعنون (الانسان من اجل ذاته.. بحث في سيكولوجية الاخلاق) يطرح اريك فروم تلك الملاحظة الجديرة بالانتباه، يقول اريك فروم: تسفر الانظمة الاخلاقية لكل الثقافات الكبيرة عن تشابه مدهش فيما يعد ضروريا لنمو الانسان، الذي تنبع معاييره من طبيعة الانسان والشروط الضرورية لنموه).

وهو قبل تلك العبارة، يعرف فلسفة الاخلاق الشاملة بانها (معايير السلوك التي هدفها نمو الانسان). لا ينطلق اريك فروم من مرجعية دينيية ينتمي اليها في هذه الكلمات، بل من مرجعية ثقافية يعتبر الدين جزءا منها، وهو مايشكل مجمل الثقاقات التي تحدث عنها في مقدمة تلك السطور.

وهو يذكر ملاحظة اخرى في سياق افكاره المطروحة في الكتاب، وتلك الملاحظة تتعلق بما يسميه (المطلقية، والنسبوية) فالمطلقية تمثلها الامبريالية والاصولية وما تؤديان اليهما، والنسبوية تؤدي الى الانتهازية والى عدم الاكتراث تجاه السمات التدميرية في بعض الثقافات، التي ابقت على مر الزمان منطق الاستبعاد والمجابهة العنيفة، نشأ في فلسفة الاخلاق تيار الشمولية النسبية، التي تبحث في المعايير التي تتخطى الثقافات الخاصة وتتعامل جوهريا مع الحياة وسلامة كل البشر.. وهي بالمقارنة مع النسبوية تمثل ضرورة التبصرات الاخلاقية المهمة لكل البشر، بقطع النظر عن ثقافاتهم الخاصة، وهي اساسية جدا ويمكن ان يعتمد عليها القانون.

كثيرا مايطرح (السؤال الاخلاقي) امام وخلف كل عمل او سلوك يقوم به الانسان، بغض النظر عن علاقة الفعل بالدين، كمعطى سماوي بالنسبة للاديان التوحيدية الكبرى، او كمعطى ارضي - اسطوري، بالنسبة للاديان الوضعية، كبيرها وصغيرها.

انه سؤال يندمج في صلب الثقافي وليس الديني، على اعتبار ان اريك فروم ينظر الى الديانات كثقافات يسهل التعامل معها، ومع اسئلتها الاخلاقية التي تطرحها.

السؤال الاخلاقي مطروح بقوة حتى في عمق الديني منه، ومايمثله بالنسبة لملايين البشر، وهو سؤال ربما يصبح النتيجة التي بدهنا عليها، وهي بداهة مغلوطة، ان الدين اهم من الاخلاق، بداهة يفندها السيد صادق الشيرازي، حين يقول في احد كتبه:

(لقد بُعث رسول الله صلّى الله عليه وآله يبلّغ الناس الإسلام وهو رسالة شاملة لكل شؤون الحياة، ولكننا مع ذلك نسمع أنه صلّى الله عليه وآله قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ولم يبلغنا انه قال: إنما بعثت للصلاة أو الصوم والحج والخمس وغيرها من التشريعات والعقائد مع أنه صلّى الله عليه وآله هو الذي أتى بها من قبل الله عزّ وجل. ولئن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أهمية الأخلاق في الإسلام؛ فكأنه صلّى الله عليه وآله يقول تتلخص بعثتي في مكارم الأخلاق وهي الغاية).

وتلك الغاية التي يذكرها السيد صادق الشيرازي، (هي اساسية جدا ويمكن ان يعتمد عليها القانون) كما عبر عن ذلك اريك فروم في السطور السابقة.

ويستمر السيد صادق الشيرازي في وصفه لهذه الغاية بقوله: (غاية الأخلاق تتلخّص في مسألة واحدة وهي تربية النفس وإصلاحها، وهي من أعقد المسائل وأصعبها، لأنّ كثيراً من الناس قد ينجحون في مسائل صعبة ولا ينجحون في هذه المسألة، بل يمكن القول إنّها ركيزة أساسية ضمن ركائز الهدف من خلق الله تعالى للكون والحياة والإنسان).

يمكننا ان نطرح تساؤلا ربما يبدو مشروعا في ظل كل مانعيشه في ايامنا الحاضرة، وفي ظل هذا التردي الاخلاقي الذي تعيشه مجتمعاتنا، ما الذي بقي من السؤال الاخلاقي في الاسلام، كدين حسب بداهتنا، او ثقافة حسب تعبير اريك فروم؟

لايمكننا ان نزاوج بين البداهة التقليدية، وبين الثقافة، لانها ستكون مزاوجة تلفيقية، ونحن نسمع او نقرأ كل يوم انتحارنا الاخلاقي على بوابات المساجد او خطب رجال الدين، وهي تحث على الكراهية والتعصب والتحريض على القتل واهدار الدماء والاعراض وغيرها من منكرات لاتليق باي ديانة، فما بالك بالاسلام، الذي هو في احد توصيفاته سلام الى يوم القيامة..

يطرح هذه الايام تساؤل اخلاقي جديد، في اوساط المثقفين الغربيين، وهو تساؤل لايعني تلك البداهة الدينية التي درجنا عليها، ولايعني السؤال الاخلاقي الذي نعيش اقسى حالات انسداده، رغم اننا معنيين كثيرا بنتائجه التي تتمخض عن استعمالنا لسبورة والوان وطبشور تلك الاماكن التي تفرض طرح هذا السؤال.

فمع انتشار استعمال شبكات التواصل الاجتماعي في الإنترنت، زاد النقاش حول مستوى أخلاق هذا التواصل: هل يكتب أي شخص أي شيء؟ أم يجب أن تكون هناك حدودا؟ ماذا عن الشتائم، والإساءات، والإحراجات؟ وأهم من ذلك، ماذا عن العبارات الإباحية، والصور العارية، والجنس المباح؟

هذا النقاش يستمر متواصلا، ولكن ظهر في الولايات المتحدة عامل جديد ربما لم يضع له كثير من المتناقشين، سلبا أو إيجابا، اعتبارا. وهو أن الشركات التي تعلن في المواقع الاجتماعية تحرص على «سمعتها». وبالتالي سمعة المواقع التي تنشر فيها إعلانات.

وكتب عن هذا الأميركيان مارك روسو، وبيرنارد جنسن في تقرير عنوانه: «أسماء الشركات في الإعلانات». وقال تقريرهما إن النقاش عن أخلاقية الإعلانات ليس فقط عن التعري والإباحية، ولكن، أيضا، عن طريقة عرض الإعلانات نفسها.

وقال التقرير إن هذه الشركات تمارس الآتي:

أولا: كلمات لامعة ومبهرة لجذب القارئ.

ثانيا: إجبار القارئ على قراءة الإعلان.

ثالثا: تغيير أو حجب الإعلانات المنافسة.

في حالة الفوضى التي تعيشها مجتماعتنا، لاتعنينا مثل تلك الاخلاقيات والتي انتقلت الى مستوى جديد من الانشغالات، وهذه المرة حول طريقة عرض الاعلانات، التي تمارس (الجبرية) واستلاب حق المتصفح ب (حرية) قراءة الاعلان، متوسلة بذلك بكلمات لامعة ومبهرة.

وكمثل على ما قادت اليه تلك النقاشات، اضطرت شركات عالمية كبيرة، مثل شركة «نيسان» لصناعة السيارات، إلى سحب إعلاناتها من «فيس بوك»، بعدما كانت منظمات نسائية قد شنت حملة عنيفة على موقع التواصل الاجتماعي، بسبب اتصالات اجتماعية في موقعها تسيء إلى المرأة، وتتحدث عن أعضاء جسدها، وقلة عقلها، وإباحة استغلالها، والإساءة إليها، واتهمت شركة «فيس بوك» برعايتها.

وهكذا، صارت أخلاقيات الإنترنت، وخاصة أخلاقيات المواقع الاجتماعية، مثار نقاش، ليس فقط وسط خبراء، ومثقفين، وسياسيين، ولكن، أيضا، وسط الشركات، وبعضها كبيرة، ومن أعمدة النظام الرأسمالي.

قد يبدو النقاش حول أخلاقية المواقع الاجتماعية هو «نقاش رأسمالي»، وربما أكثر من فكري، أو ثقافي، أو ديني. كما ذكرت ذلك صحيفة الشرق الاوسط تعليقا على التقرير الذي نشرته، وقد ينتمي الى (المطلقية) التي اشار اليها اريك فروم، والتي تمثلها الامبرليالية والاصولية، لكن هذا النقاش يمكن وبسهولة ان يتحول الى (الشمولية النسبية، التي تبحث في المعايير التي تتخطى الثقافات الخاصة وتتعامل جوهريا مع الحياة وسلامة كل البشر) طالما ان النقاشات مستمرة، والسؤال الاخلاقي المطروح يمثل (تبصراة اخلاقية مهمة لكل البشر)، وهي تبصرة يمكن ان يعتمد عليها القانون.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 16/حزيران/2013 - 6/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م