قفزة اللا منتمي

عبدالكريم العامري

 

شبكة النبأ: وأنت تقرأ وجوه الطلبة هذه الأيام، وهم يقرأون دروسهم، يتبادر الى ذهنك أسئلة وأسئلة.. منها لماذا درجة النجاح تبدأ من 1 الى 100؟ لكن إذا الطالب لم يحصل على درجة أو حصل على أقل من ذلك، بمعنى آخر تحت الصفر، أو حقق درجة فوق 100، هنا ماذا نسمي هذا الطالب، متفوق أو محبط؟

كل ما يتعلمه الطالب من معلومات في دراسته وطوال سنوات، يعاد اختباره فيها بين فترة وأخرى.. لا يضيف ولا يبتكر ولا يخترع، انه مجرد اجترار للمعلومات.

هنا يجدر بنا ذكر منحنى غوس المعياري لقياس درجات الذكاء، الذي يعتبر درجة 140 فأكثر حالة من حالات التفوق العقلي، بينما نصفها درجة 70 فأقل حالة من حالات التخلف العقلي أو المعرفي.. ما يثير العجب ان هذه الدرجة عند الطالب العراقي من درجات التفوق الدراسي!

أين تكمن العلة؟ في المعلول أو المنهج أو غير ذلك، هي أسئلة نبحث من خلالها عن القفزة في ذهن الطالب العراقي، فمن يخرجه من بحيرة الوحل هذه؟ من يساعده على القفز العالي والوثوب والطويل.

برغم وجود هواة من الطلبة التي لا تتعدى ابتكاراتهم ومخترعاتهم سوى صدى لمخترعات هنا وهناك وهي على قلتها نبع خير.

في فترة الامتحانات تتوقف حياة التلفزيون والموبايل والآي فون والألعاب.. الأسرة في إنذار، كذلك الطالب، المدرسة، الشارع بشكل عام.. كلها تنذر بخطر قادم هو الامتحانات في العراق، الذي يصادف مجيئها حر الصيف وانقطاع التيار الكهربائي، و كأن السنة المدرسية لم تبدأ قبل هذا بل فقط هذه الأيام المصيرية. لا خلاف، بل المشكلة في المعدل والدرجة التي أحيانا توقف التقدم العقلي للطالب حين يذهب به المعدل الى غير رغبته وحاجة مجتمعه اليه رغم ان الدرجة لم تكن لقياس العقل، ومن وضع الإنسان نفسه، يصبح بسبب ذلك الطالب لا منتمي الى المدرسة أو المجتمع أو جماعة الهواة والمبدعين بل ويعاني من أزمة نفسية.

 في أحد الأيام سأل أحد الطلاب عالم ميكانيكيا الكم الفرنسي لويس دي برويل عن سر تقدم العلوم ورقي المعرفة فقال له: إن العلم الإنساني في الواقع عقلاني في أسسه وطرائقه، ويمكن أن ينفذ منجزاته المهمة بواسطة قفزات فكرية مفاجئة خطرة فقط عندما تظهر القابليات المتحررة من قيود التحليلات القديمة الثقيلة، قفزات قد يسمونها بالخيال أو الحدس أو حدة الذكاء.

السر يكمن إذن في التحرر من قيود التحليلات القديمة الثقيلة، على هذا فما أن يحاول الباحث أو المفكر أو الكاتب أو الطالب... أن يتجنبها أو أن لا يعتبرها مسلمات قطعية فإن تغييرا معينا يظهر في المجال البحثي أو المعرفي الذي يتناوله بالبحث أو الدراسة. أي لا يمكن استنباط الجديد بحق إلا في تلك الحالة التي نكون فيها مستعدين في المكان والزمان الحاسمين للتخلي عن تلك القواعد التي استند اليها العلم القويم والقفز بدرجة ما في الفراغ.

هذا النموذج في التفكير الذي يسمى ( المنفتح) أو (المتحرر) هو السبب وراء الاستمرار في توسع المعارف بكل اشكالها وانواعها لكون الإنسانية لا تملك حقائق مطلقة متكاملة بل تملك معارف وعلوم متغيرة تستبدل بأخرى، لذلك حجم معارفنا يتوسع باستمرار.

الحديث عن كتاب (اللا منتمي) للأديب الانكليزي كولين ولسن احدث ضجة عندما نشر عام 1956م، واللا منتمي هو الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من اساس واه، هو الذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقا وتجذرا من النظام الذي يؤمن به قومه.. إنه ليس مجنونا، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول. مشكلته في الأساس هي مشكلة الحرية.. هو يريد أن يكون حرا ويرى أن صحيح العقل ليس حرا.

اللا منتمي إذن هو الشخص الذي لا يتلاءم مع المجتمع الذي يعيش فيه، الشخص الذي رأى أكثر مما يجب، تعمق في رؤيته أكثر مما ينبغي، ما يراه في العالم هو الفوضى وعدم تقدير القابليات وليس النظام الذي يجده الشخص المنسجم مع مجتمعه، إنه الوحيد الذي في مقدوره رؤية الأمور على حقيقتها، هذا الطالب الذي ظلمه المجتمع، فمن يحادثه ليعرف ماذا يريد وكيف، إذا كان حقا المجتمع يعوزه هذا الطالب؟

هل يجوز لنا أن نصدق الطالب بدون معدله، كما جرى الفكر الإنساني وسار في طريق ذي اتجاه واحد هو طريق تصديق اللا مصدق، أو تصديق ما لا يمكن تصديقه، هو طريق المبتكرات والاختراعات والمكتشفات.. هو أمر توقف عنده آخرون، وأنكره قلة قليلة بسبب الحقد والكراهية والتفكير المسدود.. لنجرب ونجعل بعض الطلبة ( لا منتمين) في العلوم والمعارف والآداب والفنون والرياضة وغيرها.. لنخرجهم من رتابة المعدلات الى الابتكار والاكتشاف ونجرب ماذا يحصل منهم مجتمعنا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 10/حزيران/2013 - 30/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م