الثقافة والنكاح الثوري والديمقراطية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لا تغادر كلمة الثقافة في دلالتها العربية غير ماهو تلبية لشرط حضورها في حياة العرب، في بداوتهم وقسوة مناخهم، فهي الحذق والفطنة والذكاء وسرعة التعلم وضبط المعرفة، وهذه الدلالات المعنوية، لو دققنا النظر فيها، تحيل الى معاني فرعية اخرى، وخاصة الثلاثة الاولى منها، وهي المغالبة.. وربما مايؤيد هذا الرأي، ان كلمة الثقافة في دلالاتها العربية الحسية منها، تعني الظفر بالشيء والحصول عليه، ولايتم ذلك الا بغلبة المقابل والانتصار عليه..

في الحضارة الغربية، وعودا على كلمة الثقافة ودلالاتها في الاصل اللاتيني، فقد اقتصرت على تنمية الارض ومحصولاتها، ومعلوم ان ذلك لايكون الا بالزراعة، والزراعة، بذر ورعاية وقطاف في نهاية المطاف، اي انها بتعبير اخر، اعلاء من شان الحياة والنمو والازدهار والخير للثاقف والمثقوف، ان صح التعبير، في النسبة الى الغارس والزارع، يقابله الآكل والمنتفع من الحصاد..

 ربما هذا سبب من جملة اسباب لم تجعل من الثقافة، بمعطياتها الحديثة والمعاصرة، والتي وصلت الينا من الاخرين،  ان تجذر قيمها الانسانية في حياة العرب والمسلمين، وكانهم يمارسون قطوعا متواصلة مع تعاليم الاديان التوحيدية الكبرى، التي كانت ارضهم مسرحا لها، ومهبط وحي استمر الاف السنين، واختتم بالرسالة المحمدية، التي مارس المسلمون ولازالوا يمارسون قطوعات حادة مع تعاليمها وقيمها الانسانية..

فشلت الكثير من مشاريع النهضة والتنوير والاصلاح في مجتمعاتنا، وكان السبب الرئيسي لذلك هو ان تلك الافكار لم تضع الانسان، كقيمة كونية كبرى، في مقدمة مشاريعها، بل ارادت منه ان يكون خادما مطيعا وعبدا ذليلا، لاسلام شعبي هو في الضد من اسلام محمد (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته (عليهم السلام).. اسلام لايعترف بالاختلاف، الذي هو جذر ناشب في تربة الشورى الاسلامية، او الديمقراطية الغربية.

اسلام لايعترف بالحرية التي هي اصل قبل الدين، فلا دين للعبيد، وهي الجذر المشترك بين اصوات المستشارين في الدستور القرآني واصوات الناخبين في اي ديمقراطية حقيقة..

تلك هي ثقافتنا في زمن الثورات العربية، التي صعد منصاتها شيوخ المغالبة، يخطبون امام جمهور هو في حقيقته تاهت منه بوصلة اسلام محمد (صلى الله عليه واله وسلم)  واهل بيته (عليهم السلام)...

اسلام لايعرف غير تكفير المختلف قبل المخالف، وكأن (لا اكراه في الدين) بدعة او اسطورة من اساطير الاولين.. اسلام شعبي يقود التغيير، في بلدان ادمنت ذل العبودية لحكامها، لان تعاليمه اوصت بالاستماع للحاكم والتصفيق له، عبر فتاوى مدفوعة الاجر لوعاظ السلاطين والذين هم انفسهم على منصات التظاهرات والاعتصامات والانتفاضات والثورات، والذين لم يكتفوا بسرقة ماخرج الملايين لاجله، بل عملوا على سرقة حتى تاء التانيث في تلك الكلمات واستباحوا كيانها عبر نكاح الجهاد للترفيه عن قاطعي الرؤوس واكلي الاكباد..

الشيوخ على المنصات يصرخون : حي على القتل والتكفير، ومن وراءهم يصرخ المجاهدون: حي على النكاح.

هل تقود مثل ثقافة كهذه الى تحرير الاوطان، وتصل الى الديمقراطية، وهي لاتستطيع عبور الحاجز في المنتصف، حاجز نكاح الجهاد، وهل تولد الديمقراطية من رحم تناوب على القاء البذور فيه، عشرات القتلة وقاطعي الرؤوس؟

في احدث تصريحات للشاعر السوري (ادونيس) وصف ما يعيشه العرب بعد تغيرات (ثورات الربيع العربي) بالكذبة الكبيرة، مؤكدا انه كتب عليهم أن يعيشوا تاريخهم كوهم، وليس كحقيقة وككابوس لا كحلم جميل ، مبديا اسفه وتعجبه من مثقفين عرب يعتقدون ان الديمقراطية تتحقق على يد من يمارسون (جهاد المناكحة).

وعبر عن اعتقاده "أن ما حدث كان انتفاضات شعبيّة مشروعة ضدّ الفساد، والظلّم والقمع، وانعدام الحرّيات. غير أن القوى الرجعيّة، والأصوليّة استغلّت هذه الانتفاضات لصالحها". واتهم القوى الأصولية بالسعي لجرّ الزّمن إلى الوراء "إلى ماض بعيد تحبس فيه الشّعوب، وفيه تكبّل الطّاقات بحيث لن يكون هناك وجود لا للحاضر ولا للمستقبل".

وتساءل متعجبا من مثقفين ومن سياسيّين يعتقدون أن الديمقراطيّة في سوريا يمكن أن تتحققّ على يد من يمارسون العنف، ويرتكبون مجازر فظيعة، ويدعون إلى الفتنة جهارا، ويقومون بأعمال مشينة، ووحشيّة، ويمارسون ما يسمّونه بـ(جهاد المناكحة).

وقال إنه عبّر بوضوح عن موقفه منذ بداية الأحداث في سوريا، وتمنّى أن يتحاشى المتظاهرون العنف، "لأنّ التّاريخ يثبت بالأدلّة القاطعة أنه، أي العنف، يفسد ثورات الشعوب، ويحوّلها إلى عمليّات انتقام وتخريب ونهب وسَحْل". ولاحظ الشاعر أن جلّ قادة المظاهرات أصوليّون متطرّفون، وجهاديّون.

لايغادر العرب والمسلمون المربع الاول للثقافة، الا وسقطوا في مربع التفاهة والانحطاط، لانهم قد فقدوا تلك القيم الانسانية التي حاول اسلام محمد (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته (عليهم السلام) ان يغرسوها في نفوسهم عملا قبل القول، واستساغوا اتّباع اسلام جديد جاء به ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ومن خلفهم من فقهاء الجور والسلطان، الذين يستسهلون الاستحمام بالدماء قبل الدخول الى ساحة الديمقراطية، وكانهم يتوضأون من نجاستهم بأثم اكبر..

لانستطيع العبور الى حيث عبر الاخرون، لاننا مكبلون بهذا الاسلام الشعبي وبثقافة المغالبة، وهما ضباب مستديم يحجب العيون ويعمي الابصار.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 9/حزيران/2013 - 29/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م