أردوغان يفيق من سكرة الديمقراطية

 

شبكة النبأ: "ليس لدينا ربيع تركي". هكذا قاطع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الصحفيين لدى زيارته المغرب يوم الاثنين الماضي، في سياق محاولاته الرامية والمستميتة لتطويق أحداث الاحتجاج التي اندلعت من وسط اسطنبول، وتحديداً من ميدان "تقسيم" الشهير والقديم، حيث أعلنت الحكومة عزمها عن ردم حديقة مشجرة، وتشييد مركز تجاري محلها، الأمر الذي عارضته جماعات مناصرة للبيئة مع شرائح من المجتمع التركي، فكان رد الاعتراض والإصرار على القرار الحكومي بمنزلة الشرارة التي أطلقتها الحكومة نفسها، لأحداث العنف التي لم يتوقعها الكثير في تركيا.

والجديد غير المتوقع الآخر، سرعة إماطة اللثام عن وجه حزب  العدالة والتنمية التركي بزعامة أردوغان، الذي دفع بقارب الديمقراطية في تركيا نحو الامواج المتلاطمة، ظناً منه أنه قادر على التفوق على الجميع وتمرير قراراته واجراءاته على جميع أطياف الشعب التركي، متجاهلاً الشريحة الميالة للنهج العلماني والمنزعجة من بعض الاجراءات ذات الطابع الديني التي تتخذها الحكومة التركية، وكان آخرها إصدار قانون في البرلمان يحد من بيع واحتساء الكحول، ثم جاء الاجراء الأخير الذي سبق العاصفة العلمانية، وهو هجوم عدد من الشبان الاتراك بالسكاكين على تظاهرة في العاصمة أنقرة ناصرت قضية شاب وشابة اعتقلا بتهمة تبادل القبلات وسط الشارع. وقد ردد الشبان "المتطرفون" هتافات الله أكبر وهم يلوحون بالسكاكين أمام المتظاهرين لتفريقهم. وكان هذا ، قبل ثلاثة أيام من اندلاع الاحتجاجات في اسطنبول.

إن مشكلة أردوغان وحزبه الذي فاز في الانتخابات البرلمانية عام 2002، وما يزال يهيمن على الحكم، في ثاني تجربة سياسية لحزب ذو ميول اسلامية، أنه اراد طيلة هذه الفترة ابتداع هيكلية لنظام حكم يوفق بين التعاليم الاسلامية وبين التعاليم الديمقراطية – الغربية، بما لها من توجهات علمانية وليبرالية، ويكرس مصطلح "الاسلام السياسي"، مفهوماً وتطبيقاً على أرض الواقع. فجاءت بعض اجراءاته التي أوجدت متنفس للشريحة المتدينة في تركيا برفع الحظر عن الحجاب في الجامعات، دون أن تثر حفيظة العلمانيين. ثم ركز جهوده على النهوض بالاقتصاد التركي وتحقيق حلمه العتيد بالاستغناء عن الاقتصاد الاوربي بعد إبقائه خارج أبواب الاتحاد الاوربي طيلة السنوات الماضية، بحجة الهوية الإسلامية لتركيا..

وقد أشارت المصادر الى نجاح الاقتصاد التركي في تحقيق معدلات نمو ملحوظة بلغت نحو أربعة بالمئة العام الجاري، بل ان وكالة "ستاندرد بورز" للتصنيف الائتمناني ذكرت أواخر الشهر الماضي، اشارت الى ان الاقتصاد التركي يسير على طريق الانتعاش المطرد بعد أداء أضعف في العام 2012. وتوقعت أن يتجاوز الاقتصاد التركي التضخم بالمستوى الذي يستهدفه البنك المركزي التركي البالغ خمسة بالمئة هذا العام. وقبل أيام من اندلاع الاضطرابات والاحتجاجات وتحديداً في 22-5-2013، اقر البرلمان التركي قانون "العفو عن الثروات" لتشجيع الأثرياء الأتراك في الخارج لإعادة أموالهم الى البلاد في ظل إعفاء ضريبي أو دفع غرامات. وحسب المصادر، فانه بموجب هذا التشريع الجديد، سيدفع الأتراك نسبة اثنين بالمئة فقط على الأموال التي تدخل البلاد متجنبين دفع ضرائب كان يمكن دون هذا القانون أن تصل الى ما بين 30 و40 بالمئة. وكانت آخر مرة استخدمت فيها تركيا هذا الإجراء في عام 2009، للمساعدة في تخفيف آثار الأزمة المالية العالمية، فتمكنت تريكا من  خلال هذه الخطوة كسب (50) مليار ليرة، بما يعادل (28) مليار دولار حسب الصرف الراهن. وبذلك سجلت تركيا أسرع معدل نمو في أوربا عام 2011 إذ تجاوز المعدل (8.5) بالمئة.

لاشك أن متانة وقوة الاقتصاد تضمن قدراً كبيراً من الاستقرار الاجتماعي والمصالح السياسية، وهذا ما حققه أردوغان خلال الاعوام الماضية، وكسب امتيازات على الصعيد الداخلي والخارجي، بيد أن العين الأخرى لأردوغان كانت على الخط الآخر الموازي الذي يسير عليه حزبه، وهو الخط الايديولوجي، لم يكن بالمتانة والتماسك المماثل في الاقتصاد التركي، فقد بنى آمالاً عريضة على قدرة توجيه رياح التغيير السياسي في البلاد العربي، أو ما يسمى بـ "الربيع العربي"، وأن تكون تركيا النموذج الأمثل لنظام الحكم الديمقراطي – الاسلامي، فكانت تجربته الأولى مع العراق الذي يواجه بالأساس فتنة طائفية وتعبئة سياسية من الخارج لتوجيه الضربات الى جدار العملية السياسية التي استخلفت النظام الديكتاتوري الصدامي، وكانت البداية باستضافة اجتماعات ومؤتمرات لجماعات طائفية مناوئة للنظام القائم في العراق، ثم  استضافة النائب السابق لرئيس الجمهورية العراقي طارق الهاشمي المطلوب للقضاء العراقي وللشرطة الدولية، بتهمة ضلوعه بأعمال قتل وإرهاب في العراق، وقد فاجأ أردوغان أكثر من مرة السياسيين والاعلاميين بنعت نظيره العراقي نوري المالكي بـ "رئيس الوزراء الشيعي"..! وهذا ما رآه الكثير تناقضاً مع المفهوم العلماني الذي يحمله أردوغان، وبذلك جعل العراق – حسب اعتقاده- في مصاف البلاد المعرضة لرياح التغيير. ثم جاء التدخل السافر في الشأن السوري، وإذكاء الفتنة الطائفية هذه المرة في سوريا، والدفع بقوة نحو الحرب الأهلية بهدف الإطاحة بالنظام الحاكم في دمشق.

المراقبون والمتابعون للشأن التركي يرون أن نقطة الانحدار التركي التي تسببها اردوغان، في اشتباك تركيا بتعقيدات سياسية وعقائدية تفوق قدرتها، بخلاف نجاحها في الشأن الاقتصادي الذي برعت فيه، على خلفية تجارب وخبرات سنين طويلة. هذا التسرّع المدفوع بغرور سياسي واضح، تسبب في إسقاطات خطيرة لم يكن الغرب بعيداً عنها، وفي مقدمتها تسلل الجماعات التكفيرية والارهابية من بين أيدي الساسة الاتراك، فبالنسبة للوضع السوري، فان الحكومة التركية لن تتمكن من الفرز بين من تؤيده وتتعامل معه من الجماعات السياسية المقيمة على أراضيها تحت اسم "الائتلاف الوطني السوري المعارض"، وبين الكتائب والفصائل الارهابية العاملة على الأرض السورية، والتي أظهرت مؤخراً وجهها القبيح والدموي بمشاهد مريعة أجبرت الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة على إعادة النظر في التعامل مع المؤيد والمناصر لها.

فاذا كان هنالك من احتمال بوجود أيادٍ خارجية في إثارة الاضطرابات وتحريك الشباب التركي المتحفّز لتحلل والتحرر  من قيود "حزب العدالة والتنمية"، وشخص أردوغان، فان الخطوات غير الصحيحة التي رفعها هي التي مهدت الطريق نحو السير الى الهاوية، وحسب الخبراء والمراقبين، فان داء التفرّد في السلطة وبذور الديكتاتورية الموجودة في نفوسهم ، هو الذي يسوق بالحكام في المنطقة الى حتفهم.

وما يؤيد هذه الرؤية، ردود فعل اردوغان على أحداث ال احتجاج في المدن التركية، حيث وصف المحتجين بـ "حفنة من المخربين" تارةً، فيما وصف الاحداث بانها "مؤامرة من الخارج" تارةً اخرى. والأنكى من ذلك؛ تسافله الى حد المزايدة بالدعم الجماهيري في الشارع، حيث ادّعى أنه قادر على مائة ألف انسان، اذا هددوه بتحشيد ألف متظاهر، ثم مليون انسان اذا كان الطرف المقابل لديه مئة ألف...! وأكد اصراره على تنفيذ مشروع المركز التجاري في ميدان تقسيم على أنقاض الحديقة القديمة التي تذرّع بها المتظاهرون للاحتجاج عليه.

وهكذا وضع أردوغان نفسه في الزاوية الحرجة داخلياً وخارجياً، فبعد عودته من رحلته للمغرب العربي، يفترض أن يواجه مطالب المتظاهرين، والمطالب الدولية بالحفاظ ما أمكنه على الوجه النظيف في تعامله مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي التركي. وأهمية هذا تتأكد لدى أرودغان، بعد مساعيه الكبيرة لحل جزء كبير من مشكلته مع أكراد تركيا بدفع مقاتلي حزب العمال الكردستاني الى الاراضي العراقية وإنجاح اتفاقية السلام مع هذ الحزب، وإن كان الثمن، انتهاك السيادة  العراقية.

معظم المراقبين يرون أن الاحداث في تركيا مرشحة للتصعيد والتأزم، مع عدم وجود أية ليونة من جانب أردوغان، لاسيما وأن الاحداث تسير باتجاه ما يسمى بـ "كسر العظم"، إذ ان مواقف الأخير لا تنئ عن وجود حلول وسط يمكن أن تنهي الاحتجاجات، مع سقوط قتيلين حتى الآن، وجود أكثر من ألف معتقل في السجون التركية، وانتشار الاحتجاجات في اكثر من مدينة في تركيا.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 8/حزيران/2013 - 28/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م