مكافحة الفساد في العراق بنسخته الدولية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: ما دام البحث عن "النزاهة" في العراق، وفي أي بلد آخر، يتطلب الاستنارة بالسلوك القويم والصفات الاخلاقية الحسنة، لابد من الاهتمام بالجهد التربوي والتعليمي في المجتمع لتوعية الناس على مضار ومخاطر الفساد الإداري والمالي، بموازاة الاهتمام بالجهد الرقابي واجراءات المحاسبة المعاقبة. تماماً؛ كما هو نظام المرور.. حيث لن يستتب نظام مرور في العالم، ولن يظهر الوجه الجميل لحركة السيارات والمارة، إلا بتعاضد الثقافة الاجتماعية، مع الثقافة القانونية.

واعتقد أن الأمر في بلادنا الاسلامية لن يكون بالصعوبة الكبيرة كما في سائر البلاد، لوجود الأرضية الصالحة والخصبة للثقافة الاجتماعية السليمة تغذيها منظومة متكاملة من القيم والمفاهيم الدينية، مما يجعل السلوك العام فيما يتعلق بنظافة اليد خلال التعاملات المختلفة، أمراً وجدانياً وليس قسرياً، ومن باب أداء الواجب وحسب، كما هو في كثير من بلاد العالم، حيث ما أن يرتفع الواجب حتى يكون التسابق لانتهاز الفرص على قدم وساق.

وهذا يدفعنا للقول أن مبادرة وزارة التربية العراقية "بإطلاق مناهج جديدة لكل من المدارس الابتدائية والثانوية في العراق، بهدف زيادة الوعي والادراك لمفاهيم النزاهة والشفافية وحقوق الإنسان والأمانة في المجتمع العراقي"، جاءت متأخرة، فقد أمضينا عقداً من الزمن، أي عشر سنوات على زوال الديكتاتورية و عهد الظلم والحرمان والتخلف، وها نحن اليوم نفكر من نقطة الصفر، كيف نبني الجيل الجديد على النزاهة والشفافية وحقوق الآخر. وربما لا يجهل المعنيون معنى "الجيل"، فهو يمتد على فترة ثلاثين عاماً، وعشر سنوات هي ثلث الفترة الزمنية، فهل يجب تناسيها وتجاهلها وكأن شيئاً لم يكن.؟!

طبعاً لا تصحّ الحسرة على الماضي، إنما يجب البدء من اليوم فصاعداً لمكافحة شاملة وحقيقية لظاهرة الفساد والاختلاس والتطاول على حقوق الآخرين، وربما تكون فترة العشر سنوات الماضية وما خلفته لنا من أرقام الاختلاس المهولة، دعوة مؤكدة ليس فقط للجهات الحكومية والرسمية، إنما لمنظمات المجتمع المدني والحوزة العلمية والاحزاب والجماعات السياسية، والمؤسسات الثقافية والنقابات والاتحادات المهنية، لأن تهبّ هبة واحدة نحو هذا الخطر الماحق، فقد تزامن نشر المبادرة الحكومية، مع خبر مريع آخر من هيئة النزاهة بأنها أحالت خلال الثلث الأول من العام الحالي (1876) ملفاً لقضايا فساد تتجاوز أصول مبالغها (113) مليار دينار. "و أوضحت الدائرة القانونية للهيئة في تقرير تفصيلي، أن "القضايا التي دفعتها الهيئة ومكاتبها في المحافظات - عدا اقليم كردستان- تشمل (1876) متهماً بممارسات فساد في قضايا بلغ مجموع مبالغها (113) ملياراً و (316) مليوناً و (95) الف دينار".

صحيح أن الحكومة لها دوائرها وامكاناتها وسلطاتها المتنفذة، وأن الشعب العراقي، كما الشعوب الاخرى في عالمنا الاسلامي، مطبوع على منطق القوة متفاعل مع لغة العقاب والمحاسبة والمراقبة، لكن لا يعني هذا الاعتماد كلية على الدولة، ليبقى الناس متفرجون ينتظرون النتائج الجاهزة، وما اذا كانت تلائم ظروفهم وأوضاعهم، وقابلة للتطبيق أم لا.. ثم من يضمن نجاح الخطط والبرامج الحكومية لمكافحة الفساد والرشوة والاختلاس؟ هل كاميرات المراقبة ورجال المحاسبة وغيرها من الاجراءات القانونية والأمنية والمخابراتية..؟ أم يد المساعدة الطويلة والبعيدة من الأمم المتحدة وبرنامجها الإنمائي الموسوم (UNDP)؟ والمثير حقاً، أن تعلن وزارة التربية والتعليم أن من شأن هذا البرنامج الدولي أن يساعد العراق على "زيادة الوعي والادراك لمفاهيم النزاهة والشفافية وحقوق الإنسان، في مبادرة مبتكرة هي الأولى من نوعها في العراق"! ولنقرأ ما تقوله جاكلين بادكوك، المنسق المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بأنه "سوف يتم من خلال هذه المناهج غرس قيم هامة في الجيل القادم في العراق"!

ولنا أن نسأل؛ اين دور منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والثقافية من مناهج التعليم، بل ومن سلوك الكادر التدريسي والوظيفي في العراق..؟ ثم ألا يدلنا هذا الكلام، على أن العراقي أبعد بكثير من شخصية دولية تأتي من وراء البحار، في المسافة الى المدرسة ليقدم البرامج التربوية والتثقيفية التي توجه الطلاب وابناء الجيل الجديد الى قيمة الأمانة والصدق والتكافل الاجتماعي، وحب الخير للآخرين؟ وسؤال آخر؛ هل يجب أن نقبل باستيراد المفاهيم الاخلاقية من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ولا نقبلها من منظمات اسلامية لها جذورها واتصالها المباشر بالمجتمع؟

هنالك أسئلة عديدة ومحيّرة حقاً لابد من الاجابة عليها، ولو أنها تدخلنا في مسار جديد من جدلية العلاقة بين النظام السياسي الحاكم في بلادنا وبين منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية والدينية، لكن في كل الاحوال يتعين علينا، العمل المشترك والمتكامل بين مؤسسات الدولة من أجهزة تنفيذية وقضائية وأمنية، وبين مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، إن كانت هنالك حقاً نية صادقة في مكافحة الفساد من جذوره الاجتماعية والنفسية في العراق، كما في سائر البلاد الاسلامية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/حزيران/2013 - 23/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م