هل هناك طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية؟

علي الأسدي

الحياة ما بعد الاشتراكية

تخلى مواطنو الاشتراكية في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي عن اشتراكيتهم بدون أدنى مقاومة أو اعتراض في اقرب فرصة سنحت لهم، واختاروا بمحض ارادتهم الدخول الى الجنة الرأسمالية. لم تكن الجنة الموعودة في الآخرة، بل الجنة الأرضية القائمة خارج حدود دولتهم الاشتراكية التي غادروها. كانت الرأسمالية للكثير منهم جنة يحلمون بالوصول اليها بأي ثمن، وبالفعل وبعد تبني بلادهم للنظام الرأسمالي حزموا أمتعتهم وسافروا بالملايين الى الغرب الرأسمالي بحثا عن حياة أفضل.

حلوا هناك للتعرف فيما اذا سيستطيعون بناء حياة لم يستطيعوا بناءها في ظل الاشتراكية، لقد نجح البعض وأخفق البعض الآخر. المحاولة بالنسبة لهذا الجيل جزء من طموح الفرد لبناء حياة أفضل، وهي سمة إنسانية ايجابية وطبيعية يتميز بها الانسان عن غيره من الكائنات. عاد أكثرهم بعد نفاذ مدخراتهم وخيبة أملهم باستثناء نسبة قدرت بين 10- 15% منهم لم يستسلموا لليأس.

لمن ولد في الدولة الرأسمالية (الاشتراكية السابقة) لا يعرف الكثير عن حياة الاشتراكية عدا تلك التي يحدثهم عنها أفراد عائلاتهم. لذلك فهم يواجهون تحديات لم يواجهها الجيل السابق الذي لم يقاسي من البطالة، ففي ظل الاشتراكية يعتبر مبدأ العمل للجميع التزاما حكوميا بقي ساريا لآخر يوم من حياة النظام.

بالنسبة للكثير ممن شعر بالسعادة بحياته الجديدة واجه خيارا صعبا، فالدولة في النظام الجديد غير ملزمة بتوفير وظائف لمواطنيها، وعندما ساءت أحوالهم الاقتصادية بعد التحول لنظام اقتصاد السوق الرأسمالي اضطروا للسفر مرة أخرى وهذه المرة مجبرين لا مخيرين بحثا عن مصدر رزق يساعدوا به انفسهم وعائلاتهم بعد فشلهم في الحصول عليه في بلادهم. فتحت ضغوط البطالة التي طالت أكثر موظفي القطاع الاشتراكي الذي بيع لشركات أجنبية ومحلية اعتمدت سياسة توظيف جديدة قلصت بموجبها عدد العاملين فيها لتخفيض تكاليف العمل الى أدنى ما يمكن لضمان نسب ربح أعلى. أمام هذا التسريح الواسع للعمال ارتفعت نسبة البطالة الى حدود غير متصورة ولا متوقعة.

اليوم ومع الركود الاقتصادي الذي يخيم على دول أوربا والولايات المتحدة، تشح فرص العمل يوما بعد يوم في الغرب أيضا، والمنافسة الحادة والمؤلمة تدفع بالعاطلين عن العمل للقبول بأي فرصة عمل متاحة بأجور تقل كثيرا عن الحد الأدنى السائد في الغرب.

 لقد شكلت هذه الظاهرة فرصة لأرباب العمل في الدول الغربية لتعظيم أرباحهم مستغلين حاجة الاحداث من الذكور والاناث من دول الاشتراكية السابقة المضطرون لمساعدة عائلاتهم التي تعاني الفقر في الوطن. لكن الأحوال هناك تتجه للتردي أكثر وأكثر مع السماح لدخول العمال من بلغاريا ورومانيا الذين سيحق لهم السفر الى الاتحاد الأوربي في وقت لاحق من هذا العام دون الحصول على سمة الدخول الى دول الاتحاد.

حيث يتوقع أن يكون بين النازحين البلغار والرومان الكثير من الفقراء وقليلي التأهيل من أصول رومانية (الجبسي) المستعدون للقيام بمختلف الأعمال وتحت اي ظروف عمل، وبأدنى الأجور. وترتفع في بعض دول الاتحاد الأوربي أصوات المعارضة ضد السماح بدخول الوافدين من تلكم الدولتين تحت تأثير المشاعر العنصرية التي تزايدت كثيرا في السنوات الأخيرة.

اليوم يشكل البحث عن عمل هما يوميا في البلاد الاشتراكية السابقة، فللفوز بفرصة عمل واحدة في بولندا مثلا عام 2008 تطلب منافسة 7 عاطلين آخرين للفوز بتلك الفرصة الشاغرة. وفي عام 2011 أصبح على الباحث عن عمل مواجهة 38 باحثا آخر ينافسه على تلك الفرصة المتاحة. تجربة لم تخطر ببال أولئك الذين عارضوا الاشتراكية واحتفلوا بسقوطها..(1)

بين عام 1990 - 2003 فقد حوالي ثلاثة ملايين عامل أعمالهم في بولندا وحدها، وعلى الباحث ان يقيس على ذلك ما جرى في البلدان الاشتراكية السابقة. ففي عام 2011 بلغ عدد من هاجر الى الغرب حوالي مليوني عامل بولندي، منهم 30,2% في المملكة المتحدة , و21,6% في ألمانيا، و11,4% في الولايات المتحدة، و6,5% في ايرلندا، و4,6 في هولندا.(2)

واعتبارا من عام 1989انخفض دور قطاع الزراعة في الناتج المحلي الاجمالي لبولندا من 29% الى 17,2% و الناتج الصناعي من 35,2% الى 29,2% بينما ارتفع دور الخدمات من 35,8% الى 55% في الفترة ذاتها. ومع ان الاقتصاد البولندي قد حقق نموا ايجابيا عام 2009 بنسبة 1,6% لكنه لم يخلق فرصة عمل واحدة.

ففي الوقت الذي يتزايد عدد العاطلين عن العمل تنتشر ظاهرة الفقر بين السكان، بما يذكر بمصاعب الحياة والعوز التي كانت منتشرة قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها. ويقدر عدد العطلين عن العمل بين الفئات العمرية 25 – 64 عاما حوالي 2,5 مليون عاطل عام 2009، ونفس العدد تقريبا دون 25 عاما في عام 2011.(3)

أما في روسيا فقد بلغت نسبة البطالة في عامي 2011 و2012،5,5% و 6,5% على التوالي، ليصل عدد العاطلين فيها بحدود 5 ملايين عاطلا في الفترة نفسها.(4) وفي بلغاريا بلغت نسبة البطالة 11,9% عام 2013 في وقت كانت في الفترة 1980- 1988 صفرا فقط.(5) وفي سلوفاكيا كان متوسط نسبة العاطلين عن العمل بين 2001 – 2013، 14,27% (6) و(7)

أمام هذا الفشل في الأداء الاقتصادي لدول الاشتراكية السابقة ما يزال الأمل معقودا على تحسن الحالة الاقتصادية في السنين القادمة، لكن ليست هناك أي مؤشرات على ذلك فارقام البطالة تتزايد دون توقف والتفاوت الصارخ وانعدام المساواة يزدادان اتساعا بين من يملك ثروة وبين من لا يملك حتى قوت يومه.

 أتستحق الرأسمالية كل هذه التكاليف الاقتصادية والاجتماعية الباهظة للانقلاب على الاشتراكية..؟

فالمشاكل الاقتصادية في الدول الرأسمالية المتقدمة تتعاظم بنفس الوقت الذي تزداد فيه الأعباء الاقتصادية على شعوبها يوما بعد يوم، ولا يبدو في الأفق أي انفراج يحررهم من الأزمة الاقتصادية الراهنة. اما الحريات السياسية التي كانت مقننة في الاشتراكية واطلق لها المجال واسعا بعد الانتقال للنظام السياسي التعددي فلم تغير من واقع حياة المواطن العادي كثيرا، لأن حجم الانفتاح السياسي والفكري لم يكن سيئا في دول أوربا الشرقية مقارنة بالاتحاد السوفييتي.

الدول الاشتراكية في أوربا الشرقية كانت مدارة من قبل تحالف سياسي يقوده الحزب الشيوعي في الدولة. التحالف كان مكونا من أحزاب برجوازية وطنية صغيرة تمثل فئات المزارعين واصحاب الحرف الفردية والتعاونية ومثقفين من المستقلين. كان التحالف يناقش السياسات الاقتصادية للبلاد عبر مشاورات تتم على مختلف الصعد وتقر عبر المؤتمرات الخاصة بتلك الاحزاب، وقد استمر العمل بهذا المبدأ حتى الأيام الأخيرة من النظام الاشتراكي.

لم تكن تلك التشكيلات الحزبية البرجوازية من القوة لتفرض شخصيتها المستقلة في النظام القائم حينها، حيث لم يكن القصور في تلك الاحزاب، وانما في الحزب الشيوعي الذي يقود الدولة، فهذا لم يتح لها الفرصة الحقيقية ليكون لها دورا فاعلا في السياسة اليومية. وكانت ستكون فرصة بالغة الأهمية للسير قدما بتلك التجربة الديمقراطية، وباعتقادي انها أكثر فاعلية من دور الحكومات الائتلافية في الدول الصناعية الأوربية واكثر استقرارا.

لكن تلك التجربة و تلك الامكانية قد تلاشت تماما وذهبت مع التجربة الاشتراكية ولم ينتبه لها أحد أو يقدر أهميتها ودورها، وفيما اذا ستتوفر مرة أخرى فرصة لقيام ديمقراطية شعبية في ظروف دول أوربا حيث الائتلاف بين الاحزاب السياسية البرجوازية الحالية يثبت فشله في ضمان الاستقرار السياسي وتنمية اقتصادية مستدامة لدوله.

لكن يبدو ان السلطات الجديدة في دول الاشتراكية السابقة سعداء جدا بما حققوه عبر ديمقراطيتهم الجديدة، وبما هم فيه من رخاء شخصي. ولا يبدو الوضع الاقتصادي لبلدانهم مثيرا للقلق، فلماذا عليهم أن يقلقوا وهم يواجهون المشاكل الاقتصادية في بلدانهم من بطالة وفقر، فليس هم وحدهم من يواجه هذه المشكلات، فالاقتصاد الرأسمالي ودوله المتقدمة هي الأخرى تعاني من البطالة والفقر.

 لقد أدت الاشتراكية دورها وغابت عن المسرح الدولي للأسباب التي لم تعد خافية على أحد، ولم يعد مستساغا سياسيا تكرار الحديث أو لعب دور المدعي العام للدفاع عن سياسات دولها بنجاحاتها واخفاقاتها. فالقيام بهذا الدور لم يعد متاحا، بعبارة أخرى لم تعد له ضرورة بعد أن غادر المحكمة القضاة والمحلفون والشهود والجمهور كذلك.

 واذا كانت العودة للاشتراكية كبديل وحيد للرأسمالية لم تعد ممكنة فماذا يكون البديل القادم اذا انهارت الرأسمالية هي الأخرى..؟؟

ماذا هو البديل القادم اذا انهارت الرأسمالية؟

لقد ضمنت الرأسمالية مصالح القلة على حساب الأكثرية، وتحت تأثير شعور القلة بالغرور الذي تصاعد بعد انهيار المنافس الأعظم والعدو الاقتصادي الأكبر النظام الاشتراكي نظر الى الرأسمالية بضيق أفق وكأن العالم أصبح ملكا لهم. اقتصاد السوق الذي لم يتجرأ احد على الشك فيه أبدا تظهر عيوبه اليوم أمام أعين قادة واقتصادي حكومات الدول الرأسمالية. ولا نحتاج الى كثير جهد لنرى بأن النظام الرأسمالي العالمي واهن ويتحطم أمامنا، لكن السؤال هو، كيف يستطيع العالم اصلاحه أو انقاذه من التداعي أكثر فأكثر..؟

لقد تجاوزت الولايات المتحدة أزمتها الاقتصادية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حين استثمرت بلايين الدولارات في اقتصاد الحرب لدعم حلفائها بريطانيا والاتحاد السوفييتي بصادرات السلاح قبل أن تقرر هي المشاركة فيها نهاية عام 1941. وبنفس الوقت كانت هي ممولهم الرئيسي بالمواد الغذائية مقابل قروض سددت لاحقا.

لقد عجلت تلك الاستثمارات في الحقول الاقتصادية المختلفة الى خروج الولايات المتحدة من أزمتها الاقتصادية، محققة انتعاشا ورخاء اقتصاديا بعد أطول وأصعب أزمة اقتصادية في تاريخها. انها الآن في وضع اقتصادي كثير الشبه بالحالة التي سادت ابان الركود الكبير 1929- 1939.

فمنذ تسلم الرئيس رونالد ريغن الرئاسة الأمريكية ولحد اليوم وظاهرة العجز في الميزانية المالية تتزايد، وتراكم الدين العام وصل مع بداية الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما حوالي 17 تريليونا من الدولارات. أعباء الدين وحدها الناتجة عن الفوائد تبلغ حوالي 20 ألف دولار في الثانية الواحدة، ويزداد الدين العام بنتيجة ذلك بمقدار 3 بلايين دولارا في اليوم الواحد، ويتوقع أن يصل الدين العام الى 20 تريليون دولار خلال السنوات القليلة القادمة.

الدين العام بهذا الحجم بالنسبة لدولة كالولايات المتحدة يشكل معضلة اقتصادية يصعب الخروج منها في ظل سياستها الممالئة للقلة الثرية، اضافة لذلك فهي أمام التزامات عسكرية ونفقات غير متناسبة مع نموها الاقتصادي السنوي الذي بقي يتراوح حول 1% للعام الخامس على التوالي مع الأخذ في الاعتبار سنوات الانكماش. فقواعدها العسكرية وجنودها منتشرين في العالم على الأرض وفي البحار والمحيطات بميزانية مالية وصلت نسبتها في بعض السنوات الى 14 % الدخل القومي الاجمالي، وهو مبلغ باهظ جدا في زمن السلم.

هذا عدا الاحتفاظ بجاهزية حلف التاتو الذي كان هدفه الأساسي تحدي القوة السوفييتية وحلف وارشو الذي لم يعد لهما وجود. هناك ايضا مساعدات اقتصادية وعسكرية تقدمها الولايات المتحدة الى دول لا تحتاجها مثل اسرائيل، فهذه تستلم مساعدات اقتصادية تصل الى حوالي 8 ملايين دولارا في اليوم الواحد عدا مساعدات اخرى غير معلنة. تقوم الولايات المتحدة بذلك بنفس الوقت الذي تقلص فيه مساعداتها الاقتصادية للدول الفقيرة الى أقل كثيرا من النسبة التي حددتها الأمم المتحدة للدول الغنية وهي 0,7% الناتج القومي الاجمالي.

لا يستغرب ان يكون الدين العام صفة ملازمة للسياسات المالية في الولايات المتحدة، فمنذ اعلان الدستور الأمريكي في في 4\3\1789 والدين الأمريكي ينتقل من ادارة منصرفة الى ادارة جديدة باستثناء سنين قليلة. فحينها بلغ الدين العام 75 مليون دولار بما يعادل 900 بليون دولار بدولار اليوم، ما شكل حينها 30% الناتج المحلي الاجمالي. فكيف ستحل الولايات المتحدة مشاكلها وتتحرر من مصاعبها الاقتصادية بعد أن تجاوز دينها العام 100 % ناتجها القومي الاجمالي..؟؟

فهل من المستبعد أن يقرر الساسة المغامرون في الولايات المتحدة لوحدهم أو بالتعاون مع دول أخرى في دفع العالم الى حافة الحرب واحتلال دول يعتبرونها معادية للولايات المتحدة لأجل انقاذ الرأسمالية من مشكلاتها الاقتصادية المزمنة..؟؟

فالحرب وفرض الهيمنة على الشعوب هو اسلوب مازال قادرا على تحقيق الأهداف الاقتصادية اذا ما تعذر تحقيقها بالسياسة. الموارد الطبيعية تتناقص بسرعة في الولايات المتحدة ودول صناعية أخرى وفي مقدمتها الطاقة، حيث البدائل شحيحة ومكلفة وتحتاج الى وقت لتحل محل النفط، علما أن الكثير من التقنيات الانتاجية لا يمكن الاستفادة منها الا بالنفط.

اليمين المتطرف يعزز مواقعه في الولايات المتحدة وبعض دول أوربا، فالحزب الجمهوري الأمريكي ومجموعة الصقور في حزب الشاي لايتحرجون من الدعوة للتدخل العسكري في شؤون دول يعتبرونها خطرا على وجودهم ووجود حلفائهم.

المبررات يمكن ايجادها كما وجدوا مبررات حربهم على العراق. فالنفط ما يزال هدفا لكنه ليس بالهدف السهل كما اثبتت الحرب على العراق. ومع ذلك فشخصيات مثل جون ماكين لا يتورع عن المطالبة الصريحة باعادة الكرة والهيمنة على الدول التي تشكل جزء من احتياطيها النفطي للمائة عام القادمة.

وما يشجع على الشكوك في نوايا اليمين المتطرف الأمريكي في التسبب بحرب جديدة هو أدانتهم لقرار الرئيس الحالي للبيت الأبيض الذي أعلن فيه عن تعهده بوضع نهاية للوجود العسكري في العراق، وقراره بالخروج من افغانستان، والامتناع عن التدخل العسكري الصريح لإطاحة النظام في سوريا. ويضغطون بدون توقف ومعهم اليمين المتطرف الاسرائيلي المتمثل بتحالف بنجامين نتنياهو للتدخل العسكري ضد ايران لتدمير منشآتها النووية بحجة منعها من حيازة السلاح النووي.

ليست هناك ندرة في المغامرين ومشعلي الحروب وبخاصة عندما يشعر هؤلاء بالتفوق العسكري كما ونوعا، وبمعرفتهم المسبقة بان الولايات المتحدة وحلف الناتو يشكلان قوة لا مثيل لها بعد اختفاء المعسكر الاشتراكي وتضاءل الدور الروسي كقوة عسكرية عالمية.

اليمين الأمريكي واليمين الاسرائيلي متفقان على الموقف من ايران ويحرضان على توجيه ضربات تجعلها عاجزة عن تهديد اسرائيل، برغم ما قد تسببه الضربة العسكرية من ردود أفعال غير محسوبة. فاسرائيل بما لديها من تقنية عسكرية وأسلحة متقدمة يجعلها واثقة من تحقيق أهدافها. وحتى ردود الأفعال المحسوبة قد تعرض بلدان المنطقة الى اخطار تلوث اشعاعي نووي أو نفايات كيماوية مدمرة يصعب احتواءها بالقدرات الفنية المتاحة في المنطقة.

فالتلوث الاشعاعي الذي تركته الأسلحة المحرمة دوليا في العراق مثل اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض ماتزال تفتك بمواطنيه الأبرياء دون ان يثير فيهم الشعور بالاثم أو يردعهم عن عدم تكرار الأخطاء التي ارتكبت في العراق.

فاسرائيل واحدة من أهم أربع منتجي ومصدري السلاح في العالم، وصناعتها العسكرية ليست لاغراض دفاعية فقط بل لاغراض تجارية هدفها تحقيق الأرباح لحاملي أسهم شركات صناعة السلاح. ويدفع هذا بالضرورة الى ابقاء الماكنة العسكرية عاملة وفعالة ومربحة على الدوام، ما يعني ان جزء من الناتج القومي للشعب الاسرائيلي سيعتمد على الانتاج العسكري لا السلمي. بعبارة اخرى جعل حياة الناس ورخائهم معتمدا على عدد ما يقتل من الناس بل على المزيد من القتل. وما ارتكب في غزة في الاعوام السابقة مثالا حيا بسبب المبالغة المفرطة في استخدام القوة العسكرية هناك.

للجنرال دوايت ايزنهاور رئيس الولايات المتحدة الأسبق مقارنة بالغة المعنى أوردها عام 1953 بين فيها الفرق بين الانتاج العسكري والمدني قال فيها:- (9):

" ان كل بندقية تصنع، وكل اطلاقة صاروخ تمثل في نهاية المطاف سرقة من أولئك الجوعى والذين يعانون من البرد وليس لهم ما يكفي من الملابس. وان تكلفة واحدة من الطائرات القاصفة تساوي بناء مدرسة جديدة في ثلاثين مدينة، وان ثمن واحدة من الطائرات المقاتلة يعادل نصف مليون كيس من القمح"

لقد بلغت قيمة صادرات الاسلحة الاسرائيلية الى الخارج 7,2 بليون دولار في عام 2010 وهي في تزايد. ويقول الجنرال شمايا أفيلي المدير العام لقسم مبيعات السلاح في وزارة الدفاع الاسرائيلية:- (10)

" نحن نعمل بصعوبة للابقاء على مستوى مبيعات السلاح الحالية، ومن المحتمل أن تزداد المبيعات ". ومن الدول التي اشترت السلاح الاسرائيلي الهند والصين ودول الناتو، وتبحث لها عن زبائن في دول العالم الثالث في أفريقيا وأمريكا الجنوبية.

في عام 1961 ترك الرئيس دوايت ايزنهاور منصبه محذرا من تعاظم قوة الصناعة العسكرية في الحياة الأمريكية. وفي كلمته الأخيرة لشعبه، طالب بضرورة الابقاء على التوازن بين العسكرة والحياة المدنية في الاقتصاد الوطني. حيث كان قلقا من أن الصناعة الدفاعية تبحث عن الربح الذي يحرف السياسة الخارجية. وحذر من ان التحضير المستمر للحرب يناقض مصلحة الأمة. (11)

الرأسمالية الأخرى

يكاد يتفق أكثر الاقتصاديين في الدول الغربية على أن الرأسمالية قد وصلت مرحلة لم تعد فيها قادرة على تحقيق التراكم الرأسمالي المطلوب الذي يشجع على الاستثمار في الموارد الاقتصادية ويحسن حياة الناس. ويعود السبب بوجه خاص للرأسمالية ذاتها لسياساتها الجائرة وغير المسئولة في التعامل مع الموارد الاقتصادية المادية النادرة مخلفة خرابا بيئيا غير قابل للاصلاح. رأسمالية اليوم هي رأسمالية القلة الثرية التي اتحدت مع السلطة السياسية في بلدانها لتحقيق المزيد من الثراء على حساب الأكثرية.

ففي رأي هذا الفريق الذي سنناقش رأي أحد أبرز ممثليه وهو الاستاذ ديفيد كورتين بعد قليل، أن النظام الرأسمالي الحالي الذي يخدم القلة في المجتمع قد أخل بمبادئ اقتصاد السوق والديمقراطية السياسية. ومن الضروري لاستعادة مصداقية نظام اقتصاد السوق ينبغي ازالة ممثلي تلك القلة ومؤسساتها وأدواتها من الحياة الاقتصادية.

بديل الرأسمالية هنا لا يخرج عن النظام الرأسمالي السائد اليوم، بل يبقى في صلبه، ويتحرك ضمن اطاره العام، فقانون الربح وسبل تحقيقه، ونظام الحكم وسلطته السياسية ووسائل الانتاج تبقى في ايدي البرجوازية الحاكمة، دون اشارة ولو عابرة لملكية اجتماعية عامة تضمن حقوق الأكثرية. فالبديل هنا ليس نظاما اقتصاديا جديدا، بل استبدال سارق كبير بسارق أصغر فكلا السارقان يشتركان في استغلال قوة العمل للاستحواذ على فائض قيمة العمل.

بينما يرى آخرون بأن الرأسمالية قادرة على استعادة قوة دفعها وتحقيق النمو الاقتصادي بعد أن تتجاوز الأزمة الاقتصادية الحالية. يعبر عن هذا الرأي الاقتصادي البروفيسور روبرت سكيدلسكي. ففي مقاله تحت عنوان " The World After Capitalism" - العالم ما بعد الرأسمالية - كتب مايلي: (12)

" اليوم أتساءل فيما اذا سيكون لنا عالما ما بعد الرأسمالية. التساؤل لم أطرحه بسبب ما تواجهه الرأسمالية من ركود هو الأسوء منذ الأزمة الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي، فالرأسمالية كان لها دائما أزمات، وسيكون لنا الكثير منها. ربما يكون مصدر هذا الشعور هو نتيجة لفشل النظام في المجيء بمبادرات جديدة تشكل مصدرا للتراكم الرأسمالي، وهذا ما يخيب أملنا في الاستمتاع به. الرأسمالية ربما تقترب من الحالة التي لم تعد فيها قادرة على تحسين حياة الناس على الأقل في البلدان الغنية."

ويقول في مكان آخر من مقاله: " لقد كانت الرأسمالية وما تزال نظاما يتجاوز الندرة من خلال تنظيم الإنتاج بفاعلية وتوجيهه للرخاء، انها حسنت حياة جزء كبيرا من سكان الأرض حيث أنقذتهم من الفقر." لم يبين الاستاذ سكيدلسكي أين يكمن عجز الرأسمالية الذي بسببه لم تعد قادرة على تحسين حياة مواطني الدول الغنية، انه فقط يذكرنا بأنها حسنت حياة جزء كبيرا من سكان الأرض خلال تاريخها، ولم يذكر فيما اذا ستكون ستكون قادرة على فعل الشيئ نفسه بالموارد الاقتصادية الحالية بعد أن استهلكت أكثرها في الماضي.؟

وعودة الى الفريق الأول وممثله الاستاذ ديفيد كورتين الذي كان أكثر وضوحا في تشخيصه لأسباب عجز الرأسمالية عن تحقيق عدالة توزيع الثروة، طارحا في الوقت نفسه البديل الرأسمالي الذي لو تحقق بحسب رأيه لأدى الى ازالة عدم المساواة في المجتمع. ففي مقاله Life After Capitalism " " الحياة بعد الراسمالية كتب يقول: (13)

" الاقتصاد القديم المتسيد يموت، واقتصاد جديد يولد للحياة والشراكة يشق طريقه للظهور حيث يجعل المستقبل خيارنا. فنحن نعيش عالما رأسماليا تغتني فيه قلة على حساب الآخرين. لقد وصلنا مرحلة من التاريخ البشري أصبح انقاذ الحضارة الانسانية وربما حياة الكائنات يعتمد على ازالة تلك المؤسسات الرأسمالية الدولية، واحلال غيرها نختارها ديمقراطيا تجعل من نظام اقتصاد السوق في صالح المجتمع".

 النظام الرأسمالي بصورته الحالية بحسب رأيه هو عبارة عن نادي لأصحاب المال ومديري المصارف والمضاربين بالمال الذين يدفعون بأسعار السلع وأسعار الفائدة الى مستويات لا علاقة لها بالواقع. وان الرأسمالية قد انحرفت عن مبادئ نظام اقتصاد السوق الذي يحقق تلقائيا مصلحة الفرد والمجتمع عبر ما اطلق عليها اليد الخفية.

آدم سمث الذي ارتبط اسمه باقتصاد السوق بين " بان الفرد يحقق مصالح المجتمع بدرجة أكبر لو توافر على خدمة شؤونه الخاصة مما لو خصص وقته وجهده لخدمة المجتمع ". فاذا ما حقق كل فرد مصلحته الشخصية وحقق سعادته فان هذا يعني تحقيق مصلحة المجتمع ككل. ترك الأفراد يختارون نشاطهم الاقتصادي سيخلق منافسة شريفة تمنع استغلال الجماعات بعضها لبعض، حيث يقوم جهاز الثمن بتحديد نوعية وكمية السلع والخدمات التي يجب ان تنتج.

مثل هذه الميكانيكية لم تعد قائمة في عالم اليوم، ربما ما يزال لها وجود في قرى وضواحي نائية في البلدان النامية مثل العراق ومصر، لكن ليس في اقتصاد معولم. ويصعب تصور العودة لتلك الميكانيكية في ظل وجود الشركات متعددة الجنسية التي صهرت اقتصاد الدول الرأسمالية في اقتصاد رأسمالي عالمي واحد. حيث تخضع حركة رؤوس الأموال في هذا الاقتصاد لهيمنة عدد محدود من أصحاب المصالح تشكل المضاربة بالأموال نشاطها الرئيس لتحقيق الربح السريع.

فمثلا من مجموع 2 تريليون دولار تستثمر في المضاربات المالية يوميا في الولايات المتحدة، منها 1% فقط تستخدم في تجارة المواد السلعية والخدمات، أما ما يتحقق من ارباح عبر المضاربة فيذهب الى الواحات الضريبية المعفاة من الضرائب، بنفس الوقت الذي يتعرض آخرون لخسائر أثناء انفجار الفقاعات المالية.(14)

مثل هذه النشاطات المالية التي تتعامل بتريليونات الدولات لا علاقة لها بالاقتصاد السلعي الحقيقي المفيد، وليس ذلك فحسب فهي توجه موارد مالية هائلة الكم بعيدا عن النشاط الاقتصادي الانمائي. استبعاد هذا الكم من الأموال يقود الى نتائج كارثية على الاقتصاد المحلي والعالمي، وما الركود الاقتصادي الحالي وتضخم أعداد العاطلين عن العمل الا نتيجة مباشرة له. وكنا شهودا على ما تركته فقاعة أزمة الرهون في الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي والتي مازالت آثارها حية حتى اليوم.

ولأن السياسات الاقتصادية للحكومات الرأسمالية لم تتغير جذريا عن سابقتها قبل الأزمة الاقتصادية الأخيرة فان استعادة الاقتصاد الرأسمالي لعافيته تظل مشكوكا فيها، وتجعل من احتمال بدء الانتعاش امرا مستبعدا على عكس ما يروج في الصحافة عن انتعاش وشيك. فالاقتصاد الأمريكي مايزال يعيش حالة الأزمة منذ بدء الرئيس جورج بوش حربه على أفغانستان والعراق، ولا يختلف الرئيس الحالي عن سابقه في تخبطه السياسي والاقتصادي.

فالحرب ضد سوريا وايران مايزال موضوعهما مطروحا على الطاولة منذ أمد كما يكرر ذلك دائما، والحرب تأخذ مداها في باكستان ضد طلبان الباكستانية في وقت ماتزال الحرب مستمرة ضد طالبان أفغانستان. كل هذه الأحداث لا تساعد على تجاوز الأزمة الاقتصادية في الداخل الأمريكي، أو تساعد الاقتصاد العالمي للخروج هو الاخر من حالة الركود التي يعيشها.

البروفيسور رالف ايست الاستاذ في الجامعة الأمريكية في واشنطن قدم في عام 1994 دراسة احتوت تقييما للتكاليف التي تحملها الشركات الكبرى المعولمة للمجتمع الأمريكي سنويا على شكل منتجات فاسدة، أو ظروف عمل سيئة وغير آمنة ونفايات ضارة بالحياة والبيئة. وبعد أن استثنى الاعفاءات الضريبية والدعم الحكومي لتلك الشركات من حسابه خرج برقم صاعق بلغ 2,6 تريليون دولار. (15)

يشكل هذا المبلغ خمسة أضعاف الأرباح التي تحققها تلك الشركات سنويا، ما شكل 37% الناتج القومي الاجمالي للولايات المتحدة في ذلك العام، يعكس هذا النفوذ الواسع المتشعب لتلك الشركات داخل النظام السياسي الأمريكي. ويشير هذا بنفس الوقت الى أي مستوى وصل عدم المبالاة وضعف الرقابة المحاسبية ومواصفات الجودة في بلد يعتبر الأكثر تقدما بين دول العالم في علوم الادارة والتنظيم..؟

يذكر الصحفي بيتر فوستر في مقاله في صحيفة ذي تلغراف " بعد الرأسمالية " (16) ان النظام الرأسمالي يتعرض لأزمة اخلاقية أكثر وضوحا من تلك التي رافقت أزمة الثلاثينيات، حيث أثبتت ان الربح يحتل المرتبة الأولى في الرأسمالية، حيث يتقدم على أية مصالح أخرى. بعبارة اخرى اذا كانت المفاضلة بين انقاذ مليون مواطن من الجوع أو انقاذ شركة من الافلاس فان انقاذ الأخيرة هي أولوية في الرأسمالية. وهو ما حصل بالضبط عندما قام الرئيس رونالد ريغان بتمويل صفقة انقاذ مؤسستين ماليتين من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين بمبلغ قدره 17 تريليون دولار بما يقل قليلا عن الناتج القومي للولايات المتحدة لذلك العام.

هذا المبدأ غير الأخلاقي يحكم الساسة الأمريكيين قاطبة، فقد اتخذت قرارات مشابهة من قبل الرئيسين جورج بوش وباراك أوباما، وكررته حكومات رأسمالية كثيرة بينها المملكة المتحدة وفرنسا وايرلندا واسبانيا والبرتغال لدعم الشركات والمؤسسات المالية على حساب دافعي الضرائب. بنفس الوقت قامت حكومات تلك الدول بخفض التأمينات الاجتماعية واعانات البطالة لتعويض الأموال التي دفعت للمؤسسات المالية المتعثرة..

يجري هذا في وقت يزداد الأغنياء غنا، فقد بلغت ملكية 442 بليونيرا في الولايات المتحدة 5,4 تريليون دولارا عام 2013 بينما كانت ملكيتها 4,6 تريليون دولارا عام 2012. كما وصل عدد أصحاب الملايين حوالي 3 ملايين مليونيرا عام 2013 مقارنة بعام 2012 حيث بلغ عددهم نحو 2,86 مليون مليونيرا. بلغت ثروتهم 11,6 تريليون دولار. (17)

ان مثل هذه القسمة الجائرة للثروة لا يمكن أن تستمر الى ما لانهاية، فاما أن يطاح بالقلة الثرية الحاكمة بثورة جماهيرية بقيادة البروليتاريا تضع الموارد المادية في خدمة المجتمع، أو العودة الى الغزو الاستعماري للسطو على ثروات الشعوب الأخرى من أجل اشباع نهم الراسمالية. وهذا هو الآخر سيؤدي الى استنفاذ الموارد الطبيعية من أرض ومياه وغابات لصالح القلة نفسها وبالطريقة نفسها التي استغلت لحد اليوم من أجل المال وهو ما سيؤدي الى نهاية الحياة على الأرض.

..........................

الهوامش:

 Michal G. Polakowski , Youth Unemployment in Poland ,November 2012 -1

Warsaw Business Journal , 23/4/2013 -2

Federal State Statistics Service

 of Russian Federation -3

2- City Index.co.uk

3- المصدر السابق

4- المصدر السابق

5- Alex Knight , Ends of Capitalism, part i

6- نفس المصدر السابق

7- Aaron Oconnell , New York Times , 4/11/2012

8- upi.com/business

9- Global Issues , Foreign Aid For Development Assistance 8/4/2012

10- Robert Skidelski , Life After Capitalism, Project Syndicate ,20/1/2012

11- David C. Korten , Life after Capitalism , Living Economic Forum

12- نفس المصدر السابق

13- نفس المصدر السابق

14- After Capitalism , The Telegraph , 15/10/2008

 Peter Foster ,

15- Capgemini Merill Lynch

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 30/آيار/2013 - 19/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م