ثمة أسباب وجيهة تعلّل ميلنا الشديد لاعتبار سيناريو مايجري في
سوريا حرباً طائفية بالدرجة الأولى توجه حرابها السامّة نحو الطائفة
الشيعية، وتستهدف محور القوى والدول الشيعية " العراقي - الايراني -
حزب الله " من جهة، والفضاء الشعبي الشيعي المتنامي في " البحرين-
السعودية" من جهة أخرى، أكثر من اعتبار هذه الحرب دفاعاً عن أهل السنة
في سوريا، كما يروّج لذلك مشايخ الدين السنة المتشددين، أو ترمي الى
إسقاط نظام بشار الأسد كما تزعم بعض الأوساط السياسية في العالم العربي
والغربي.
الصبغة الطائفية للحرب لم تظهر في بدايات الثورة السورية، كما سمّيت
حين نشوئها قبل سنتين، ولم تُشهر أبدا أي من الأوراق الطائفية التي
تغطي، بدمويتها، مشهد سوريا المأسوف عليه الآن، بل كانت بداياتها
مظاهرات شعبية بسيطة واعتيادية لديها مطالب معينة استنسخت، الى حد ما،
مثيلاتها التي حدثت قبلها في تونس وليبيا ومصر واليمن، والتي أدت، وعلى
نحو غير متوقع سياسيا، الى سقوط أنظمة وتشكيل أخرى وحكومات جديدة
لازالت لحد الآن ترزح تحت ثقل ارث أخطاء الحكومات السابقة وتحديات
الوضع الجديد الذي يبدو ان الحكام الجدد من الاسلاميين لم يكونوا
مستعدين له.
المظاهرات التي حدثت في سوريا لم تسر مثلما سارت نظيراتها في الدولة
العربية التي سقط الحكم فيها، اذ امتدت لها او اليها نوعان من الأيدي
خارجية:
الاولى: الدول العربية و الغربية التي ساندت علنا حركة المعارضة في
سوريا ودعت الى إمدادها بالسلاح والمال وكل مايمكن ان يؤدي الى إسقاط
نظام الحكم في سوريا دعماً، كما تدعي، للتحول الديمقراطي في المنطقة
واستجابة لتطلعات الشعب السوري، وهذه الدول ليست على نسق واحد في
التوجهات، اذ بعضها، كقطر والسعودية وتركيا مثلا، تدعم المعارضة
السورية وجناحها العسكري بالسلاح والمال ولها اغراضا أخرى غير الاغراض
والاهداف التي لدى دول اخرى تسعى فقط لدعم المعارضة السورية اعلاميا
وسياسيا.
الثانية: الحركات والتيارات الاسلامية الجهادية المتشددة التي دعت
للجهاد في سوريا ضد نظام بشار الاسد، وفعلا بدأ توافد المئات من
المقاتلين من اصقاع الدول العربية، بل وحتى الاوربية، الى ارض سوريا
لــ"الجهاد" ضد النظام الحاكم في سوريا، وهي الدعوة التي ادت الى تلويث
الثورة في سوريا، والغاء الدور الحقيقي للمعارضة، اذ ان المتشددين من
هذه التيارات الاسلامية، وخصوصا جماعات جبهة النصرة وغيرها من
التنظيمات التي تتخذ من تنظيم القاعدة مثالا في العمل والسلوك السياسي
والحربي، قد سرقت الثورة السورية! واصبحت هي القوة السائدة ومن لديها
اليد الطولى في المسرحية السورية، فلهذه الحركات مطالب وأجندات وبرامج
ومناهج تختلف اختلافا جذريا عن المطالب الشعبية للمواطنين السوريين.
وبغض النظر عن أجندات هذه الحركات الاسلامية المتشددة أو افكارهم
البعيدة عن فضاء ثقافة المجتمع السوري المنفتح عموما.. نجد ان تدخل هذه
الحركات المتشددة في الازمة السورية واستلامها مقاليد القيادة العسكرية
من المعارضة العسكرية الرسمية التي تسمى الجيش السوري الحر، قد ادى الى
تخريب الثورة السورية ومطالبها الجماهيرة التي كانت تهدف الى اصلاح
النظام في سوريا ودمقرطته، من خلال ممارساتهم على ارض الواقع وهم
يقاتلون نظام بشار الاسد.
ولم يقف دور تلك الحركات المتشددة عند هذا الامر، فقد بدأت في اعلان
الحرب الطائفية ضد الشيعة مع انهم ليسوا طرفا في هذا النزاع والصراع
بين نظام الحكم في سوريا وشعبه الذي قام بعضهم بالتظاهر ضده، فلا
أمتياز للشيعة في سوريا عن غيرهم من الطوائف، وهم ليسوا نخبة مختارة
ومقربة للسلطة الحاكمة التي حاربت، وعلى نحو واضح، التجربة العراقية
الجديدة منذ عام 2003 وأرادت اجهاض التجربة السياسية للشيعة في العراق
الجديد، فالنظام بعثي علماني لايجامل ولايحابي الا من يقف معه بغض
النظر عن طائفته ودينه ومعتقده .
بدأت الحركات المتشددة عمليات تصفية مواطنين ينتمون الى المذهب
الشيعي جسديا من خلال الاغتيالات والاعدامات التي قامت بها تلك الحركات
والتنظيمات بافظع الاساليب واقساها وأشدها وحشية كما هي على الدوام
اساليب عملهم ومناهج تعاملهم مع الشيعة منذ سنوات عديدة مضت، وهي
الخطوة الطائفية الغبية بــ" امتياز" اذ ان هذه الخطوة، وغيرها من
الخطوات الطائفية الاخرى، قد ادت الى استعداء الشيعة، وهم قوة عظمى
متنامية في المنطقة لايمكن ان يتجاهلها أحد او لايضعها في حسابه وهو
يحاول رسم خريطة المنطقة.
استفزت، عمليات القتل هذه، الشيعة ونبهتهم الى الأجندة التي تحملها
تلك الحركات ضد الطائفة الشيعية، ولكن بالرغم من ذلك لم يتخذ الشيعة
موقفا تجاه تلك الحركات حتى بدأت تلك الحركات باعلان نيتها تهديم مقام
السيدة زينب بن الامام علي بن ابي طالب، وهو مقام مقدس عند الشيعة
ويُزار من قبل المئات يوميا، وقد قامت فعلا بالهجوم عليه والاعتداء
ومحاولتها تهديم المرقد كما فعلوا مع العديد من المراقد التي يقدسها
الشيعة والسنة على حد سواء مثل قبر الصحابي حجر بن عدي الذي هدموا
مرقده ونبش قبره وسرقوا جثته ! في سلوك وتصرف يكشف عن حجم الغل والحقد
الذي تحمله تلك الجهات للفكر الشيعي ومعتقداته.
هنا أصبح التدخل الشيعي، على المستوى الشعبي الشخصي من جهة، والحزبي
المنظم من جهة ثانية، والحكومي الرسمي من جهة ثالثة، من وجهة نظر
البعض، جائزا ومسوّغا لعدة اسباب نجملها أدناه:
1- الدفاع عن المقدسات الشيعية التي تتعرض للتهديد من قبل جبهة
النصرة وغيرها من الحركات المتطرفة وهو ما استدعى تشكيل مايسمى الان
كتيبة لواء ابي الفضل العباس الذي بدأت نواته بالازدياد وأصبح قوة
كبيرة على الأرض يحسب لها ألف حساب اذا ما حاولت تلك القوى الوصول
لمقام السيدة زينب في دمشق.
2- حماية حزب الله اللبناني الذي يجد فائدة كبرى في بقاء نظام الاسد
الذي يقف مع الحزب بقوة وبينهما علاقة استراتيجية لاتخفى على احد، ولذا
ليس من المستغرب اذا ما وجدنا حزب الله يقاتل في سوريا ضد حركات التشدد
والمعارضة التي اعلنت بدورها عدائها لحزب الله.
3- منع سيطرة المتشددين السنة على الحكم في سوريا والتي لاتخفي
عدائها للشيعة وسعيها الجاد الحقيقي بمختلف الوسائل والطرق لاستئصالهم
وابادتهم، ووقف التمدد الشيعي في المنطقة واسقاط قوتهم التي تتصاعد
وتزداد تنسيقا وقوة من ايران الى العراق مرورا بسوريا، التي تتحالف مع
الشيعة على اساس سياسي وليس مذهبي، وصولا الى لبنان وحزب الله فيه،
ناهيك عن الشيعة الذين هم اكثرية في البحرين فضلا عن الشيعة في
السعودية الذين تركز على مظلوميتهم منظمات حقوق الانسان في العالم.
انني اعتقد ان تدخل العراق، في سوريا من اجل منع سقوط النظام ووصول
المتشددين لسدة الحكم فيه، هو تصرف مشروع وفقا للمصالح البراغماتية
بالنسبة للسياسة العراقية التي ترى ان بديل الاسد حكم اسلامي سني متطرف
سوف يكون عدائي لهم وللتجربة الناشئة فيه، على الرغم من اننا لاننسى ان
نظام الاسد ومخابراته كانت تقف وراء ارسال مئات الارهابيين للعراق،
ولكنها المصلحة التي تقتضي من العراق ان يقف مع الاسد لان بديله قد
ارسل رسائل سلبية ضد العراق قبل ان يصل للسلطة، فما العمل حينما يكون
في السلطة ويكون جارك القريب ؟
وفي الواقع لايختلف تدخل العراق، حكومة او شعبا، في الشأن السوري او
تدخل ايران او حتى حزب الله وعلى النحو الذي يراه كل منهم مناسب
لامكانياته وقدراته، عن تدخل المملكة العربية السعودية لصالح نظام ال
خليفة في البحرين الذي لم نسمع من الاشخاص الذين يدينون تدخل ايران
والعراق في سوريا نفس النقد الذي يوجهوه للعراق او ايران الآن.
بل اننا نجد أن بعض المشايخ المتطرفين يصرحون علناً بانهم يسعون،
بعد اسقاط نظام الحكم في سوريا، الى ضرب التجربة العراقية والمشروع
الديمقراطي العراقي الجديد الذي جاء بالشيعة على سدة الحكم لاول مرة في
العراق منذ اكثر من الف وكذا سنة، وهي التجربة التي لم تجد لها صدى
ايجابي لدى دول المنطقة العربية الذين لايرون الشيعة الا مواطنين من
الدرجة العاشرة، فكيف بهم وقد استلموا الحكم في العراق ؟ وهي الدول
التي تمتلك نفطا واحتياطيا قد يتحكم، اذا ما استقر سياسيا واستتب الوضع
الامني فيه، باسعار النفط في العالم.
وهذا يعني ان الحرب في سوريا هي حرب شاملة يقف ورائها اكثر من طرف،
وكل طرف من هذه الاطراف ليده هدف قد يتوافق مع الطرف الاخر او قد يختلف
عنه، فالدول العربية التي تقدم السلاح والمال للجيش الحر والتنظيمات
المتطرفة، تختلف في هدفها عن غاية بعض الدول الغربية التي تمنح غطاءا
سياسيا وامميا للمعارضة السورية، كما ان هدف الولايات المتحدة وفرنسا
وبريطانيا في التدخل والرغبة في اسقاط الاسد تختلف عن اهداف التنظيمات
المتطرفة التي حشرت انفها في المعركة واساءت لها اسائة كبيرة ستدفع
ثمنها غاليا كل قوى المعارضة السورية.
اذن هي حرب هدفها، عموما عند الدول الغربية، السياسة ومصالحها
الاستراتيحية العليا وهو الامر الذي لايعنينا هنا التركيز عليه، لكن
مانود ان نشير اليه هو ان هدف هذه الحرب لدى الدول التي انخرطت في
المستنقع السوري، مثل قطر والسعودية وتركيا، هو التشيع السياسي، وضرب
كل من حزب الله واضعاف ايران وتخريب التجربة العراقية واحداث الفوضى
فيها ووقف التمدد الشعبي الشيعي في الدول التي بدأ الشيعة فيها
بالمطالبة بحقوقها كالبحرين والسعودية .
ولهذه الاسباب كلها نرى انه يمكن، من غير ان نكون قد اخطانا في
التوصيف، ان نطلق على هذه الحرب بانها هجمة وحرب وهابية جديدة ضد
الشيعة، وينبغي ان تكون هذه الحقيقة واضحة وجلية وتقدم على هذا النحو
من التشخيص بدلا من الاطروحات الاخرى البعيدة عن الواقع والتي تفتقد
للمصداقية والرؤية الحقيقة لما يجري في سوريا.
[email protected] |