خلق "العدو الوهمي" خطوة نحو الهزيمة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: دأبت الأنظمة السياسية في بلادنا على صنع "العدو الوهمي" أو خلق الأزمات السياسية داخلياً وخارجياً للشعوب في محاولة لشدّ الانتباه الى النقاط الأبعد عن الساحة التي تشهد دائماً الأزمات والمشكلات المتعددة، والتي لا يقوى الحكام، أو لا يريدون بالأساس حلّها.

فمن الطبيعي لأي شعب يعتمد على حاكمه الأوحد في رسم الاستراتيجية الأمنية، أن يكون حساساً إزاء مجرد إشاعة بوجود خلية تجسس، أو مجاميع ارهابية تروم القيام بعمليات ارهابية من تفخيخ سيارات أو زرع عبوات، كذلك الحال اذا كانت ثمة مخاوف من نوايا عدوانية على الحدود من دولة جارة أو أكثر. فنرى هذا الشعب يتعبئ، سواءً بإرادته أو خلاف ذلك، لمواجهة هذه التهديدات، سواء بالاشتراك في الحرب والتضحية بالمال والنفس، وإن كان الأمر داخلياً، فمسايرة الاجراءات الامنية المشددة. أما المارق عن هذه المسيرة، فان تهمة الخيانة جاهزة لتلصق به فوراً.

لكن لنلاحظ بدايةً؛ ما الذي يدفع ويجبر نظام الحكم للجوء الى خلق "العدو الوهمي"؟ هل هو نوع من عرض العضلات وتعبئة  القوى وتعزيز القدرات لتوفير أكبر قدر من الجاهزية العسكرية تحسباً للقادم؟

التجارب الماثلة أمامنا من الماضي والحاضر تشير الى أن هذا التوجه نحو خلق المشكلة والأزمة ينمّ عن وجود مشكلة وأزمة بالأساس في نظام الحكم، فيأتي "العدو الوهمي" والافتراضي ليوجد ثغرة ومخرج في الجدار الاخير يتمكن من خلاله النظام، على شكل حاكم منفرد او حزب مستبد، من التطلع الى مستقبل سياسي أبعد. المعطيات على الأرض تبين لنا وجود مشكلتين تؤرق النظام الحاكم في بلادنا:

الاولى: عدم تجانس المنهج والهدف الذي يحمله مع واقع الشعب وما يحمله من هوية وتطلعات وأهداف.. مثال ذلك العراق في العقود الماضية، ففي الوقت كان يعرف بين سائر البلاد، بشغفه في سبر غور المعارف والعلوم من خلال المطالعة والبحث والتنقيب، وتحلّيه بروح العمل والإبداع والتوثّب نحو التطور العلمي، وهذا ما شهد له الخبراء والمسؤولون الغربيون خلال زياراتهم للعراق في عقد السبعينات، كما شهدت له المشاريع الانتاجية والعلمية الناجحة مع قلتها وضآلتها آنذاك. لكن ما الذي قابل هذه القدرات والتطلعات..؟ انها الروح السلطوية وتوظيف كل شيء من اجل الهيمنة داخلياً وخارجياً.

أحد المهندسين ممن تخرجوا في بداية السبعينات كان يتحدث عن تحركات محمومة وبرامج سرية للغاية للنظام البائد لتوظيف الكفاءات والإبداعات في مجال التكنولوجيا، ليس لإنتاج المحركات والآلات وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وإنما لوضع النواة الأولى لمنشآت التصنيع العسكري، وانتاج محركات الصواريخ بعيدة المدى، واستنساخ النماذج الروسية في العراق.

هذا المشروع وغيره، لا يمكن ان يأخذ مجراه وسط مجتمع طامح نحو الآمان والاستقرار الرفاهية، كما كان يملسه ويعيشه في بداية السبعينات، مع وجود الطفرة النفطية وانتعاش الاوضاع المعيشية والاقتصادية. فكان لابد من خلق "عدو وهمي" داهم يهدد ما يريده الشعب، فكانت الأزمة مع "شاه ايران" والأكراد في شمال العراق، ومع سوريا في علاقاتها الدبلوماسية وإثارة المشاكل الايديولوجية بين جناحي حزب البعث.

وفي مرحلة لاحقة جسّد النظام الصدامي "العدو الوهمي" في حرب افتعلها مع ايران عام 1980، ومع الكويت عام 1990، ليؤكد للشعب العراقي أنه لهذا العدو مصداقية على الأرض، ولابد من توظيف كل الطاقات والقدرات لمواجهته والحذر من مغبة التراجع والتهاون. لكن النتيجة أن الحربين توقفت بخسارة فادحة للعراق أرضاً وشعباً، والأهم من هذا إتضاح كذب وزيف ذلك "العدو الوهمي"، فالشعب العراقي ليس له أعداء بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما هو شعب حاله من حال الشعب الايراني والشعب الكويتي والشعب السوري، يريد العيش بكرامة وأمان.

المشكلة الثانية: وجود الإعداء الحقيقيين داخل البلد، وهم الشريحة المثقفة والواعية والطبقة المتوسطة في المجتمع، وبأمكان هؤلاء أن ينتظموا في نقابات وجمعيات ومنظمات وتشكل دوائر ضغط على مركز القرار، وهو يتعارض بشدة مع النهج الديكتاتوري الذي لم يفارقه الحكام في بلادنا. والمثال البارز في العراق هي الحوزة العلمية التي دقت جرس الانذار بوجه النظام البعثي البائد منذ أيامه الاولى بأنه لن يكون صاحب الولاية النهائية على الشعب العراقي. وهنالك أمثلة اخرى في بلاد أخرى تتمثل في وجود احزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني، تشكل مصدر أرق للنظام المستبد او الشمولي. وخير ما يفعله لوضع حد فاصل بين هذه الشريحة المتوثبة وبين عامة الناس، هو "العدو الوهمي"، وإطلاق  الهتافات بنصرة البلد والوطن من التدخلات الخارجية والعدوان من هذا البلد أو ذاك.

لو نتصفح تاريخنا الاسلامي المشرق في عهد أمير المؤمنين صلوات الله عليه، نجد العكس تماماً؛ حيث تجنيب المسلمين والبلاد العريضة من شبح الحرب والحالة العدوانية. فقد كان يحكم على مساحة تقدر اليوم بخمسين بلداً، ثم فرضت عليه ثلاث حروب ضروس، بمعنى وجود ثلاث جبهات خطيرة: الطامحين للسلطة وهم طلحة والزبير، والخوارج، والأمويين بقيادة معاوية. لكن كيف تعامل الإمام عليه السلام مع "أهل الجمل"؟ وكيف تصرف مع "أهل النهروان"؟ الروايات التاريخية تنقل لنا المحادثات التي جرت بين الإمام وممثليه وبين الخوارج لإقناعهم بالعدول عن فكرتهم المغلوطة: "لا حكم إلا لله"، كما تنقل لنا كيف أن الأمام عليه السلام، حظر على أصحابه تملّك أشياء وممتلكات "أهل الجمل" في أرض المعركة، وعفا عن الجميع. وكيف أنه رفض مجرد التفوّه بكلمات الشتم والسبّ على جنود معاوية خلال حرب صفين.

في منطقنا اليوم؛ ألا يُعد الخوارج وأهل الجمل والأمويون، أعداء حقيقيون للإسلام والأمة، وأنهم يشكلون فيروساً خطيراً في الكيان الاسلامي؟ لذا اعتقد اننا وخلال السنوات الماضية جربنا خلق أعداء كانوا أقل خطورة على مستقبل الأمة مما كان يشكله أولئك الذين وقفوا بوجه أمير المؤمنين عليه السلام. إلا إن الامام لم يشأ أن يدخل الأمة في دوامة الحروب والنزاعات المشحونة بالكراهية والعدوانية، كما أكد ذلك بصريح القول في ساعاته الأخيرة، أن "لا تخوضوا دماء المسلمين وتقولون قتل علي..."! وإن كان هنالك عدو حقيقي داهم على الأمة ويهدد كيان الإسلام، فان المسلمين يهبّون من أعماق وجدانهم وحبهم وولائهم للدين لمواجهة هذا الخطر، ويفدون بانفسهم واهليهم واموالهم في سبيل الإسلام. وهذا تحديداً ما جعل الإسلام يبسط جناحه على ربوع العالم، فهو ليس عدواً لأحد ما لم يعاديه أحد.

ثم لنأتي الى النتيجة.. من الذي انتصر في تلك الحروب الثلاث..؟ هل الخوارج أم أهل الجمل أم معاوية والأمويين..؟ أم أمير المؤمنين عليها السلام؟ نعم؛ إن هي إلا انتصارات وهمية ومكاسب عسكرية آنية حصلوا عليها، على شاكلة الحروب الجاهلية البائدة التي يهمها الغنم والهيمنة لبضع الوقت، ثم يكون السجال في دائرة أخرى وهكذا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 26/آيار/2013 - 15/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م