عن الجزيرة والعربية

عريب الرنتاوي

الثابت، أن تراجعاً حاداً قد أصاب شعبية قناتي الجزيرة والعربية، بعد أن احتلتا عرش الفضاء العربي، خصوصاً الجزيرة"، ومن دون منازع، طوال أزيد من عقد، وقدمتا، خصوصاً الجزيرة، نموذجاً مغايراً في الإعلام العربي الذي خضع لسنوات وعقود لهيمنة الأنظمة والحكومات، فكان إعلاماً سقيماً ومنفراً، يسير في ركاب المسؤول، وتحتل هموم الوطن ومواطنيه، أدنى درجة في سلم أولوياته وتغطياته.

إن صحت التقديرات والأرقام المتداولة، فإن شعبية الجزيرة هبطت بنسبة 86 بالمائة، من 43 مليون مشاهد إلى ستة ملايين مشاهد فقط خلال العام الفائت.. وأن القناة المثيرة للجدل، فقدت صدارتها في مختلف دول الربيع العربي، التي كان لها بلا شك، دوراً في إذكاء أواره.. وثمة دراسات مسحية في عدد من هذه الدول، تظهر حجم التحديات التي تواجه القناة الأكثر شعبيه، في سعيها للاحتفاظ بـ"لقبها"، ففي المغرب مثلاً، هبطت شعبية القناة إلى النصف، وفي الجزائر، تفوقت قناة النهار المحلية على الجزيرة من حيث استقطاب أعداد أكبر من المشاهدين، وفي مصر، تفوقت "أون تي في" على الجزيرة، وفي تونس، حلت "الوطنية" و"هنيبعل" في مواقع متقدمة على الجزيرة، أما في ليبيا، التي أولتها الجزيرة، ترجمة للسياسة القطرية، كل الاهتمام، فإن قناة "ليبيا الحرة"، باتت تزاحم الجزيرة كتفاً إلى كتف..

لقد تحرر الإعلام أو هو في طريقه للتحرر في هذه الدول، وما عادت القنوات العابرة للفضاءات الوطنية، تحظى بما كانت تتمتع به من حظوة من قبل.. لقد سقط "التفرد" وتبدد "الامتياز"، ومن يتابع القنوات المصرية على سبيل المثال، يدرك أن أحداً في مصر ما عاد ينتظر ما الذي ستأتي به الجزيرة أو أي من شقيقاتها.

سبب تراجع الجزيرة الحاسم، يعود لانعدام المسافة بين "السياسة الخارجية" القطرية والسياسة التحريرية للقناة.. وهي مسافة نجحت القناة في الاحتفاظ بها لسنوات، لكن تفاقم حدة المواجهة والاستقطاب في المنطقة، واضطرار قطر لإزاحة الكثير من الأقنعة التي كانت تغطي بها الوجه القبيح لسياستها الخارجية، جعل هذه المهمة عسيرة على طاقم القناة، وباتت الجزيرة تسير في ركاب الدبلوماسية القطرية، خطوة بخطوة، تماماً مثلما تفعل وسائل الإعلام المملوكة للحكومات العربية، ولكن بدرجة أعلى من المهارة والإتقان.

قبل أيام، كنا في ملتقى المدافعين عن حرية الإعلام في العالم العربي، الذي نظمه باقتدار مركز حرية وحماية الصحفيين، وقد دار نقاش صاخب وغير مسبوق، حول الجزيرة والعربية، وجاهد كثيرٌ من الزملاء الأعزاء العاملين في هاتين القناتين، للدفاع عنهما، في مناخات اتسمت بالغضب والاستياء من الأداء غير المهني، والمواكب للأجندات السياسية لكل من السعودية وقطر.. يومها قلنا أننا أمام لغز يتوجب حلّه: فأن يقال أن هذه القنوات ملتزمة بقضايا الشعوب العربية، وأن الدول التي تمولها بمئات ملايين الدولارات، إنما تفعل ذلك إرضاء لوجه الله سبحانه وتعالى، وخدمة لشعوب الأمة، فهذا أمر عصي على القبول والتصديق، بل ومثير للسخرية.. فهذه الدول مثقلة بالحسابات والأجندات، والمؤكد أنها ليست جميعات خيرية من طراز "كاريتاس" أو على شاكلة "أنقذوا الأطفال".

ولكي نعرف الأثر الذي تتركه هذه القنوات على حركة التغيير والثورات والانتفاضات التي تعيشها المنطقة العربية، علينا أن نعرف أين تتموضع الدول الداعمة لها في خرائط المنطقة وتحالفاتها.. هل هي جزء من "معسكر الثورة" أم "ركن ركين في معسكر الثورة المضادة".. ولأننا لا نريد أن نجتهد في الإجابة على هذا السؤال، فإننا نحيل القارئ الكريم، إلى توصيفات "الأنظمة المانحة" للإعلام، للربيع العربي كمصدر تهديد لأمن بعضها واستقراره (السعودية مثالاُ)، أو كفرصة لتمديد دور إقليمي مفبرك ومفتعل، عبر حلف طارئ مع الحركات الإسلامية، الإخوانية بخاصة، كما في الحالة القطرية.

ثمة مشتركات في أجندات السعودية وقطر الخارجية، تلتقي الجزيرة والعربية في الذود عنها وتعظيمها، أنظروا على سبيل هذا التركيز المتناغم على "المالكي وحكومته في العراق"، وهذا التجاهل المخجل لمجريات الحراك الشعبي في البحرين.. لكن حين يتصل الأمر بتغطية الخبر المصري، نرى التعاطف مع مرسي والإخوان، وقد ميّز تغطية الجزيرة، في حين اتسمت تغطية العربية بالشماتة والتحريض... تلتقي المحطتان على هدف إشعال فتيل الحرب الأهلية في سوريا، لكنهما تفترقان حين يتصل الأمر بالصراع السعودي – القطري على المعارضة.. فثمة معارضون سوريون كبار لا يظهرون على قناة الجزيرة أو نادراً ما يظهرون، وعندما قررت الرياض أن الوقت قد حان لوقف الهيمنة القطرية على الائتلاف الوطني، وتوسيع عضويته امام آخرين، رأينا معارضين يساريين وليبراليين يظهرون بوفرة على شاشة العربية، ومع ذلك هناك من يحدثك عن استقلالية "السياسة التحريرية" وانفصالها عن "الأجندة السياسية" للدول المالكة.

سيكون بمقدور زملائنا الأحباء العاملين في القناتين، أن يأتوا بشواهد عديدة تبرهن "توازن التغطية" و"موضوعيتها"، وقد يأتون بأسماء وضيوف من خارج السرب القطري – السعودي، وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضاَ أن هذا لم يبدل من جوهر المسألة في شيء، فالسياق العام المتسم بالإنحياز وانعدام الموضوعية والمهنية، والإلتصاق بأجندة الدولة الممولة والراعية والمالكة، لا يتأثر بضيف عابر هنا، وحوار مختزل وسريع هناك.. وإلا لاستحالت الجزيرة إلى نسخة عن التلفزيون القطري ولأصبحت العربية صنو القناة الأولى في التلفزيون السعودية، ولفقدت المحطتان، آخر مشاهديهما، ولكفتا عن أن تكونا ذراعاً قوية لدبلوماسية بلديهما.

 لقد لعب الإعلام العربي، المملوك بنسبة تقارب الثلاثة أرباعه، لثلاث دول فقط، منها دولتان سلفيتان/ وهابيتان، دوراً في تصنيع المعارضات والقيادات والشخصيات العامة.. وباتت له سطوة كبيرة على النخب العربية القديمة والجديدة.. فقبل انتخابات الجمعية الوطنية في ليبيا على سبيل المثال، كنا نظن، وفقاً لتغطية الجزيرة، أن إخوان ليبيا وإسلامييها، سيحظون بالغالبية العظمى من المقاعد، لأننا لم نكن نرى سواهم على الشاشة، فإذا بالنتيجة تأتي مفاجئة لنا ولغيرنا من المراقبين.

كدنا نصدق أن الجزيرة "محروق دمها" على حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة وغير القابلة للتصرف، وعندما بدأت بـ"كشف المستور" من تنازلات السلطة الفلسطينية، انبرينا للإسهام في تلك الحملة.. أما عندما قدم الشيخ حمد بن جاسم التنازل الأبخس في "بلير هاوس" قبل أسابيع، فقد لاذت الجزيرة بصمت القبور، ولم تعمد إلى "كشف المستور" من السياسات والأجندات القطرية، لكأن حقوق الشعب الفلسطيني، لا تُمس إلا حين يكون الفاعل: صائب عريقات، أما أن يتطوع من لا يملك بالتنازل عن هذه الحقوق لمن لا يستحق، فالأمر لا يؤتى على ذكره إلا من زاوية "شريط الأخبار".

ثمة الكثير مما قيل وسيقال عن "الفبركة" و"التحريض" و"الكذب" و"بناء القصص والسيناريوهات" ونشر ثقافة الإسفاف والعنف والمذهبية البغضية.. ثمة الكثير مما يقال عن تآكل "الصدقية والموضوعية والمهنية" مما لا يتسع له هذا المقام.. لأختم بالقول، أن ماضي الجزيرة وغيرها، لا يشفع لحاضرها، تماماً مثلما أن ماضي المناضل و"المفكر" العربي أو المحلي، لا يشفع له تهافته وانهياراته اللاحقة، فالعبرة دائماً في النتائج، والأمور في خواتيمها.

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 26/آيار/2013 - 15/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م