قائمة المخاوف العراقية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: هل مشاعر الخوف التي تنتاب الانسان، ثقافة ام فطرة؟ حين اعود بذاكرتي الى سنوات الطفولة، واستعيد قائمة المخاوف التي كانت تنتابني لسبب ما، اتذكر الكثير منها.

ربما قصة (السعلوة) و (الطنطل) هي الاكثر رواجا في ذاكرتي انذاك، كان جهاز التنلفزيون نادر الوجود في منازلنا، وكانت التجمعات التي تجمعنا باهالينا، حيث العوائل الممتدة داخل المنزل الواحد، كان جدي يحدثنا عن السعلوة التي تخطف الاطفال وتاكلهم، وكان يحدثنا عن الطنطل الموجود في بيت فلان او علان والذي لايترك صحنا او كاسا في مطبخهم دون تكسيره، ولم اعرف حتى الان علاقة الطنطل بالمطبخ والسر في تواجده الدائم هناك.

كنت امتلك مساحة واسعة للحركة في طفولتي، لكن حركتي هذه احيانا كانت تقيد بشكل صارم من قبل والدي ووالدتي، فكثيرا ماتم اغلاق الابواب علينا ومنعنا من الخروج الى الشارع خوفا من حوادث معينة.

اتذكر في احدى الليالي، وكان جيراننا واصدقاء ابي، يجتمعون في حديقتنا في ليالي الصيف، حين كان للصيف وللجيرة معاني غير التي نعرفها الان، كنت قد ذهبت الى بيت احد اصدقاء والدي، الذي يمتلك جهاز تلفاز، ابيض واسود، لم اخبر احدا بذلك، تفقد ابي غيابي، وانتشر هو واصدقاؤه بحثا عني، لم يعثروا علي الا بعد وقت طويل، وصلت فيه القدرة على الصبر الى حدها الاخير.. كانت العقوبة قاسية جدا، في صباح اليوم التالي، وفي ساعة مبكرة منه، كنت اجالس ابن جيراننا التلفزيوني، وكاني لم اتلق تلك الكمية من الصفع من قبل والدي.

لم اكن ليلتها خائفا وانا اتوجه صوب بيت هذا الصديق، ولم اكن خائفا من العقوبة في صباح اليوم التالي، كان خوفي في تلك الايام يتمحور حول الامساك بي متلبسا تجاه اي محذور تم تنبيهي عليه.

مدينتنا الصغيرة، يقطعها نهر جميل، الى نصفين، النصف الذي نتواجد فيه كان يطلق عليه (الولاية) والنصف الاخر، حيث يسكن مايطلق عليهم، ولازال، (العرب) الذين ياتون بمنتجاتهم من الالبان كل صباح لبيعها في الولاية..

كانت اشد التحذيرات صرامة هي التي تطالبني بعدم الذهاب الى (الشط) حين اتوجه الى بيت عمتي لزيارتها.. لكن هذا الشط، كان فيه نوع من السحر لطفولتي ولمخيلتي، وفيه جاذبية لا تقاوم.

انتقل من الرصيف البعيد عنه الى الرصيف المحاذي له، احيانا كنت انزل الى جرفه، واحيانا كنت اكتفي بالسير على رصيفه، كانت رغبة عارمة تعتريني بالنزول في مياهه، لكني حقيقة كنت اشعر بالخوف، لاني لا اعرف السباحة.. كانت تلك النزهات على تباعدها لاتمر مرور الكرام، فبمجرد عودتي الى البيت عصرا، ويكون والدي قد عاد من دائرته التي يعمل بها، كانت تلك العقوبة العنيفة بانتظاري.

كثيرون يخبرون ابي بذهابي الى الشط، ورؤيتهم لي، ولم اكن استطيع التخفي بسبب لون شعري المتميز في تلك المدينة.. رغم كل التحذيرات، لم اكن اشعر بالخوف من الشط، ولم اتعلم السباحة، وقيضت لي فرص الاستمتاع بجمال الماء وتياراته حين اصبحت جنديا في الحرب العراقية الايرانية وكانت وحدتي العسكرية مسؤولة عن حماية سد دوكان.. كثيرا مانزلت الى تلك البحيرة الرائعة، بحيرة دوكان، وكثيرا ماتركت ماءها يغسلني، وكنت كثيرا ما ارافق الجنود الذين يصطادون السمك لامر الوحدة، في قواربهم الخشبية، صيفا وشتاءا، لم اكن خائفا، بمعنى الخوف الذي قد يشل حركتي، نعم، كنت اشعر بان شيئا يقبض على قلبي واحيانا كان يعتصره، وخاصة في ليالي الشتاء، حيث الظلمة الدامسة، والهدوء القاتل، الذي تقطعه اصوات المجاديف التي تكسر سكون الماء والليل.

حين اكون وسط الماء، لا اشعر بالخوف، بل اشعر بالمتعة لتحدي هذا الخوف، وهو خوف طفولي، حاول اهلي غرسه في نفسي منذ الطفولة.. كنت اخاف اشد الخوف من اصوات الانفجارات الناجمة عن القصف المدفعي، وخاصة قصف المدفع النمساوي، الذي يتميز بصوت صارخ، ولازال هذا الخوف ملازما لي حين اسمع اي صوت لانفجار حتى لو كان انفجار بالون مما يلعب به الاطفال.

واتذكر مشاعر خوف اخرى بسبب غارة لطائرة ايرانية، وهو خوف لايمكننني نسيانه ماحييت، حيث كانت اسناني تصطك بسرعة كبيرة، ولا استطيع السيطرة عليها، حيث كان مدفع (57 ملم) يطلق قذائفه على تلك الطائرة، خوف لم اشعر بمثله طيلة حياتي.

في سنوات الطفولة تعرفت على خوف من نوع اخر، هو ليس خوفا متعلقا بي، بل بالاكبر سنا مني، يومها كان احد جيراننا قد التجأ الى بيتنا في احدى نهارات مدينتنا، وكان منزله يبعد عنا مسافة قريبة، نستطيع رؤيته من خلال شباك غرفتنا الجانبية.. كان الرفاق البعثيين يبحثون عنه، بسبب اشتراكه في تظاهرة للدفاع عن احد الشيوخ في مدينتنا، ومنع رجال الامن من القبض على هذا الشيخ.

هذا النوع من الخوف عشته في سنوات قادمة.. كان العام 1980، في ذروة المطاردة الامنية للكوادر الاسلامية العراقية، كنا مجموعة من الاصدقاء في الاعدادية، وكنا مقربين من بعضنا، كان احد هؤلاء الاصدقاء، شرطيا في الامن، اصبح من مجموعتنا بحكم عشقنا للكرة، لم يكن طالبا معنا، بل كان جارا لبعض الاصدقاء.. كنا كثيرا ماننتقد صدام او القيادة وقتها، بحكم هذا النزوع للانتقاد الذي هو ميزة مراهقتنا، في احد الايام، اتفق هذا الصديق مع بقية المجموعة على محاولة الايقاع بي، اخبرني هذا الصديق انه لن يسكت بعد اليوم على ماكنت اقوله، وقد رفع تقريرا بهذا الخصوص الى دائرته، وانهم سوف ياتون للقبض علي.

يومها تذكرت خوف ابي وجارنا الذي لجأ الينا، وتساوت مشاعري معهم، كنت اشعر باني مطارد، وان جميع الاماكن تضيق بي، كنت اخرج عصرا، واقف على ناصية شارع بعيد عن شارعنا، الا انه يتيح لي رؤية سيارة الامن اذا دخلت اليه.

كانت وتيرة السيارات المتوجهة الى منطقتنا تتصاعد، الا انها لم تكن تستدير للدخول الى الشارع الذي يقع فيه منزلنا، بل كانت تستمر في سيرها، نحو منطقة فيها كثافة شيعية كبيرة، كانت سيارات اللاندروفر وقتها يستخدمها رجال الامن، لم يكن الخوف هو الذي يسيطر علي، بل كان الرعب مما يمكن ان يحدث لو تم القبض علي وتعريضي للتعذيب الذي برع هذا الصديق في وصفه لنا.. بعد يومين اخبرني صديقنا شرطي الامن انه كان درسا احب ان يعلمني اياه.. هل تعلمت هذا الدرس؟

تعلمته جيدا، وحتى بعد خروجي من العراق وذهابي الى سوريا في العام 1997، لم اكن اجرؤ على السير بالقرب من دائرة الامن الجنائي الموجودة في السيدة زينب، ولم اكن التفت اليها حين اسير في الشارع المقابل لها.

كنت اخاف من الذهاب الى دائرة الهجرة خوفا من اعادتي الى العراق، وكنت خائفا من الذهاب الى القنصلية العراقية لنفس السبب، وكنت خائفا من تسجيل بيان ولادة احد ابنائي بعد ان تاخرت عن ذلك واخبروني بان التسجيل بعد تلك الفترة يستدعي اقامة دعوى قضائية.

انقضت الكثير من المخاوف، وحلت بدلا عنها مخاوف جديدة، فانا الان اخاف على الاوراق الثبوتية، وهي المقدسات الاربعة، (الهوية الشخصية، البطاقة التموينية، بطاقة السكن، شهادة الجنسية) ولا يعادل خوفي هذا الا الخوف من المفخخات او العبوات الناسفة، فلا استطيع الجلوس في المقهى لمشاهدة مباراة برشلونة او ريال مدريد، ولا استنطيع الذهاب الى اماكن جديدة غير التي تعودت الذهاب اليها.

اخاف من رصاصة طائشة فرحا بفوز منتخبنا الوطني، اخاف من التماس الكهربائي الذي قد يفاجئني في ساعة نومي، اخاف ان يطرق احدهم باب المنزل في ساعة متاخرة من الليل.

كنت خائفا من لاشيء ومن كل شيء.

وفي الكثير من تلك المخاوف لم يكن هناك من شيء يبررها.. بعد رحلتي الطويلة في هذه الحياة، اتضح لي ان مخاوفنا العراقية هي ثقافية وليست فطرية في اغلبها الاعم، وهي يمكن ان تكبلنا وان تسجننا داخل جدرانها، ولاشيء يكسر من حدة هذه المخاوف دون ارادة التجريب والقدرة على التغيير، لكن ذلك يتطلب شجاعة نفتقد اليها لاسباب كثيرة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 20/آيار/2013 - 9/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م