شبكة النبأ: في مكتب حكومي مكتظ
بالخرطوم يجلس المهندس احمد طه وعشرات غيره من السودانيين اجتذبتهم
إعلانات في الصحف عن فرص عمل بمنطقة الخليج في انتظار الحصول على تصريح
لمغادرة البلاد والعمل في الخارج.
قال طه "لقد نلت كفايتي من السودان وسوف أتوجه للسعودية... لقد سئمت
هذا البلد.. الأزمة الاقتصادية.. الفساد."
طه يعمل في مجال إدارة الحسابات منذ عامين لأنه لم يتمكن من العثور
على وظيفة في مجال تخصصه كمهندس. وقد تعاقد لتوه مع شركة إنشاءات في
السعودية في خطوة من شأنها زيادة مرتبه لسبعة أمثاله إلى 2500 ريال
(670 دولارا) في الشهر.
وقال "أريد كذلك أن أجد فرصة عمل لزوجتي كمدرسة في السعودية.. فهي
تتقاضى 600 جنيه فقط (95 دولارا) في الشهر هنا. لا يمكن أن نعيش
برواتبنا."
وشأن طه شأن آلاف غيره ممن اضطروا لمغادرة بلد يعاني أزمة اقتصادية
منذ أن فقد 75 في المئة من إنتاج النفط الذي كان شريان حياة بالنسبة له
عندما انفصل جنوب السودان في يوليو تموز 2011.
ويقدر محللون أن نسبة البطالة تتراوح بين 20 و30 في المئة لكن ليست
هناك بيانات رسمية.
وتجاوز التضخم السنوي 41 في المئة في ابريل نيسان كما تراجعت قيمة
الجنيه السوداني أكثر من النصف مقابل الدولار منذ استقلال جنوب السودان
مما جعل الحياة غير محتملة بالنسبة لكثيرين.
وتشير بيانات رسمية إلى أن نحو 95 ألف سوداني من مهن مختلفة تركوا
البلاد في العام الماضي مقارنة مع 10032 فقط في 2008. ويقول بعض
المحللين إن العدد أعلى من ذلك نظرا لصعوبة متابعة حركة السفر.
ويختلف هذا المشهد عنه في دول افريقية أخرى -منها جنوب السودان-
تشهد عودة المهنيين المهرة إليها نظرا لأن التنمية الاقتصادية وزيادة
الاستثمارات الأجنبية تتيح فرص عمل جديدة.
أما بالنسبة للسودان الذي يواجه عجزا كبيرا في الميزانية ونقصا في
العملة الأجنبية اللازمة لدفع ثمن الواردات أصبحت للهجرة فوائد
اقتصادية.
ويقدر البنك الدولي تحويلات العاملين في الخارج للسودان بنحو 1.13
مليار دولار في العام الماضي ارتفاعا من 442 مليون دولار عام 2011.
وساعد هذا على تخفيف أثر عجز الميزان التجاري في السلع والخدمات والذي
قدره صندوق النقد الدولي بنحو 6.7 مليار دولار.
لكن في حين أن هجرة العمالة تساعد على الحد من البطالة فإن "هجرة
العقول" لفترة طويلة ستمثل ضغطا على الخدمات العامة المتدهورة في
البلاد مما سيفاقم المشكلات الاقتصادية.
وقال عمر الفضلي الذي ترك السودان عام 1974 للدراسة في بريطانيا ثم
عمل في فرنسا والولايات المتحدة قبل أن يعود عام 2005 لشراء مطعم في
وسط الخرطوم "نعاني صعوبات اقتصادية." وأضاف "لا أخفي عليك أننا نحاول
بيع المطعم منذ أكثر من عامين... لم يعد مربحا."
وفي مكتب التأشيرات بالخرطوم تقوم نساء يرتدين أثوابا زرقاء داكنة
ويمثلن مكاتب تشغيل مرخصة بمساعدة المتقدمين في ملء الاوراق الرسمية
المطلوبة.
قالت حمدة قاسم التي تعمل في إحدى مكتب التشغيل "نحدد الأوراق
اللازمة للأطباء الذين سيذهبون للخليج خاصة للسعودية التي تطلب عددا
كبيرا من الأطباء السودانيين."
وتسمح الحكومة السودانية لمكاتب التشغيل بإعداد عقود عمل للأطباء
المتجهين للخليج رغم أن دراسة طلبت الحكومة إجراءها ونشرت في يناير
كانون الثاني تبدي قلقا إزاء هجرة العاملين بالقطاع الطبي.
غادر أكثر من ستة آلاف طبيب السودان إلى السعودية خلال الفترة بين
2009 و2012 طبقا للدراسة الحكومية التي أجريت لتقييم أسباب الهجرة. كما
تقول إن نحو ألف طبيب توجهوا إلى ليبيا منذ الإطاحة بالزعيم الراحل
معمر القذافي في 2011.
وهذا يترك القطاع الصحي في السودان في حالة مزرية في حين تتخطف دول
الخليج وغيرها الأطباء السودانيين المتميزين. ولم يعد مستغربا نشر
تقارير صحفية عن وفاة مرضى بسبب إساءة اطباء غير مدربين التشخيص.
وتحدثت الدراسة الحكومية عن "الأثر السالب جدا على تغطية وجودة
الخدمات الصحية... أدت الهجرة إلى السعودية وغيرها إلى فقدان عدد مقدر
من الأطباء الاختصاصيين والذين أثر غيابهم على تغطية وجودة الخدمة
الطبية بالولايات بشكل مباشر."
يتخرج من كليات الطب في السودان ما يصل إلى أربعة آلاف طبيب سنويا
لكن بعض الكليات تستخدم كتبا يعود تاريخ نشرها إلى أكثر من عشر سنوات
وليس لديها معدات جراحية.
وتتنبأ الدراسة باستمرار تزايد الهجرة من السودان خلال السنوات
القليلة القادمة بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية
والسياسية.
ويواجه السودان تمردا على عدة جبهات. فبعد أن كان وجود المتمردين
يقتصر على مناطق نائية مثل دارفور تمكن متمردون من استهداف منطقة
مركزية في الشهر الماضي مما أثار مخاوف من احتمال مهاجمتهم الخرطوم مرة
أخرى كما حدث في 2008.
ولا تعمل شركات هندسية غربية كثيرة في السودان بسبب حظر تفرضه
الولايات المتحدة منذ عام 1997 مما يجعل البلاد تعتمد على شركات أغلبها
صينية لإقامة البنية الأساسية. وهذه الشركات تفضل جلب عمالها معها.
بحسب رويترز.
وتعوق أزمة الميزانية مساعي الحكومة السودانية لمواجهة البطالة من
خلال تعيين شبان في القطاع العام وبدء مشاريع البنية الأساسية.
ويشكو الشبان من أن الفساد يسهم أيضا في صعوبة العثور على فرص عمل
ويقولون إن وظائف القطاع العام أكبر قطاع في البلاد كثيرا ما تذهب لمن
لديهم "واسطة".
قال هشام حسن الذي تخرج من كلية الهندسة بجامعة عطبرة عام 2008 ولم
يجد عملا حتى الآن "لا يمكن العثور على وظيفة بدون واسطة."
وقال بعد أن حصل على تصريح السفر في مكتب التأشيرات "لا أملك تكاليف
الزواج أو أي شيء."
حصل حسن على وظيفة لدى شركة إنشاءات سعودية براتب ثلاثة آلاف ريال
شهريا في القسيم وهي من أكثر المناطق المحافظة بالسعودية وقال "سأكون
بخير. ليس امامي خيار على أي حال."
كما تشجع المخاوف تجاه الحريات في السودان على الهجرة. وكانت أجهزة
الامن قد قمعت بشدة احتجاجات محدودة نظمها شبان كانوا يحلمون بربيع
عربي. ومع وجود انقسامات داخل المعارضة الضعيفة ودعم الجيش للرئيس عمر
حسن البشير يكون احتمال حدوث انتفاضة في السودان كالتي شهدتها مصر
وتونس أمرا مستبعدا.
وكثيرا ما كان السودانيون يسافرون للخارج سعيا للخبرة وكسب المال.
وفي الستينات والسبعينات تدفقوا على دول الخليج مع انتعاش اقتصاداتها.
لكن الفرص نضبت بعد حرب الخليج عام 1991 عندما لم يدعم البشير عملية
عسكرية بقيادة الأمم المتحدة لإنهاء احتلال الرئيس العراقي الراحل صدام
حسين للكويت. وردا على ذلك رحلت دول الخليج آلاف السودانيين بمجرد
تحرير الكويت.
لكن مع إنفاق الحكومات الخليجية مليارات الدولارات على الطرق
والمدارس والجامعات عاد الطلب على السودانيين وإن لم تعد الفرص في
السعودية على سابق عهدها بسبب اتخاذ إجراءات مشددة ضد الهجرة غير
المشروعة ونظرا لسياسة السعودة.
ويتطلع السودانيون لما هو أبعد. وفي معهد جوته الذي تديره الحكومة
الألمانية بالخرطوم هناك قائمة انتظار تصل إلى ثلاثة أشهر للالتحاق
بدورات تعليم اللغة الألمانية.
ويحقق البعض دخلا من ارتفاع معدلات الهجرة مثل أحمد شمعون الذي كان
يعمل مترجما للغة الانجليزية في أبوظبي طوال 13 عاما وعاد عام 1993
ويدير الآن مكتب تشغيل في الخرطوم للعثور على فرص عمل للسودانيين في
منطقة الخليج. ومع ذلك فإنه هو نفسه غير راض عن هذا الاتجاه.
قال وهو يجلس في مكتبه الصغير قرب شركة سياحة تبيع تذاكر سفر
للسعودية "ليس الأطباء أو المهندسون هم وحدهم الذين يسافرون.. أغلبهم
عمال." ومضى يقول "لا أحب هذا لكن ماذا يفعل الشبان؟ لا وظائف هنا." |