قراءة في كتاب: ثقافة التحرير

 

 

 

 

الكتاب: ثقافة التحرير

الكاتب: المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي

الناشر: هيئة انصار الحجة/ الكويت

عدد الصفحات: 97 صفحة متوسطة القطع

عرض: شبكة النبأ المعلوماتية

 

 

 

 

شبكة النبأ: من الأمور التي افتقدتها حركات التحرر من الاستعمار في العهود الماضية، وتفتقر اليها في نضالها ضد الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة في العهود الراهنة؛ الأسس والبنية التحتية لحركة التحرير.. فقد اعتادت شعوبنا خلال القرن الماضي على الثورة المسلحة، والانتفاض ضد الواقع لتغييره بأشكال مختلفة، وهي تتغنّى بشعارات الاستقلال والحرية والوطنية ومفردات أخرى محببة الى النفوس.. لكن كل هذا الحماس والاندفاع، ربما يندفع الى اتجاهات بعيدة على مقربة من الهاوية والسقوط من شاهق أخلاقي أو ديني أو حتى انساني.. فكيف يكون التحرير..؟ وما الغاية منه؟

هذا ما يجيب عليه سماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ثقافة التحرير" الذي رأى النور مؤخراً في طبعته الأولى، حيث يعد "الاستقلال الثقافي، مقدمة للاستقلال السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي وغيرها". وهنا نكون أمام رؤية جديدة للتحرير في بلادنا الاسلامية. صحيح أن السياسة مهيمنة على كل شيء، وهي التي تحقق الانتصارات وتتقدم في الساحة، لكنها في نفس الوقت معرضة للهزيمة بكل سهولة، من خلال الانقلابات والمؤامرات، بينما غير الممكن ان تتعرض الافكار والثقافات للهزيمة بانقلاب عسكري أو مؤامرة خارجية أو غير ذلك.

وكما هو ديدنه – قدس سره- يضع يده بقوة على الثغرة التي تعاني منها الأمة، وطالما أفصح عن تبرّمه وتأسفه من التخلّف والهزيمة التي تعيشها الأمة منذ قرنين من الزمن، والعامل الأساس في ذلك، وجود أزمة الوعي بالداء والمشكلة، لكن ما لبثت الشعوب أن أدركت المشكلة، وتحركت نحو حريتها وكرامتها في حركات تحرر من الاستعمار والاستبداد، ابتداءً من اندونيسيا شرقاً، ومروراً بباكستان وايران والعراق ومصر، وحتى بلاد المغرب العربي.

لكن هذا لا يكفي، لان المرجع الراحل – قدس سره- في مؤلفه الأخير، الذي خطته أنامله المباركة عام 1994، بل وفي عديد مؤلفاته، يدعو ويطالب الى أن يتجه التحرير لتحقيق أهداف عليا وقيم سامية للإنسان، وذلك في ظل نظام اسلامي عادل تسوده القيم والمبادئ، ولو بنسبة معقولة، وهذا لن يكون إلا عندما يكون الوعي الاسلامي عميق الجذور، حتى لا يذوب هذا الوعي – كما يشير سماحة المؤلف- في البديل الأسوأ، كما حصل في النظام "البهلوي" في ايران، وفي نظام حزب البعث في العراق، وغيرهما من الأنظمة التي استفادت أيما استفادة من مقدار الوعي والثقافة التي كانت لدى المجتمع وجيرتها لتشكيل نظام حكم هو بالحقيقة امتداد للنظام الذي حكم به المستعمر في القرون الماضية.

وعلى ذلك، يحدد سماحة الإمام الراحل في مؤلفه هذا، تسع نقاط الى جانب نقطة عاشرة، وهي الأخلاق، حيث يفرد لها مساحة أوسع وأكبر، وهو  الذي طالما علّمنا ونبهنا الى ضرورة التزام هذا الجانب في أي نوع من البناء في الحياة، سواءً الثقافي منه أو السياسي أو الاجتماعي..

1- مظلّة الإسلام، حيث يدعو سماحته الى أن يكون الإسلام خيمة كبيرة وواسعة تسع المسلمين وغير المسلمين، ليعيش الجميع بسلام ورفاه في ظل الدولة الاسلامية الكبيرة.

2- لا خوف على الحكم، وهي المطالبة بالمصداقية السياسية كضمانة لديمومة الحكم،  حيث يقول سماحته: إن كانت هنالك انتخابات حرّة حقيقية – لا بالإدعاء وحسب- لن تكون هنالك خشية من سلوك نظام الحكم وطريقته ونهجه، لأنه سيأتي بالكفاءات والعقول المدبرة لإدارة الاوضاع فيما يتعلق بأمور الدنيا ومتطلبات الحياة، أو ما يتعلق بأمور الدين.

3- الارهاب والأزمات، وهنا يحذر سماحته من مغبة السقوط في فخّ الأزمات المصطنعة، وأجواء الإرهاب التي تشيعها الأنظمة الديكتاتورية، وأشار سماحته الى الحقبة الجمهورية في العراق، وكيف أنها أشاعت أجواء الإرهاب من خلال القتل والسحل تارةً، و الترويج لـ "أبو طبر" تارةً أخرى. وهذا من شأنه ان يكرس الديكتاتورية والاستبداد.

4- رفع الحيف، ولسماحة الإمام الراحل رؤية ثاقبة في عملية التحرير الناجحة والحقيقية، وهي إزالة الحرمان والتخلّف من وجه البلاد الاسلامية، ويشير الى ان هذا يتم من خلال خطوتين؛ من خارج وداخل البلاد الاسلامية، الاولى: الاستفادة من أجواء الحربة في البلاد الغربية لنشر الوعي الاسلامي – الحضاري للغربيين وللمسلمين على السواء، وحتى يعي المسلمون، دورهم الحضاري  الذي يمكن أن يؤدوه هناك لإنقاذ بلاد الإسلام من التخلّف والفوضى.

وفي داخل البلاد الاسلامية علينا العمل على "الوعي الحضاري والمؤتمرات والإضرابات، وهذه الثلاثة تبدأ من البلاد الاسلامية التي تحظى بشيء من الحريات مثل لبنان وباكستان، فاذا ترسخت في الواقع، في البلاد الاسلامية وكذلك الغربية، بالامكان تعميمها على  البلاد التي تعاني الارهاب والقمع، وهذا ما يخفف من قبضة الحكام الديكتاتوريين في بلاد  الإسلام".

5- الحوزة والجامعة، ومن أجل الاستفادة من أمكن من العلوم الدنيوية أو الطبيعية، الى جانب العلوم الدينية، يثير سماحة المؤلف فكرة "التقريب بين  الحوزة والجامعة"، ولتحقيق هذه الفكرة، يدعو سماحته لتأسيس جذر واحد للعلوم الدنيوية التي تدرس في الجامعات، وللعلوم الدينية في الحوزة. وهذا لن يتحقق إلا في ظل نظام حكم يديره "شورى الفقهاء"، والتعددية الحزبية حتى تعود  بلاد  الاسلام الى حالتها الطبيعية.

6- التوكل.. هذه النقطة، غالباً ما لا تكون مفهومة في معادلة التحرير في ظل الاجواء  السياسية المشحونة والتعبئة الجماهيرية المتصاعدة، فالتوكل على الله تعالى، يبدو حديثاً بعيداً عن الواقع، حسب ما يتوهم البعض.. إلا الامر غير ذلك تماماً، اذ يذكرنا سماحته بأن هناك رب قدير كبير، وليس كل شيء تحت السيطرة، وبامكان الانسان فعل ما يريد..

يقول سماحته: "إنّ الله وحده هو الخالق البارئ العالم البديع المربّي المحي المميت وهو على كل شيء قدير. أما الروح والعقل والنفس في المعنويات ــ وإن كانت كلها ماديات بمعنى عدم تجردها حيث قالوا بأن المجرّد هو الله وحده ــ فلا يعلم شيء منها إطلاقاً وقد قال سبحانه: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا" (سورة الشمس /7)، وقال تعالى: " وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً " (سورة الإسراء /85).

ويورد سماحته أمثلة على حاجة الإنسان الدائمة على الخالق في كل شيء بحياته الخاصة او العامة.. ويقول: "فمن الضروري على العاملين في حقل التحرير أن يهتموا للارتباط بالله سبحانه، وأن يتوكلوا عليه ويعتصموا بحبله ويطلبوا العون منه، ويصدقوا في تطبيق أوامره، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، "فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر"، كما دعى الى الإكثار من الدعّاء فإنه "سلاح المؤمن".

7- مراعاة الحقوق، وهذا ما يحصل خلال حركات التحرر في أجواء التعبئة والانفعال والاندفاع أمام القوى التجبرة، وربما يتحدث البعض عن تأجيل الحديث عن الحقوق الى ما بعد التحرير، وهذا أمر خاطئ له تبعات خطيرة في المستقبل، لذا نرى سماحة الإمام الراحل يؤكد: "إنّ من أهم ما يسقط الحركات عدم مراعاتهم للحقوق وعدم ملاحظتهم حدود أنفسهم وحدود غيرهم.."، ويقول ايضاً: " نرى كثيرا من الناس ـ إلاّ من عصمه الله سبحانه ـ لا يلاحظ حق الآخرين، بل يزعم أن الكلّ حقه وكل المجالات مجاله، وبذلك يلفظهم المجتمع فتراهم بعد خمسين سنة من العمل ليس لهم إلاّ مجال صغير أصغر من مجالاتهم الواقعية مرات ومرّات..".

8- التقدمية والحركة، وفي هذه النقطة يشير سماحته الى جنبه حضارية راقية في حركة التحرر، إذ ربما يتبادر الى القارئ أن التقدمية بمعنى اللحاق بالغرب والارتباط بعجلة التقدم الاقتصادي والسياسي في الغرب. بينما سماحة الإمام الشيرازي – قدس سره- يقدم رؤية جديدة لهذه المفردة، ويعدها من أساسيات حركة التحرر، إذ لابد من خطوات الى الامام وباستمرار، ويقول: "من أهم ما يلزم على الحركيين والدولة الإسلامية: اتخاذ حالة التقدمية فإنه بدون ذلك لا يمكن للحركي الوصول إلى الدولة، ولا للدولة الى الاستقرار، بل سرعان ما تسقط الدّولة وإن قامت، كما شاهدنا ذلك في الدول التي قامت ثم سقطت سواء في بلاد المسلمين أو غيرها". ثم يوضح سماحته لنا بان "المراد بالحركة التقدمية اتصاف المسئولين ــ سواء في الحركة أو في الدولة ــ بمقومات التقدم والتي منها: الزهد في الدنيا والهدفية في جميع أمورهم، من زواجهم و ولاداتهم وعزائهم، وفي نفس الحركة وفي سلوكهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله، خير أسوة في هذه الأمور، كما أنّ علياً أمير المؤمنين عليه السلام، كان كذلك خير أسوة، وهكذا حال سائر الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، ولذا نجد أنّ الحركات التي تعلّمت منهم تمكنت من الوصول، بينما من لم تتعلم منهم لم تصل، وعلى تقدير الوصول سقطت بأول هبة من الرياح لعدم وجود الجذور لهذه الشجرة..".

9- اللاعنف، فعندما يتعلق بالتحرير وتغيير واقع فاسد الى أفضل وأحسن، فان الوسائل – على الاغلب- تتخذ طابعاً عنيفاً في سعي من القائمين على حركة التحرير، على العجيل وكسب الجولة وتحقيق الهدف.. لذا يؤكد سماحة الإمام الشيرازي – قدس سره- بانه "يجب على القائمين بالتحرير التحلّي باللاعنف المطلق في كل ميادين الحياة، فإن العنف وما يستلزمه من عنف آخر وهكذا، يوجب تلف وقت الإنسان وهدر طاقاته والقضاء على كفاءاته وقدراته البناءة، ويجعل من الشخص عامل فساد وإفساد وهدم وتخريب، وحينئذ لا يمكن التحرير أبدا"

10- الأخلاق، وعندما يأتي سماحة الإمام الراحل – قدس سره- على ذكر الأخلاق في النقطة العاشرة والاخيرة، فانه يبتدأ بالتأكيد: "يجب أيما وجوب أن تتحلّى الفئة العاملة للتحرير، بأرفع مستويات الاخلاق، وفي كل الابعاد، فالاخلاق مثل الكيمياء، يحول النحاس الى ذهب..". وعندما يتحدث سماحته دائماً عن الأخلاق كقيمة مقدسة في الاسلام، فانه يعزز حديثه باستشهادات من سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وكيف أنه جسّد الأخلاق الحميدة والفاضلة في تعامله مع أعراب البادية، وحتى الكفار، وشرائح مختلفة من المجتمع، وبهذه الأخلاق تمكن من تغيير أمة عاشت ردحاً طويلاً من الزمن، وهي تحمل صفات القسوة والظلم والتجاوز على حقوق الآخرين، ليخلق أمة جديدة، ملؤها الرحمة والاحسان، وهذا كان سر انتشار المسلمين في الآفاق في فترة قياسية حيّرت الأمم الغابرة، لاسيما الأمة المسيحية في الغرب.

هذا الكتاب بعنوانه المثير الذي يذكرنا بما يسمى بالربيع العربي، وموجات التغيير السياسي التي عمّت بعض البلاد العربية، وأطاحت بحكام وأتت بآخرين، من شأنه ان يكون فناراً لكل من يبحث عن التحرير من قيود الديكتاتورية والتضليل والتغيير الشامل والحقيقي والناجح، الذي يحقق أهداف وتطلعات الأمة وينقذ شعبه من الوضع المزري الذي يعيش فيه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 14/آيار/2013 - 3/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م