العراق الجديد يفتقد لتراث شهداء التغيير الكبير

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: الشعوب الحيّة التي تقرر مصيرها بنفسها وتقيم نظام الحكم الذي ترتضيه عبر ثورة جماهيرية أو حرب تحرير من عدوان وإحتلال غاشم، تحتفظ في ذاكرتها الثورية، وفي واقعها في آن واحد، تراث المعتقلات والزنزانات الانفرادية، وترث الشهداء من مقتنيات شخصية أو أفكار مدونة ووصايا.. كل ذلك وغيره يرسم صورة للجيل الجديد بأنه لن يتمكن من الذهاب صباحاً الى المدرسة والجامعة بفخر واعتزاز، ولن تتمكن المرأة من الخروج من دارها بسلام، ولن يستنشق العامل والموظف والكاسب وغيره، رحيق الحرية والكرامة، لولا تلكم التضحيات والدماء السخية التي سالت في مطامير السجون  وفي سوح الاعدامات، او الارواح التي أزهقت بالجملة تحت التراب في مقابر جماعية.

ما الذي يجبر المسؤولين في "الاتحاد السوفيتي" السابق، على إنفاق ملايين الدولارات على إحياء ذكرى مئات الآلاف من القتلى الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية خلال مقاومة الغزو الهتلري على بلادهم؟ فقد أقيمت خلال الفترة التي سبقت انهيار هذه الدولة، المعارض والمسارح والافلام، وأقيمت النصب التذكارية.. وما الذي يدفع شخص مثل "فيدل كاسترو" لأن يتمسك بالزي العسكري طيلة فترة وجوده في الحكم..؟ وغير ذلك من الأمثلة، علماً أن "الأمثال تضرب ولا تناقش"، والمهم العبرة.. فهؤلاء؛ رغم أن المنهج الذي حملوه، لم يكن صحيحاً بالمرة، وذلك بدليل التجربة العملية، وما جر على الشعوب الاسلامية وغيرها في "الاتحاد السوفيتي"، من ويلات ومعاناة. كذلك الحال في كوبا، لكن بالمحصلة، نجح السوفييت وحليفهم "كاسترو" من اكتساب الشرعية السياسية لنظام حكمهم، من جسور العلاقات التي أحكموها مع الجماهير على مر العقود، والإيحاء لهم بأنهم إنما يحكمون إمتثالاً لإرادتهم، بل ان الحكم القائم هو ثمرة تلكم التضحيات، سواء في سواح المواجهة مع المحتل، أو في الثورة على الطغيان والفساد والديكتاتورية.

لكن العجيب حقاً أن لا نرى هكذا توجه في بعض بلادنا الاسلامية التي ترفع لواء الشهادة والتضحية والعمل في سبيل الله ونجاة الانسان من الظلم والطغيان، ومنها العراق.. فمن يتجول في بغداد وعدد من المدن العراقية، ويتحسس التحول من النظام الصدامي الى النظام الديمقراطي والتعددي، حيث الحرية والبناء والإعمار والتحول في كل شيء، يُخيل اليه أن انقلاباً عسكرياً خاطفاً جرى مع قليل من التضحيات والدماء، وتم اعتقال صدام و أركان حكمه، ثم محاكمتهم واعدامهم، بعدها عاد الناس الى حياتهم الطبيعية، بل ويبحثون عن الأفضل، فيأكلون ما لم يتذوقوه، ويقتنوا السيارات التي لم يحلموا بها، ويفتتحوا المتاجر الضخمة و(المولات)، ويقتنوا الملابس الفاخرة والاجهزة الدقيقة والجميلة و... ثم الأهم من ذلك التجربة الممتعة بالترشح للانتخابات المحلية والنيابية.. و غير ذلك كثير.

ألا يكون من الغريب والعجيب التصور – والحال هكذا- أن كل هذا التحول تمّ دون ثمن..؟! السبب والعتب الذي سيرفع العجب، فيمن يتسنّمون ظهر الحكم، فهؤلاء لم يأتوا بانقلاب عسكري أو نزلوا من القمر.. إنما يمثلون الامتداد الحقيقي لقوافل الشهداء والشهيدات الذين استرخصوا دمائهم طيلة العقود الثلاثة من عمر الطاغية، لإقامة نظام الحكم المتوفر لشروط العدل و الانسانية والقيمية.. فهناك الكثير الكثير ممن اعتقلوا وغابوا خلف اسوار السجون، ولم يعثر لهم شيء حتى في المقابر الجماعية، كانت جريرتهم حمل كراس عن المجتمع الاسلامي أو عن حياة الأئمة المعصومين، وربما أي كتاب يحمل مفاهيم وافكار دينية. فمعنى حمل هكذا كتب، مناهضة نظام حزب البعث الحاكم، والوقوف بوجهه ومعارضة افكاره ونهجه، وهو الصحيح ايضاً. فمن كان ينشر هذه الكتب والكراسات..؟ ومن كان يوزع المنشورات؟ ومن كان يدعو للتنظيم والارتباط بخلايا سرية؟ الكثير ممن وقفوا خلف هذه النشاطات، هم اليوم في الصفوف لقيادية لهذا البلد.

ولا يذهب القارئ بعيداً؛ فالمسألة ليست تعويضات او ترضيات.. إنما تتعلق بكل فرد من افراد الشعب العراقي، كما هي تمسّ مشاعر واحاسيس ذوي الشهداء. فالناس لن يعرفوا الشهداء من خلال قطع نحاسية تكتب عليها اسمائهم وتنصب على أطراف الشوارع، ولا أن تطلق على مناطق وأحياء سكنية وغيرها، وهنا تكون النتيجة عكسية تماماً، فالناس، لاسيما كبار السن، وحتى الشباب ممن لا تربطهم بالتراث والماضي رابطة محكمة، يفضلون الاسماء القديمة؛ حتى وإن كانت ترمز الى تراث النظام السابق، والسبب أن تراث الثورة والتغيير والتضحيات، ألقيت على لسانهم ولم تلقى في قلوبهم أو تزرع في مشاعرهم و وجدانهم.

والمثير حقاً؛ أن يتساءل رئيس الحكومة والنواب، بل جميع موظفي الدولة، عن سبب عدم رضا الناس، وقلة تفاعلهم مع الوضع الجديد.. ولماذا لا يشكروننا على مما نقدمه لهم من أموال وقطع اراضي وبيوت وسيارات و امتيازات و...؟! غافلين عن حقيقة انسانية، أن الانسان بالأساس حريص وطمّاع ومحب للتملّك والاستئثار ، "إلا ما رحم ربك.."، فلماذا يشكر مسؤول حكومي من جنسه ومثله، وربما يكون مستواه العلمي والثقافي أقل من كثر من الناس العاديين، ثم هم يعيشون على بحيرة من النفط وثروة هائلة من المعادن؟

نعم؛ حالة واحدة تجعل الناس يكونوا مسؤولين إزاء نعمة التغيير الكبير لديهم، وهي ارتباط هذا التغيير بالتضحيات وتراث الشهداء، حتى يعلم طالب المدرسة والرجل الكاسب والموظف في دائرة والمرأة في البيت، إن الحرية والكرامة والتطور والرفاهية لم تأت بالمجان، حتى الامريكان لم يجتاحوا العراق ويطيحوا بصدام ونظامه، لولا الرصيد الضخم من المعارضة والرفض الجماهيري، والسجل الدموي الحافل الذي عرضوه للعالم، ليقتنع أنهم على حق بإسقاطه وتخليص العراق ودول المنطقة من شروره.

إذن؛ المسؤولية كبيرة وخطيرة للغاية.. لأن نسيان هذا التراث يحوّل العراق الى بلد أشبه بجزيرة جميلة وثرية، لكن متروكة وسط المحيط، ثم اكتشفها بحارة فنزلوا فيها، وأقاموا البناء والإعمار والتغيير، ثم تقاتلوا عليها وعلى ثرواتها الى حين نضوبها وجفافها وتحولها الى أرض جرداء، لأن الثراء والخصب في الارض، لن يدوم إذا لم يكن هنالك بار بهذه الارض، يعرف قيمتها ويعدها جزءاً من كيانه. وهناك مقولة شهيرة وحكيمة اعتقد بها تقول: "الشعب الذي لا ماضي له لا مستقبل له".

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 12/آيار/2013 - 1/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م