التنمية وجدليات الحرية

محمد محفوظ

تتفق جميع النظريات والمذاهب الاقتصادية حول ضرورة توفير جميع الضرورات الاقتصادية، للمستهلك (الفرد والمجتمع) وصولا إلى تحقيق مرحلة الإشباع المادي عن طريق الخدمات والسلع التي تنتجها الدولة أو تستوردها إلى المواطنين.

ولكن هذه النظريات والمذاهب تختلف في وسائل تحقيق هذه الضرورات فكل النظريات تسعى إلى الوصول (على المستوى العملي) إلى مجتمع الوفرة أو الرفاهية.. ولكنها تختلف في طرق الوصول إلى هذا المجتمع المثالي (اليوتوبي) وما نريد قوله في هذا المجال، هو في استخدام المؤشرات الكمية، لقياس مدى التطور الاقتصادي الذي حصل في أي مجتمع بشري.

وحتى تتضح هذه المسألة نقول أنه مع بداية الاستقلال الذي حصلت عليه بلدان العالم العربي والإسلامي بدأت الدوائر الأكاديمية الغربية في تطوير حقل التنمية وتهدف هذه الدوائر من هذا التطوير، الترويج للمفاهيم والطرائق الغربية في البناء الاقتصادي والتنمية. وخلاصة هذه المفاهيم والطرائق أن تحقيق التنمية في البلدان العربية والإسلامية، لا يمكن أن يتأتى أو يتحقق إلا إذا حذت هذه البلدان حذو الدول الغربية وأتبعت نموذجها التنموي. وبتعبير آخر أن النهج الوحيد للدخول في عالم التنمية، لا يمكن أن يكون إلا غربياً مما يعني أن شرط التنمية هو الإقتداء والالتزام بالوصفات الغربية في المشاريع الإنمائية المختلفة.

وبهذا تحاول الدول الغربية الإبقاء على الدول النامية نامية إلى الأبد حيث تعتمد في تنمية هياكل الدولة ومؤسساتها المختلفة على النموذج التنموي الغربي.. مما يربط مصير هذه العملية بما تمنحه إياها الدول الغربية وبالطبع لا تمنحها هذه إلا بالقدر الذي يحافظ على تبعيتها الاقتصادية وإلحاقها الحضاري بها.

وفي الإطار العربي والإسلامي بدأت النخب السياسية والاقتصادية بممارسة هذه العملية واستعارت نفس الأدوات والمعايير والمؤشرات المستخدمة في النموذج التنموي الغربي.. فبدت التنمية وكأنها عملية ميكانيكية بحتة، وتجلت هذه الحقيقة في مؤشرات التنمية المستخدمة حتى أضحت المتغيرات الكمية هي المقياس والمعيار من قبيل نسبة سكان المدن للريف وعدد المدن التي يزيد عدد سكانها على حد معين، ونسبة العمال الصناعيين للعدد الإجمالي للقوة العاملة ومستوى دخل الفرد وما أشبه.. وللتوضيح دعنا نلتفت إلى الكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي التي تعطينا نموذجاً صارخاً يوضح عدم فعالية المؤشرات المستعملة في قياس عملية التنمية.. فقد تمكنت هذه الدول وبفضل متغيرات اقتصادية ليست ثابتة أن تبتاع نتائج التنمية ومظاهر التطور الاقتصادي. وبهذا أصبحت هذه الدول اعتماداً على المؤشرات الكمية الآنفة الذكر عصرية ومتطورة أو على الأقل في دربها لتصبح عصرية وحديثة.. ولكن إذا أخذنا جوهر العملية التنموية ومضمونها بعين الاعتبار نجد أن غالبية هذه الدول مازالت تعيش في العالم النامي.

وتأسيساً علـــــى هذا نقـــــول: أن عملية التنمية السليمة لا تبدأ بالمظاهر والمؤشرات الكمية، وإنما تبدأ بالمضمون والجوهر وهو الإنسان. فبدون أن يتطور الإنسان في ثقافته ونظرته وعقليته تبقى عمليــة التنمية ظاهرية ـ شكلية ـ مزيفة لا تعكس الواقع بأمانة.

فمربط الفرس في مشروع التنمية هو الإنسان والنظام القيمي الذي يتحكم فيه على المستوى الشخصي والاجتماعي.. وهذا يعني أن البداية الحقيقية لمشروع التنمية تبدأ وتعتمد على تفعيل القدرات الذاتية للمواطنين وتوظيفها بما يخدم التطلعات التنموية للمجتمع.

فلا تنمية شاملة ومستدامة، بدون فك القيود أمام المواهب والطاقات والكفاءات الوطنية للمشاركة في هذا المشروع المفتوح على كل التعبيرات والإمكانات. ولا يمكن أن ننجز هذا بدون الديمقراطية والإصلاحات السياسية النوعية التي تشرك جميع المواطنين بصرف النظر عن منابتهم العرقية والقومية والدينية في مشروع البناء والعمران.

ولا ريب أن حبس الحريات وتقييدها، والتضييق التعسفي على القوى الوطنية والتعبيرات المجتمعية، يساهم بشكل كبير في ضياع الاستقرار السياسي والاجتماعي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنجح مشروعات التنمية في ظل غياب الاستقرار السياسي والاجتماعي. فالاستقرار شرط التنمية، ولا استقرار (بالمعنى الحضاري والدائم) بدون الحرية والديمقراطية، لذلك كله فإن شرط التنمية توفر الحريات العامة، وتوفر الظروف الذاتية والموضوعية لكي تمارس كل قوى الوطن وتعبيراته دورها ووظيفتها في مشروعات البناء والتنمية. والتنمية الشاملة بحاجة دائما إلى جرعات كبيرة من الحرية، حتى يتم تقويم الاعوجاج، ومراقبة الأداء، ومحاسبة المقصرين، وتحفيز الهمم صوب التطلعات العليا، وكفاح دائم لاجتثاث أسباب الضعف والتراجع والتأخر. وإن أي تفريط بأي مفردة من مفردات الديمقراطية، سينعكس سلبا على مسيرة التنمية. فالديمقراطية هي الشرط العميق والجوهري، الذي ينبغي أن يتوفر (ثقافة وآليات عمل ومراقبة ومحاسبة) لنجاح مشروعات التنمية. وذلك لأن التعسف الداخلي وشيوع حالة الاستبداد والديكتاتورية، يقضي على كل الحوافز التي تدفع الأفراد والجماعات إلى تطوير أدائهم الاقتصادي والعملي، وتبرز من جراء ذلك جملة من الكوابح والموانع التي تشتت الطاقات وتبعثر الجهود. ولهذا نجد أن هناك علاقة طردية بين الحالة السياسية وهجرة العقول المفكرة. إذ أن الدول والأمم التي تسودها أنظمة ديكتاتورية واستبدادية تزداد لديها ظاهرة هجرة العقول والأدمغة المفكرة. كما أن الدول الديمقراطية والتي تعيش وضعا سياسيا مستقرا على قاعدة الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان، تتحول إلى دولة مستقطبة وجاذبة إلى الطاقات والمواهب والقدرات بكل مستوياتها وتخصصاتها.

فالمشروعات السياسية التي تقصي الديمقراطية من فضائها، وتحارب آليات التداول السلمي للسلطة، وتمتهن كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، فإن دورها التاريخي يتجسد في وأد الطاقات والقدرات ومحاربة الإبداعات الإنسانية، والتماهي مع كل أشكال الحكم الديكتاتوري والاستفراد بالرأي والقوة، حتى ولو حملت هذه المشروعات يافطات ديمقراطية، وتنادي في شعاراتها ومنابرها الإعلامية والسياسية بقيم تقدمية وحضارية. فالمشروع السياسي الذي لا يثق بخيارات شعبه، ويحتقر مضامين الديمقراطية السياسية، فإن مآله الأخير، هو ممارسة كل أشكال القمع والاستبداد والعنف لاستمرار حكمه وسلطته. فالاستبداد لا يخلق تنمية، وإنما نموا مشوها ومرتبطا على نحو هيكلي بمراكز قوى دولية تزيد من فرص التبعية والهيمنة. لذلك فلا تنمية مستديمة وشاملة، بدون ديمقراطية، تدفع الجميع إلى ممارسة أدوارهم ووظائفهم في هذه الملحمة الوطنية المقدسة. فالمجتمع المسلوب الإرادة، الذي لا يمارس أي دور إلا بأمر، ولا ينتهي عن شيء إلا بنهي، لا يمكنه أن ينجز تنمية مستدامة. لأن التنمية كمشروع مجتمعي، بحاجة إلى مجتمع حر، حيوي، يعتز بكرامته ويدافع عنها. ويمارس حريته، ويشعر بضرورة حضوره وشهوده. وبكلمة أن الديمقراطية هي مولد تاريخي للتنمية والتطور والتقدم الشامل.

كما ينبغي القول في هذا الصدد: أن المؤشرات الكمية لقياس درجة التطور والتنمية الاقتصادية في مجتمع ما، لا تعكس حقائق الاقتصاد بشكل سليم. لهذا من الضروري تأسيس مؤشرات نوعية لقياس درجة التطور الاقتصادي. وفي تقديرنا أن الإنسان هو الرأسمال الحقيقي لأي عملية تنموية واقتصادية لذلك من المناسب أن يكون مؤشر قياس التنمية ودرجة التطور الاقتصادي في المجتمعات الإنسانية هو التنمية البشرية بعناصرها الكاملة ومتطلباتها الضرورية. وبهذا نتمكن ونحن في بداية الألفية الثالثة، من تأسيس قياسات نوعية وكيفية لقياس مدى التطور الاقتصادي في مجتمعاتنا حتى نبدأ مشوار البناء الاقتصادي القائم على الحقائق النوعية الدامغة لا الكمية الواهمة. ولا يمكن أن تدب الحياة في مشروعات التنمية ومؤسسات الفعل الاقتصادي، بدون إصلاح سياسي، يعيد الاعتبار للقواعد الاجتماعية الواسعة، عبر توسيع دائرة مشاركتها واحترام وصيانة حقوقها ومأسسة الإدارة السياسية، بحيث لا تكون حكرا على فئة أو شريحة أو نخبة. حينما تبدأ عجلة الإصلاح السياسي بالدوران، حينذاك ستبدأ أيضا تدب الحياة في أوصال الحقل الاقتصادي في المجتمع. فلا نهوض اقتصادي بدون إصلاحات سياسية، فهي بوابة الإصلاحات الاقتصادية والمالية والتجارية. فالعديد من الظواهر المرضية في الجسم الاقتصادي للكثير من بلداننا العربية والإسلامية، ناتجة من غياب الحريات السياسية، التي تسمح للأحزاب والنقابات والقوى الحية في المجتمع، بمراقبة الأداء ومحاسبة المقصرين أو المسببين لتلك الظواهر المرضية والمعرقلة للتطور الاقتصادي.

ويبدأ الإصلاح السياسي، بمحاربة كل أشكال الفساد السياسي، وتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة السياسية، وتطوير أطر المشاركة السياسية ومستوياتها، وتنظيم العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمع بمؤسساته المدنية والسياسية والثقافية والاقتصادية. هذه هي الخطوات الضرورية لأية عملية إصلاح سياسي. وفي تقديرنا أن القيام بهذه الخطوات، سيعزز من ثقة المجتمع بسلطته السياسية، وسيسمح لجميع القوى بالمشاركة الفاعلة في البناء والتطوير، وهذا بحد ذاته سينعكس إيجابا على كل مشروعات وخطوات التنمية الوطنية.

إن التنمية الشاملة في مجالنا العربي والإسلامي، لا يمكن أن تتحقق على أكمل وجه، وتؤتي ثمارها، بدون حريات سياسية، تمتص احتقانات الواقع، وتستوعب بطريقة حضارية تناقض الحياة السياسية الوطنية وتبايناتها. وإن النظام السياسي الذي يقفز على هذا الواقع على أمل أن يحقق مكاسب اقتصادية وتنموية، دون أن يدفع ثمنها السياسي، فإنه في نهاية المطاف سيصطدم بالعديد من العقبات والمشاكل التي ستعرقل من مشروع التنمية وتحبطه. وفي المقابل أيضا نستطيع القول، أن الديمقراطية بكل مؤسساتها ومجالاتها وآلياتها، لا يمكنها أن تتطور وتتجذر في المحيط الاجتماعي، إلا إذا أسندت بتنمية اقتصادية متطورة، تستوعب كل الشرائح والفئات، وتمتص إشكاليات الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وتوفر نظاما تضامنيا مع كل الفئات الضعيفة في المجتمع. وقد قيل أن الذين لا يملكون خبزهم لا يملكون أصواتهم.

فلا تنمية موصولة بدون ديمقراطية، كما أنه لا ديمقراطية حقيقية وفعالة، بدون تنمية اقتصادية مستديمة ومقتدرة.

من هنا فإن التحديث الاقتصادي السطحي والهش، لا يفضي إلى ديمقراطية، وذلك لأن هذا التحديث سطحي وقسري، فيعمق الفروقات بدل أن يردمها، ويجذر التفاوت بدل أن يستوعبه، كما أن الديمقراطية الشكلية والفوقية، لا تفضي إلى تنمية موصولة، بل تزيد التجاذبات والمساجلات السياسية في الدائرة المغلقة التي لا تؤدي إلا إلى المزيد من المماحكات والسجالات، كما أنها لا تخلق تفاعلا خلاقا وتواصلا ديناميا بين المجتمع بقواه ومؤسساته ومشروعات التنمية والتطوير الاقتصادي. وبالتالي فإن العلاقة بين التنمية والديمقراطية، علاقة جدلية ومعقدة ومتشابكة، وكل طرف يحتاج إلى الطرف الآخر ويغذيه، ولا يمكن أن تنجز انطلاقة حضارية جدية بدونهما معا. فإن المجتمعات دائما تحتاج إلى الأمن الاقتصادي والمعيشي وهذا لا يتحقق بدون تنمية اقتصادية موصولة. كما أن المجتمعات بحاجة إلى أمن سياسي ومجتمعي وهذا لا ينجز بدون الحريات العامة والديمقراطية بكل آفاقها وآلياتها. وهذه العملية المتكاملة بين الديمقراطية والتنمية، بحاجة إلى كتلة تاريخية وحلف اجتماعي كبير، يأخذ على عاتقه توفير عوامل التكامل وأسباب القدرة على تجاوز كل العقبات التي تحول دون التكامل. " وإن التجربة الإنسانية أثبتت أن الديمقراطية هي الإطار الصحيح للتنمية. وأن ما زعم بأنك لا تستطيع أن تحصل على خبز إلا إذا كان عندك نظام غير ديمقراطي، ثبت فشله لأن ـ في الواقع ـ الأنظمة السلطوية لم تستخدم خلال الخمسين سنة الأخيرة لتحقيق التنمية ولإعطاء الناس الخبز، إنما استخدمت لملء جيوب الحكام بملايين الملايين، التي هربت إلى سويسرا، أنظر إلى كل الأنظمة التي استعملت هذه الحجة، كلها انتهت ـ في النهاية ـ ليس إلى إعطاء الخبز للشعب ولكن إلى إعطاء الملايين للسلطة الحاكمة، وعلى ذلك أنا أرفض رفضا باتا التفرقة بين الحقوق"(1)

فالحقوق تتكامل مع بعضها وتتداخل، بحيث أنه لا يمكن استخدام سياسة المقايضة. فكل حق مسنود من الحق الآخر، وأي خلل أو انتهاك لحق من الحقوق الأساسية، فإنه يؤدي إلى خلل في النظام الحقوقي بأسره، وهذا ينعكس بدوره على مجمل النظام السياسي والاجتماعي. فالتنمية بحاجة إلى استقرار سياسي وأمني واجتماعي، وتبقى الديمقراطية هي سبيل نيل هذا الاستقرار. لذلك فالتنمية بحاجة إلى الديمقراطية، حيث أنها توفر المناخات الملائمة لانطلاق مشروعات التنمية ولاحتضانها من قبل قوى المجتمع ومؤسساته السياسية والاقتصادية والمدنية. وإن إعطاء الأولوية لبناء البنية التحتية للتنمية، وإرجاء عملية الإصلاح السياسي، لا يؤدي إلى نتائج إيجابية كبيرة، وذلك لأن البنية التحتية لمشروعات التنمية، تحتاج منذ اللحظة الأولى لبناء سياسي مفتوح على طاقات الشعب ويتفاعل مع حاجاته وطموحاته السياسية. لذلك فإن تأجيل الديمقراطية، تحت مبرر عدم استعداد الشعب إلى الديمقراطية أو إعطاء الأولوية لأي مشروع اقتصادي أو اجتماعي آخر، يفاقم من الأزمة والاحتقانات السياسية والاجتماعية الخطيرة. فـ " مسألة تأجيل الحرية السياسية والاقتصادية فهي قضية تتعلق بالشرف الإنساني أكثر مما تتعلق بالسياسة، فعندما تختلط مياه الشرب بمياه المجاري، فهل نرى تأجيل إيجاد حل لذلك تحت أي شعار ولأي سبب حتى ولو لدقيقة واحدة ؟ إن تأجيل إعطاء الفرد حقوقه السياسية والاقتصادية لعدة ساعات تعني في المقابل إعطاء بعض الناس الوقت نفسه لسرقة حقوقه وتحويله لعدو شرس أو إضافة بشرية تعسة " (2) وإن تنمية بلا حريات منطق سياسي يفضي إلى المزيد من الأزمات الاجتماعية والسياسية، لأنه منطق أشبه بوضع البقرة خلف المحراث، فلا تنمية حقيقية بدون حريات تكفل للجميع حقوقهم وكرامتهم، وتعزز فرص التسامح والمشاركة النوعية، وتزيل الكثير من الالتباسات والهواجس، التي تحول دون مشاركة جميع القطاعات والفئات في مشروعات التنمية والبناء الوطني. فالديمقراطية هي البوابة الكبرى للتنمية والاستقرار السياسي والمجتمعي. فلا يمكن أن تتحقق الأهداف الوطنية في التنمية الشاملة والعدالة والأمن، بدون ديمقراطية تفسح المجال لكل القوى والتعبيرات في المشاركة في اجتراح التجربة الوطنية وبلورة خياراتها العملية للوصول إلى تلك الأهداف الوطنية. ولقد أثبتت التجارب والدول الديمقراطية، " قدرتها على التطور والتكيف مع طموحات الشعوب وحاجاتها المتجددة، تعبيرا عن قدرتها النسبية على استمرار عملية التنمية الشاملة المستدامة واحترامها لثوابت الشعوب، بسبب تمثيلها لآراء مواطنيها ومصالحهم بشكل متجدد عبر العصور والأجيال.

ويعود تقدم الدولة الديمقراطية واستمرارها بالدرجة الأولى إلى تجديد الدولة الديمقراطية لقياداتها السياسية والمهنية والاجتماعية، وتجديد رؤيتها وتوسيع خياراتها بسبب وجود الحرية وبفضل الحراك السياسي والاجتماعي وتداول السلطة، ونتيجة لوجود المشاركة السياسية الفعالة في اتخاذ القرارات العامة الملزمة " (3) فالديمقراطية بما تعني من ثقافة وآليات انتخابية ودستورية وقوى مجتمعية منتظمة في إطار دستور ديمقراطي، هي شرط لازم لنجاح المشروعات التنموية في مجالنا العربي والإسلامي. وفي هذا الإطار لا بد من الإدراك، أن وجود رؤية تنموية سليمة، بدون إرادة سياسية تترجم هذه الرؤية إلى إستراتيجيات للعمل والممارسة، لا يعالج الواقع بل يزيده تدهورا وتأزما. ولا ريب أن توفر الإرادة السياسية الفعالة، مرهون إلى حد بعيد إلى وجود نظام سياسي واجتماعي ديمقراطي، يحفز الجميع للمشاركة، ويضمن لهم حقوقهم، ويصون مكتسباتهم. فلا تنمية مستديمة بدون ديمقراطية تحقق الإرادة السياسية النزيهة المتجهة صوب توفير كل مستلزمات ومتطلبات النجاح في مشروعات التنمية الشاملة.

وأن التنمية ليست مشروعاً أحادياً أو خياراً ذا نزعة واحدية، بل هي مشروع متكامل وسياق متماسك، يسعى بخططه وبرامجه المختلفة، إلى تنمية جميع المصادر والثروات والعناية بجميع الجوانب والحقول.

فالمشروع التنموي ليس خاصاً بالاقتصاد أو السياسة فحسب، بل هو مشروع يتجه إلى جميع جوانب الحياة الاجتماعية لتنميتها وتطويرها وفق الخطة المرسومة.. فلا يمكن مثلا الفصل بين اقتصاد المجتمع ومستوى التعليم فيه، كما لا يمكن الفصل بين السياسة التنموية وقضية توزيع الدخل القومي مثلاً.كما أن مشروع التنمية ليس مشروعاً اقتصادياً أو تجارياً متجهاً لمصلحة النخبة الاقتصادية والمالية فحسب، بل هو مشروع كامل يلبي متطلبات كل القطاعات والشرائح الاجتماعية.. وبهذا فأن هدف التنمية الأساسي ليس مراكمة الآلات والمعدات التكنولوجية أو تكوين رأسمال ضخم خارج الدورة الإنتاجية الوطنية.. أن هدف التنمية يتجسد في بناء الإنسان وبلورة طاقاته وصقل مواهبه، وإنضاج إمكاناته الذهنية والفنية. فكل الخطط والمشاريع التنموية بحاجة إلى الإنسان عملا وعقلا. لذلك من الطبيعي أن تتجه هذه المشاريع إلى الإنسان.. وهذا التوجه التنموي هو ما ينسجم ومنظومتنا العقدية ونظرتنا إلى الأشياء والإنسان.

وينبغي القول في هذا المجال أن القوى الغربية تسعى جاهدة إلى تحويل عالمنا العربي والإسلامي، إلى بؤرة محكومة تاريخياً بالتخلف والتقهقر الحضاري، وذلك بالترويج للمشاريع والخطط المنسجمة وبيئات تلك القوى والسعي إلى ربط العالم العربي والإسلامي هيكلياً بهذه الأنماط والمشاريع ذات الجذور والمصلحة الغربية.

أن النمط التنموي الذي يسعى الغرب إلى تعميمه، لا يحمل استحقاقاً واحداً من التجربة.. ذلك أنه لم يكن يوماً نظرية سابقة للتطور الاقتصادي الغربي.. أن نظرية التنمية الاقتصادية لم تكن سابقة عن التطور الفعلي في الولايات المتحدة الأمريكية فهي توصيف لاحق.

وهكذا في إطار تعميم النظريات التنموية الغربية، ينسى التاريخ وينسى الإنسان لتبقى المسألة حبكاً على نظريات الغرب المجهولة حلولاً لأزماتنا التنموية والاقتصادية. فليس قدر العالم العربي والإسلامي أن يبقى متخلفاً اقتصادياً، لاهثاً وراء الحلول الوهمية حيث الضياع الكامل في شتات من المدارس كلها تنظر إلى اقتصاديات الأطراف على أساس الجبرية التاريخية.

لهذا فأننا بحاجة إلى وقفة نستنهض فيها وعينا الذاتي وننظر إلى التنمية من منظار ينسجم وخصائصنا الذاتية وظروفنا الاقتصادية. ومن دون هذه الوقفة ستنطبق علينا حتماً الدائرة المفرغة في تحليل المشكل التنموي لعالمنا العربي والإسلامي. ولا يمكن للإنسان الفرد والجماعة، أن ينخرط على نحو إيجابي في مشروعات التنمية والعمران، إلا إذا تغيرت ثقافته ومفاهيمه وتصوراته. لذلك فإن التغيير الثقافي، بمعنى العمل على تصحيح مفاهيم الإنسان وتصوراته عن الوجود والحياة والتقدم والعمران، هو الخطوة الأولى في مشوار التنمية وإصلاح الممارسات القائمة على الصعيدين الفردي والجمعي. لذلك فلا تنمية شاملة ومستدامة، بدون ثقافة مسئولة، تصيغ تصورات الإنسان وقناعاته، وتحمله مسئولية نوعية في مسيرة الحياة والمجتمع، وتحفز همته صوب النشاطات البناءة والخلاقة. لهذا نجد في كل التجارب الإنسانية، التي استطاعت أن تحقق قفزات نوعية في التنمية والتطور. أن هذه القفزات سبقتها عملية تصحيح وإصلاح ديني واجتماعي وثقافي. بحيث يعاد تشكيل وعي الإنسان الفرد والجماعة، حتى يبقى مؤهلا للانخراط الفعال في مشروعات البناء والتنمية. فلا يمكن على مستوى التجربة الغربية، أن نفصل بين حركة الإصلاح الديني والتطور الهائل الذي شهدته هذه التجربة على المستويات المادية والعلمية والتكنولوجية. فجذور التقدم الهائل الذي أنجزته التجربة الغربية، نجدها في حركة الإصلاح الديني في غرب أوروبا. فعملية الازدهار والرخاء والرفاه، تجد جذورها في تلك المفاهيم والقيم والتصورات، التي أخرجت الإنسان من متاهات ودهاليز الضياع والتردد والعبثية، وأدخلته في مضمار الجدية والبناء والمشاركة الإيجابية والفعالة في عمليات التنمية والتطور والتقدم. فتنامي القدرات الإنتاجية والتنظيمية والعلمية في أي مجتمع مرتبط ارتباطا وثيقا بنوعية الثقافة السائدة. لذلك فإن التطلع إلى التقدم، يتطلب ممارسة إصلاح اجتماعي ـ ثقافي، بحيث تسود ثقافة العمل والحرية والمسئولية، بدل ثقافة الكسل والخمول والجبرية والقدرية.

إن مشوار التنمية الشاملة، يبدأ حينما نستطيع تجاوز كل القواعد الفكرية والثقافية المسئولة عن إدامة كل حالات السكون والتراجع والتخلف.

لذلك نستطيع القول: أن التراجع الحضاري يبدأ، حينما تضمحل الثقافة المسئولة، وتتلاشى قيم العمل والكسب الحضاري. فبمقدار هذا الاضمحلال والتلاشي، يتم التراجع والتأخر. فكلما تقلصت الثقافة المسئولة، تقلصت إمكانية التقدم، وبدأت مسيرة التراجع والتقهقر الحضاري. من هنا فإن الثقافة بما تتضمن من قيم ومبادئ وآليات عمل، هي المهاد الضروري، لانطلاق مشروعات التنمية الشاملة. والعلاقة جد عميقة بين الثقافة والتنمية، إذ أنه لا تنمية بدون ثقافة جديدة تسود في المجتمع وتحركه نحو تطلعات التنمية، كما أنه لا ثقافة حية بدون محيط مجتمعي فاعل ودينامي.

فالتنمية لا تأخذ معناها وأبعادها الحقيقية، إلا بحضور العنصر البشري في السياسات والأهداف والوسائل أيضا. فلا تنمية بلا إنسان، كما أن الإنسان هو وسيلتنا الفعالة، لإنجاز الغايات وتنفيذ المشروعات. وإن الإنسان هو بؤرة الاهتمام في المشروعات التنموية، وهو صانعها وغايتها ووسيلتها في آن. وأي تجاوز لهذه الحقيقة، فإنه يعني على المستوى الفعلي، بذل وصرف الكثير من الإمكانات والطاقات، دون إحداث نقلة نوعية وحقيقية في الفضاء العربي والإسلامي. وذلك لأنها مشروعات أقصت الإنسان من تخطيطها وبرامج عملها، لذلك فإنها قد تنجح في تطوير الجوانب المادية والفنية في هذه الدول، إلا أنه تطوير سيعتمد في كل شيء على الأيدي الأجنبية، دون أن تتمكن الأيدي الوطنية من تشغيلها أو الاستفادة منها على المستويين الاقتصادي والفني. والتنمية هي عبارة عن عملية تطوير لكل حقول الحياة، بحيث تشمل القيم الاجتماعية وأساليب الإنتاج والأنظمة السياسية والاقتصادية. وبالتالي فإن التنمية هي عبارة عن عمليات مستديمة لبلورة الطاقات الخلاقة وتفجير كفاءات المواطنين والعمل على توفير كل أسباب التقدم وعوامل الحياة الأفضل. فالتنمية لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية والمادية فحسب، بل هي تستوعب كل مجالات الحياة، وتتطلع إلى إزالة معوقات التقدم في كل هذه المجالات. لذلك فإن التجدد الذاتي وتشجيع حركة الإبداع والاجتهاد والمبادرات الخلاقة، ومحاربة الجهل والأمية والعوز والفقر، وتحرير الفكر من معوقات التجديد والاجتهاد. كل هذا من صميم عملية التنمية وفق المنظور الحضاري.

لذلك نستطيع القول: إذا كانت التنمية نهج حياة وعملية بعث حضاري شامل، فإن الديمقراطية والحريات السياسية تأتي في طليعة الشروط التي ينبغي أن تتوفر حتى تؤتي عمليات التنمية ومشروعاتها ثمارها المرجوة وتحقق آفاقها المنشودة. وذلك لأن عملية التنمية إذا فقدت شرط الحرية، أي إذا كان مشروع التنمية، يقاد من قبل نخبة سياسية مستبدة، تقصي الآخرين، وتهمش كفاءات الوطن، فإن مآل هذا المشروع، هو أنه سيتحول في أحسن الفروض إلى مشروع للإنماء وليس للتنمية. وذلك لأن النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تدافع عنه هذه النخبة وتعتبره نموذجها النهائي، لا يفضي إلى الإبداع وفسح المجال القانوني والسياسي، لكي تساهم كل طاقات الوطن في هذه المشروعات. وبالتالي فإن هذه النخبة المستبدة، تحاول عزل هذه المشروعات عن القاعدة الاجتماعية الواسعة، حتى لا تلتزم بتوفير متطلبات هذا المشروع السياسية والثقافية. لذلك فإننا نجد في العديد من البلدان ذات الأنظمة المستبدة، أن مشروعات التنمية، كأنها جزر معزولة عن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام. فالإخفاقات العديدة التي منيت بها الكثير من مشروعات التنمية في المجالين العربي والإسلامي، نابع في تقديرنا من غياب الحريات، الذي يؤدي إلى غياب البعد السياسي والاجتماعي الداعم لهذه المشروعات. فأضحت المشروعات التنموية بمثابة الأفكار والقرارات المفروضة من أعلى، دون أن تكون لها جذور حقيقية في المجتمع.

وإقصاء الإنسان من العملية التنموية، يعني الاستمرار في الحاجة إلى الأجنبي في كل شيء. وليس من التنمية في شيء تطوير حاجاتنا إلى الأجنبي أو أن تكون كل المشروعات والمؤسسات والمصانع تدار بأيدي غير وطنية، وذلك لأنها ستبقى مشروعات أجنبية في كل شيء ما عدا التمويل والأرض.

والبعد البشري في التنمية يعني الأمور التالية:

(1) إعادة الاعتبار إلى الإنسان ومتطلباته وحاجاته للمشروعات التنموية. فهو المقياس الوحيد في سلامة المشروع، كما أنه معيار تحديد سلم الأولويات، وهو الذي يحدد المضامين الثابتة لهذه المشروعات والخطط التنموية. فمشروعات التنمية كما تلحظ الأبعاد المادية والفنية، ينبغي لها أيضا أن تلحظ الأبعاد الإنسانية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية وما أشبه.

(2) العناية بالمكونات الخلفية لمشروعات التنمية: فالثقافة والمستوى الحضاري والتعليمي، كلها مكونات إنسانية لها تأثير مباشر في العملية التنموية. وأي قفزة في المشروعات المادية أو الاقتصادية البحتة، دون سبقها بتطوير في العملية التعليمية والمستوى الثقافي والحضاري، فإنها ستكون قفزة غير محسوبة النتائج، وقد تكلف البلد الذي يقدم على هذا التصرف الكثير من إمكاناته المادية. لذلك نجد أن المشروعات التنموية التي تتبناها بعض الدول، تسبب آثارا اجتماعية وثقافية خطيرة، كالتفكك الأسري والمزيد من الاغتراب النفسي والاجتماعي، وذلك كله يرجع في تقديرنا إلى أن هذه الدولة، أقدمت على تأسيس بعض المشروعات، من دون النظر أو العناية بالمكونات الثقافية والحضارية والتعليمية للمجتمع. فالتنمية لا تتحقق دفعة واحدة، وإنما هي عمل إنساني متواصل، يتراكم مع بعضه البعض، حتى يصل بجهود كل الأطراف والمكونات إلى المستوى التنموي المنشود. والتنمية قبل أن تكون مصانع ومنشآت اقتصادية ضخمة، هي سياسات وإستراتيجيات واضحة، تشرك كل المواطنين (كل من موقعه) في هذه العملية. وتغييب أي قطاع أو مكوّن، فإنه ستكون له آثاره السلبية الواضحة على المشروعات التنموية. وذلك بفعل غياب بعض الأبعاد الفعلية، التي ينبغي أن تلحظها الخطط أو المشروعات التنموية.

فالتنمية الشاملة لا يمكن أن تنجز على الصعيد الواقعي، إلا بتطوير خطط ومشروعات تنمية الموارد البشرية، حتى يتوفر الكادر البشري القادر على إنجاز مقولة التنمية الشاملة في الواقع الخارجي.

(3) إن مقياس التطور والتقدم، ليس امتلاك الموارد الطبيعية فقط، أو استيراد أحدث تقنيات العصر، وإنما المقياس الحقيقي، هو مقدار البناء العلمي والأخلاقي للإنسان. فكلما تطورت أساليب تنمية قدرات الإنسان وطاقاته، أصبح المجتمع أقرب إلى التطور والتقدم. فالبناء الإنساني هو الذي يحدد مستوى التقدم في المجتمع.

ويخطأ من يعتقد أن سبيل التقدم، هو استيراد التكنولوجيا، والتغافل عن مشروعات التنمية البشرية. لأن هذا السبيل يزيد من حالات التبعية، ويقضي على كل الإمكانات والمبادرات المتجهة صوب البناء والاكتفاء الذاتي. وإن الإرباكات المنهجية والعملية، التي تعانيها العديد من التجارب التنموية في البلدان العربية والإسلامية، ترجع إلى غياب المعايير الواضحة الخاصة بنسق أو أنساق التطور الاجتماعي والاقتصادي. ولا ريب أن تنمية الموارد البشرية من المعايير التي نتعرف من خلالها على مستوى التطور وتجاهه ومساره. فلا بناء اقتصادي وتطوير اجتماعي، إلا بتنمية بشرية، فهي الجسر الوحيد والفعال، الذي يؤهلنا كمجتمعات لتحقيق البناء الاقتصادي والتطوير الاجتماعي. وأي بناء اقتصادي بدون تنمية بشرية، فإن مآله الأخير هو الاعتماد الكلي على الآخرين سواء في المواد والمسائل الفنية أو الإدارة. وهذا لا شك يسبب الإرهاق لميزانية الدول، ويجعلها تصرف الأموال الطائلة على منشآت ومؤسسات اقتصادية، لا تستفيد منها استفادة فعلية في مسارها الاقتصادي والاجتماعي.

من هنا ينبغي أن نحجم جميعا، عن القيام بالممارسات والسلوكيات التي تبعدنا عن الإنسان في العملية التنموية. ونعيد الاعتبار إلى مفهوم التنمية البشرية، ونبحث في تاريخنا وتقاليدنا وواقعنا عن مكوناته ووسائله وروافده، ونعمل على تنشيطها وبث الروح في أوصالها، حتى تشترك جميع القطاعات في احترام القيم الاجتماعية والاقتصادية الحاضنة لهذا المفهوم وروافده الإنسانية. والحرية هي التي تهيأ الأرضية والظروف السياسية والمجتمعية، لكي تمارس كل القوى والتعبيرات وظائفها وأدوارها في البناء والتنمية. وأخطاء المسيرة والممارسة تعالج بالمزيد من تأكيد قيم الحرية والديمقراطية في الفضاء الاجتماعي ومفردات مشروعات التنمية الشاملة، وبدونها تتكالب المشاكل، وتتفاقم الأزمات، وتتضخم السلبيات، دون وجود إرادة الحل والمعالجة. و " لعله من النافل القول أن المحروم من الحرية هو ـ بالذات ـ من لا يستطيع احترام حرية الآخرين، فهو إذ ينتهكها، يعبر عن واقع موضوعي تماما: فقدانه الشعور بالحرية. وعليه، كلما أمكنه أن يتمتع بحرية الرأي، كلما مال إلى احترام حق الآخرين في الرأي والاختلاف. وظني أن ذلك إنما يحصل متى قام الاجتماع السياسي والمدني على قواعد الديمقراطية ومتى نجحت هذه في حماية حق الجميع في القول الحر غير المقيد بما يسمى في لغة السياسة بالخطوط الحمراء " (4) فالتنمية في جوهرها، هي البحث عن كيفيات مناسبة للتطور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ومساءلة السائد ونقده وصولا إلى الرؤية الصائبة والبرنامج المناسب والمنسجم وخصوصيات اللحظة والواقع المجتمعي. وكل هذه الأمور لا تتأتى وتستقيم إلا بالحرية والديمقراطية، فهي بوابة التنمية وإحدى غاياتها في آن. " وإن حركة التنمية تتوقف على توفر مجموعة من الشروط النفسية والثقافية:

 نفسيا، يجب توفر شروط ثلاثة لكي يتأتى توجيه الطاقة الاجتماعية نحو تطوير المحيط الاجتماعي والمادي:

 (1) توجه سلوك أفراد المجتمع نحو الإنتاج، بنوعيه الفكري والمادي.

 و(2) قدرة الأفراد على تأجيل، وكبح جماح، الرغبة في الاستمتاع الفوري بالوفرة المادية بحيث يتم إعادة استثمار جزء من الثروة الناتجة لتسريع عملية التنمية، وتحسين مهارات وإمكانيات الإنتاج.

و(3) الاعتقاد الراسخ بالقيمة الإيجابية للقدرات الإبداعية والخلاقة.

ثقافيا، لا بد من توفر عدد من الشروط الثقافية الاجتماعية لكي تتاح الفرصة للقدرات النفسية لتأخذ مداها، وفي مقدمتها:

(1) قيام احترام متبادل بين أفراد المجتمع، متمثل بموقف الأفراد المتسامح تجاه الاختلافات في التفسيرات النظرية والأولويات العملية.

 و(2) وجود نظام سياسي يسمح بالمشاركة السياسية والنقد البناء ويوفر آليات للتصحيح الذاتي.

و(3) تطوير منظومة قانونية فعـــالة وعادلة، تكتسب احــترام الأفراد،

و(4) ظهور حركة فكرية وعلمية ناشطة " (5) فالتنمية وفق هذا المنظور، لا تتم بمعزل عن الجوانب المجتمعية الأخرى. وإنما هي بحاجة إلى مشاركــة جميع الجوانب والطاقات في هذا المشروع الحضاري والإنساني. وجهود التطوير والتنمية التي تغفل الجوانب الثقافية والاجتماعية، لا تنجز تقدما حقيقيا وإنما تكديسا واستهلاكا لسلع الحضارة وأشيائها المادية.

ولا تنمية قابلة للاستمرار، إلا بالمزيد من إبداع وتطوير وسائل تنمية الموارد البشرية، فهي خيارنا الذي ينبغي أن نعمل جميعا من أجل اجتراح وسائل جديدة لإنجازه.

http://aafaqcenter.com

...............

الهوامش

1. عمرو عبد السميع، أحاديث الحرب والسلام والديمقراطية، كتاب (الديمقراطية)، ص 162، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، القاهرة 1998م.

2. المصدر السابق، ص (206 ـ 207).

3. مجلة المستقبل العربي، العدد 267، ص 12، (5 ـ 2001).

4. عبدالإله بلقزيز، في البدء كانت الثقافة ـ نحو وعي عربي متجدد بالمسألة الثقافية، ص 56، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، بيروت 1998م.

5. مجلة منبر الحوار، فصلية لحوار الأفكار والثقافات، العدد (34)، ص 97، السنة التاسعة، خريف 1994م.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9/آيار/2013 - 28/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م