الهروب من العار وصولاً الى الديكتاتورية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: هناك بعض الأخطاء يرتكبها الانسان بحق نفسه كفرد في المجتمع، فتكون نتائجها السلبية مقتصرة عليه، كأن يتناول المحرمات أو يمارس الجنس بشكل غير مشروع، أو يبذر في أمواله ويُسرف بلا حدود.. هكذا أخطاء يمكن تصحيحها أو تعويض الضرر فيها، بصورة – ربما- لا يشعر به أحد، بينما هناك أخطاء تمس المجتمع نفسه، وهي كثيرة وعديدة.. وهنا يقف علماء الاجتماع وأهل الاختصاص في شؤون التربية وعلم النفس الاجتماعي وعلم الأخلاق حيث يؤكدون إن على الانسان الإسراع الى تصحيح الخطأ الذي يترك أثره على الآخرين، لذا جاءت القوانين التي سنّها البشر بنفسه، الى جانب ما جاءت به الرسالات السماوية من شرائع وقوانين تقتص من الظالم وتنصف المظلوم.

والمسألة تكتسب أهميتها اذا كان المخطئ والمذنب شخصاً يقف على قمة الهرم القيادي في البلد، فهو ليس انساناً عادياً، إنما بيده السلطة العسكرية او الامنية او السياسية أو حتى القضائية.. فاذا أخطأ في قضية ما، فان السبيل لتجاوز الخطأ، هو الاعتراف به وبوجوده في كيان الدولة، ليتسنّى معالجته أو القضاء عليه، كما الفيروس الذي يداهم جسم الانسان، فانه من غير المعقول أن يتكتم عليه، حتى وإن كانت العوارض جزئية وبسيطة، لمعرفته بأنه ربما يستفحل وينتشر في أنحاء الجسم، فتكون العاقبة غير محمودة. لكن المشكلة إذا رفض هذا الشخص الاعتراف بذنبه و حاول إخفاء خطئه وجريمته..

هذه المعضلة النفسية المعقدة، تُعد من اكثر وأخطر ما تعانيه شعوبنا، فهناك أخطاء قاتلة ترتكب لسبب أو لآخر على الصعيد الاقتصادي او السياسي أو الامني، وهناك فرص للمراجعة والتصحيح، وإعادة المياه الى مجاريها، وبالنتيجة إبعاد البلاد والعباد من الكوارث والأضرار، لكن المسؤول؛ الصغير منه والكبير، يجد أمامه حاجزاً كبيراً من الغرور والعزّة بالإثم، بحيث يجعله يتخاذل ويتخوف من اقتحام هذا الحاجز، بحجة ان اختراقه او تجاوزه بمعنى تلوث سمعته وسقوط شخصيته أمام الآخرين. كما لو انه انسان لا يخطأ، وهو ما لا يدعيه أحد.. بيد ان المشكلة في المحاسبة وتحمّل مسؤولية الخطأ وهنا تكمن الشجاعة والرجولة الحقيقية. وإلا هنالك العديد من القادة في العالم ارتكبوا أخطاء رهيبة في سياساتهم الداخلية والخارجية، وظنوا أنهم يحسنون صنعاً، ولا حاجة للاعتذار والتصحيح، ومضوا يزجو بشعوبهم في المعارك والحروب وتجرع مرارة المجاعة و الاوبئة والحرمان، وليس الطاغية صدام المقبور ببعيد عنّا. ففي الايام الاولى من غزوه دولة الكويت، طلبت منه شخصيات ودول أن يسحب قواته من موقع القوة، بعد أن أوصل رسالته الى من يهمه الأمر.. وبذلك يسحب البساط من تحت الامريكيين بل والغربيين الذي كانوا يحلمون بشن حرب في المنطقة تفتح لهم باباً واسعاً أمام تدخلات واسعة وكبيرة لن تنته. لكن صدام، عدّ الانسحاب هو العمل الخطأ لأنه يضيع فرصة انتصار عسكري كبير، وتحدٍ للغرب و... إذن؛ المشكلة في العقلية التي حركت صدام لارتكاب هذا الخطأ الرهيب.

ومن التاريخ القديم نذكر موقف الحاكم الذي استولّى على الحكم غصباً وباطلاً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي أواخر أيامه اعترف بذنبه حيث رأى بعينيه علامات الموت تقترب منه، وأقرّ انه تسبب في إقصاء أمير المؤمنين عليه السلام، عن خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله، وجاء في التاريخ، أنه تذرّع بأنه يخشى عرب الحجاز و رؤساء القبائل على الاسلام، إن هو سكت وافسح المجال لرسول الله صلى الله عليه وآله يكتب لعلي عليه السلام، في تلك الليلة الليلاء والموقف التاريخي الفاصل! هنا طلب منه محدثه أن يذيع هذا الإقرار على الملأ ليدل الناس على الطريق الصحيح، وأن يمضوا في ضلالهم وظلمهم لأمير المؤمنين عليه السلام، فكان جوابه: "النار ولا العار.."!

في مقابل هذا النمط من التفكير، نجد الخيار الذي اتخذه الإمام الحسين عليه السلام، يوم عاشوراء، أمام نظام الحكم الأموي الجائر، فهتف عالياً: "الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار".. فالخطأ الذي يصفه الإمام في أدنى مستوى له، وهو "العار"، يفترض ألا يرتكبه الانسان بأي حال، بل حريّ بالانسان أن يموت دون ارتكاب ذنب عظيم وعار يلحق به طوال حياته وبعد مماته. لكن اذا كان هذا العار أو الخطأ الكبير في مقابل دخول نار جهنم، فانه يكون أولى، لأن القضية هنا مصيرية، وتخرج عن كونها علاقات فردية واجتماعية في هذه الحياة الدنيا، إنما القضية تحديد الصورة التي سيكون عليها الانسان في تلك الدار الآخرة. وكان الإمام الحسين عليه السلام، يشير بوضوح للمتجحفلين أمامه والساعين للنصر العسكري، أن وقوفه أمامهم بالعدّة القليلة مع نسائه وأطفاله، بما يشبه العملية الانتحارية، ليس من العار بشيء، إنما العار على من يبيع آخرته الأبدية بدنياه الفانية والرخيصة.

واليوم أرى أن العراق مطالب قبل غيره من البلاد، أن يأخذ العبرة والدرس كاملة من التاريخ، لأن معظم تلكم الحوادث التاريخية المصيرية والفاصلة مرت على أرضه وتخللت أوساطه الاجتماعية، فمن المعيب حقاً أن نسمع مسؤولاً يتحدث عن العار اذا اعترف وأقر بخطأ ارتكبه، والعالم يقرأ عن قائد عسكري كبير في جيش مقتدر ومنتصر، يتحول الى معسكر كُتب عليه الموت، لأنه وجد الخطأ والجريمة في موقفه، والحق والصواب في الجانب الآخر، لذا تحول في لحظات من جندي في جيش ابن سعد، حاله حال المئات من الجنود والقادة الذين طواهم النسيان الى الأبد، الى أحد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، الذين التحقوا بركب الخلود، بل وتحوّل الى فكرة وقضية للبحث والمناقشة للاجيال على مر التاريخ.

 إن هاجس الموت الذي يخيّم على أهل العراق منذ أن تخلّص الديكتاتورية الصدامية، نشأ بسبب تراكمات وترسبات الأخطاء القاتلة التي كان يمكن تفاديها بكل سهولة، على الصعيد التقني والفني بتوفير أجهزة دقيقة وكفوءة للكشف عن المتفجرات، للتعويض عما ابتلي به العراقيون من أجهزة فاشلة، وعلى الصعيد السياسي، إعادة النظر في السياسات الامنية، وإصلاحها بالتعاضد الاجتماعي، لمزيد من التكامل والتعاون وصولاً الى النجاح وإيقاف نزيف الدم، وهكذا في سائر نواحي الحياة.. وبذلك يمكننا أن نسد الطريق أمام نشوء ديكتاتورية وفردية جديدة في العراق وفي أي بلد اسلامي آخر، لاسيما وبعض البلاد تسعى لأن تستنشق رحيق "الربيع الديمقراطي"، والتغيير الشامل والانتقال الى حياة أفضل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 8/آيار/2013 - 27/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م