مكانة العالم وبوصلة التقدم

 

شبكة النبأ: لا يماري أحد اليوم على دور العلم والمعرفة والإبداع في تطوير وتقدم الشعوب الأمة.. لذا نرى التسابق والتنافس على نيل الشهادات الجامعية في المراكز الاكاديمية، والاجتهاد في دروس العلوم الدينية في الحوزات العلمية، كما نلاحظ مسيرة الإبداع والفكر، لترك بصمات على الثقافة الانسانية، فالكثير من الدول اليوم تفخر أن مفكرين وعلماء ومبدعين ينحدرون منها، فتقام لهم النُصب التذكارية والحفلات التكريمية.. لكن الى جانب ذلك كله، نلاحظ ايضاً التخلف والهزيمة والفشل.. لأن كل ما مرّ، لا يعدو كونه لمحات خاطفة في يوميات شعوبنا التي ما تزال تعاني عقدة الديكتاتورية في الحكم، رغم هبوب بعض نسمات "الربيع" في بعض البلاد. والأنكى من ذلك، تعاني الموت البطيء بفعل ظهور حركات وجماعات تحمل أفكاراً دموية بغطاء ديني – اسلامي. وبعد أن صرفت جلّ وقتها للحفاظ على حياة الاطفال والنساء، كما الحفاظ على سلامة الدين والعقيدة لديها، وجدت نفسها في غنىً كامل عن التفكير بالانتاج والزراعة والتطور التقني والعلمي والاكتفاء الذاتي. فلا ضير من الاعتماد على الخارج، من مائدة الافطار صباحاً، ومروراً بوسائل النقل والمستلزمات المعيشية الاخرى، وحتى العلاج والتعليم والبناء وانتهاءاً بالسياسة والأمن..!

كيف حصل ذلك..؟ واين العلماء والمبدعين والمفكرين الذين طالما تباهت بهم الأمة، سائر الأمم في العهود الذهبية الماضية..؟ وهل عقمت الأمة من إنجاب المفكرين والعلماء..؟!

إنهم موجودون في بلادنا الاسلامية، ما وُجدت حلقات الدروس، و ما بقي الاستلهام من علوم ومعارف أهل البيت عليهم السلام. لكنهم غير موجودين على صعيد الواقع العملي، بفعل التهميش والإقصاء وحتى المحاربة والتصفية الجسدية.. فاذا نطوي الحديث عن الدولة الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها من السلالات الحاكمة بالحديد والنار والجهل والتضليل، فاننا اليوم أمام تجارب جديدة من أنظمة حكم تدّعي تطبيق "الديمقراطية" وأنها من صميم الشعب وتريد لها الخير والسعادة، لكن هذا يتم من خلال برامجها ومشاريعها الخاصة، وليس عبر طريق العلم والمعرفة.. ثم ما حاجة الناس بالعلماء والحكماء، إذا توفرت هنالك ضمانات صحية وتعليمية، وامتيازات مالية و وظائف وغيرها كثير..! و ربما يكون الطريق العلم، محفوفاً بالمخاطر والمعاناة بما لا يحتمله الناس العاديون، ولا تكون ثمة هنالك نتيجة ملموسة في القريب العاجل.

طبعاً؛ هذا أحد وسائل التهميش الذي يتعرض له العلماء في بلادنا، سواءً العلماء الأكاديميين أو علماء الدين، فالأكاديميين شدّوا رحالهم الى البلاد التي تحترم العلم والإبداع، وها نحن نرى بلاد متقدمة في العالم، مثل الولايات المتحدة وكندا واستراليا وغيرها، إنما ارتقت مدارج التقدم التقني والعلمي بمساعدة العقول المهاجرة من البلاد الاسلامية، فنسمع عن الطبيب الحاذق، والمهندس المبدع و الاقتصادي الماهر، وحتى السياسي الناجح، وهؤلاء إن كانوا في بلادهم، ففي أحسن الاحوال؛ إما يكونوا موظفين في الدوائر الحكومية. أما علماء الدين، فان عليهم الاختيار بين اثنين؛ إما مجارات الأنظمة الحاكمة، أو الركون الى هامش الحياة السياسية والاجتماعية، وإما الهجرة في بلاد الله الوسيعة.

والى جانب التخلّف والخسارة الفادحة التي تسببها الأنظمة الديكتاتورية بقتلها روح العلم والإبداع، فانها ايضاً تجني على نفسها بنفسها، عندما تواجه الإرادة الجماهيرية المطالبة بعلاقة وثيقة مع أهل العلم والعلماء، وهي مسألة تبدو فطرية وبديهية، فالناس الذين بحاجة دائماً الى الطبيب والمهندس والمحامي، بحاجة ايضاً الى عالم الفقه والحديث والتفسير، ليوضح لهم خارطة العلاقة بين الانسان وأخيه الانسان، وعلاقة الانسان بالمجتمع.. ولذا نجد من يدعو الى الدفاع عن الكرامة والحرية والاستقلال والمفاهيم الانسانية والقيم الاخلاقية، هم علماء الدين بالدرجة الاولى. وهذا ما يجب ألا يتجاهله السياسيون، إن راموا حقاً، ارتقاء سبل النجاح في فترة حكمهم. وهنا يمكننا اقتباس نقطة مضيئة في هذا المجال من كتاب "الصياغة الجديدة لعالم الحرية والإيمان والرفاه والسلام" لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- حيث يؤكد أن من أبرز أخطاء الحكومات والأحزاب السياسية مواجهتها لعلماء الدين.. بل إننا نشهد أن هذه المواجهة تنتهي دائماً بسقوط الأنظمة السياسية – ولو آجلاً- وبقاء نجم العلماء ساطعاً في تاريخ الشعوب، وفي الوجدان الشعبي، لأنهم يتعاملوا مع الاحداث بكل صدق وأمانة وإخلاص، ويوظفون علومهم وما توصلوا اليه، في خدمة تقدم و رفاه وسعادة شعوبهم، ويعد سماحته في كتابه (37) اسماً من أبرز العلماء الذي ناضلوا وجاهدوا من أجل نجاة وخلاص شعوبهم من الجهل والتخلف والتبعية، وقدموا على هذا الطريق ارواحهم، فمنهم من أغتيل بالسمّ مثل الإمام الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني في العراق، ومن أعدم شنقاً مثل الشيخ فضل الله النوري في طهران، على يد الزمر المرتبطة بالدوائر الغربية، بعد أن لفقوا عليه تهمة الانقلاب على رأي الشعب ومعارضة "ثورة الدستور"، وهو المطالب بأن يكتسب الدستور الايراني، وهو أول دستور يكتب في البلاد الاسلامية بعد عهد الاستعمار عام 1905، الشرعية الدينية، وليس الشرعية الغربية. ويسرد سماحته في كتابه تفاصيل عن تضحيات العلماء من أجل القيم والمبادئ والإنسانية.

تبقى فرصة واحدة في الوقت الحاضر، إن تم استثمارها بشكل جيد، ربما تقلب الموازين وتشكل منعطفاً تاريخياً وحضارياً في بلادنا، وفي الأمة جمعاء، عندما تقام جسور العلاقة الوثيقة بين الحوزة العلمية والجامعة.. هذه العلاقة، بالحقيقة ربما تداوي جروح الماضي، وتعوّض عن التخلف الذي تعاني منه الأمة طوال عقود من الزمن. وحتى لا أجانب الحقيقة أقول: إن وجود الجامعات الأكاديمية، والحوزات العلمية، يعد امتيازاً ونقطة ايجابية عظيمة تفتقر اليها دول العالم التي تعتمد على العلم والتعليم، دون التربية والتزكية، وهذا البعد الإنساني، من شأنه ان يفك شعوبنا من قيود التبعية في كل شيء الى دول العالم.

لكن السؤال؛ من الذي يرفع الخطوة الأولى في هذا الطريق؟ هل نؤمل على الأنظمة الحاكمة بأن تقوم بذلك؟! بالطبع كلا.. إنما المسؤولية تقع على العلماء أنفسهم من الجانبين إن ارادوا حقاً إيجاد مكانة لهم في مسيرة التقدم، ويكونوا البوصلة التي ترشد الأمة الى ساحل الأمان.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 4/آيار/2013 - 23/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م