الدروس الحقيقية المستفادة من الركود الاقتصادي العالمي

حاتم حميد محسن

معظم الخبراء يعتقدون ان الركود الاقتصادي العالمي نتج عن انهيار الطلب – وبهذا فهم وفق الصيغة الكنزية يريدون من الحكومات زيادة الانفاق لتعويض النقص في جانب الطلب. ولكن النمو الاقتصادي الغربي الأخير كان معتمداً على الاقتراض. الذهاب الى مزيد من الاقتراض حالياً سوف لن يفيد بشيء، بل ان المطلوب من الدول معالجة الخلل في اقتصادياتها.

هذا ما سيناقشه الاستاذ Raghuram Rajan بروفيسور المالية من جامعة شيكاغو ومؤلف كتاب (خطوط الفشل: كيف لا تزال العيوب المخفية تهدد الاقتصاد العالمي).

اذا كانت انعكاسات الازمة المالية لعام 2008 لازالت تؤثر في جميع انحاء العالم، فان الركود الاقتصادي لم يكن دائماً سيئاً، فهو شجع على إعادة بناء اقتصادية اساسية، وادّى بالاقتصاد الامريكي ليبرز اقوى مما كان عليه في السابق. ومع ان الوقت لازال مبكراً الا اننا يمكننا القول بثقة ان اوربا ايضا ستحذو حذو امريكا.

وطبقا للتفسيرات التقليدية الشائعة للركود الاقتصادي العالمي، فان توقف النمو في الغرب يعود اساسا الى انهيار الطلب نتيجة للتراكم الهائل في الديون قبل الازمة. المستهلكون والدول لا ينفقون لأنهم لا يستطيعون اقتراض الاموال وبالتالي لا يستطيعون الانفاق، واحسن طريقة لإنعاش النمو حسب وجهة النظر تلك هي ايجاد طرق للحصول على النقود. الحكومات يجب ان تستمر بالعمل في عجز مالي كبير، والبنوك المركزية يجب ان تدفع اسعار الفائدة الى ادنى حد لكي تشجع المستهلكين على الشراء بدلاً من التوفير. يجب على القادة ان يقلقوا على ديونهم المتراكمة لاحقا حينما تبدأ اقتصاداتهم بالنهوض مرة اخرى.

هذه القصة – مستوى الخط الكنزي المعدل لأزمة الديون – هي التي يؤمن بها معظم المسؤولين الغربيين ومسؤولو البنوك المركزية واقتصاديو وول ستريت حاليا. ومع ظهور علامات للانتعاش في الولايات المتحدة سارع الخبراء الكنزيون للإعلان عن نجاح سياساتهم مشيرين الى ان خروج اوربا من الركود هو دليل على سخافة سياسة تقشف الحكومات. ولكن من الصعب ربط الانتعاش (او الحاجة له) بسياسة تدخّل معينة. وحتى وقت متأخر، كان هؤلاء الخبراء ذاتهم يشكون من ان رزم الحوافز في الولايات المتحدة كانت قليلة جدا. ولذا هم يعوّلون على الحوافز الكنزية حتى لو لم يصبح الانتعاش ملموسا بقولهم "نحن طلبنا منكم عمل المزيد". وان العجز المالي الهائل في اوربا، بالاضافة الى ما قامت به البنوك المركزية الاوربية من زيادة هائلة في اقراض البنوك، يشير الى ان هشاشة النمو ليست مرتبطة برغبة الحكومات بالحوافز.

في الواقع، ان المشاكل الاقتصادية الحالية لم تكن ببساطة نتيجة لعدم كفاية الطلب بل هي نتيجة للتشويه في جانب العرض. لعدة عقود قبل الازمة المالية لعام 2008، كانت الاقتصادات المتقدمة تفقد قدرتها على النمو ولم تتمكن من المبادرة في عدة مجالات مفيدة. فهي احتاجت الى استبدال الوظائف التي خسرتها بسبب التكنولوجيا والمنافسة الاجنبية ودفع مستحقات التقاعد والرعاية الصحية لكبار السن. وبهذا وفي جهد لرفع النمو، انفقت الحكومات اكثر مما في وسعها وعززت الائتمان السهل لكي تدفع المستهلك للقيام بنفس العمل. هذا النمو الذي صممتهُ هذه الدول، باعتمادها على الاقتراض اثبت عدم امكانية الحفاظ عليه.

الطريق للخروج من الازمة لم يعد بالاستمرار بمزيد من الاقتراض والانفاق وبدلا من محاولة العودة الى ارقام الناتج الاجمالي المحلي المصطنعة والمتضخمة قبل الازمة، اصبحت الحكومات بحاجة لمعالجة حالات الخلل في اقتصادياتها. في الولايات المتحدة، ذلك يعني تعليم وتدريب العمال المتخلفين عن الركب، وتشجيع المبادرات والابتكارات، وتعزيز السيطرة على قوة القطاع المالي ليعمل بشكل افضل ومنعه من الخروج عن الخط. في جنوب اوربا، وعلى عكس ذلك، تتطلب المعالجة ازالة القوانين التي تحمي الشركات والعمال من المنافسة وتخفيف حجم الحكومات في عدد من المجالات في محاولة اذابة الوظائف غير الضرورية وغير المنتجة.

نهاية عصر النمو السريع

لكي نفهم ما يجب وما لا يجب عمله لبلوغ حالة النمو الثابت، من المفيد القيام بمراجعة مختصرة للتاريخ الاقتصادي خلال الستين سنة الماضية. الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت فترة التوسع الاقتصادي السريع في الغرب وفي اليابان. عدة عوامل ميزت هذه الطفرة الطويلة: إعادة البناء لما بعد الحرب، توسّع التجارة بعد الحماية في الثلاثينات، المزيد من التدريب للقوى العاملة، والاستخدام الواسع للتكنلوجيا في مجال الكهرباء ومحرك الاحتراق الداخلي. ولكن كما يؤكد الاقتصادي تايلر كوين، انه حالما يتم اقتطاف هذه الثمار بسهولة سيصبح من الصعب المحافظة على التقدم البطيء والثابت للاقتصاد. ان عصر النمو السريع بلغ نهايته المفاجئة في السبعينات حينما رفعت منظمة الاقطار المصدرة للنفط اسعار البترول وادركت قيمة قوة المساومة الجمعية.

وعندما فقد النمو قوته، تضخّم الانفاق الحكومي. وخلال السنوات الجيدة من الستينات كانت الحكومات الديمقراطية سريعة في توسيع رفاهية الدولة. ولكن هذا كان يعني عندما تزايدت البطالة لاحقا، تزايد ايضا انفاق الحكومة لمصلحة العاطلين عن العمل حتى مع تراجع العائد الضريبي. وفي غضون ذلك، قامت البنوك المركزية بتنسيق ذلك الانفاق وربطه بالتوسع في السياسة النقدية. ذلك قاد الى تضخم عالي في السبعينات والذي تفاقم بارتفاع اسعار البترول. مثل هذا التضخم رغم انه خفّض القيمة الحقيقية لديون الحكومات الا انه لم يحفز النمو. بل ان الركود التضخمي حطّم معظم ايمان الاقتصاديين وصناع السياسة بسياسات التحفيز الكنزية.

البنوك المركزية قامت بتغيير طريقتها فجعلت اولى اهدافها هي تحقيق تضخم منخفض ومستقر. ولكن الحكومات استمرت بعملية الانفاق بعجز، بينما تصاعدت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الاجمالي في الدول الصناعية بثبات منذ اواخر السبعينات. ان ادراك واشنطن بالحاجة لايجاد وسائل جديدة للنمو، دفعها اثناء فترة نهاية حكم الرئيس كارتر والرئيس ريغان باعادة هيكلة العديد من الصناعات مثل محطات الكهرباء والنقل البري والنقل الجوي والمالية. ونفس الشيء قامت به رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر. وفي النهاية بدأت الانتاجية بالارتفاع.

وبينما قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بالاستجابة لأزمة السبعينات باعادة الهيكلة السريعة، اتجهت القارة الاوربية للقيام باصلاحات تجميلية. المجموعة الاوربية قامت باعادة التنظيم في العديد من الصناعات بما في ذلك القطاع المالي ولكن هذه الاجراءات بقيت محدودة وخاصة عندما أقدمت على ادخال المنافسة وتحطيم الحمايات السخية للعمال. وبالنتيجة، بينما النمو في الانتاجية تصاعد مرة اخرى في الولايات المتحدة منذ اواسط التسعينات، نجده هبط في القارة الاوربية خاصة في المناطق الجنوبية الاكثر فقرا والاقل اهتماما بالاصلاح. في عام 1999 ومع ادخال اليورو، كانت نسبة البطالة في ايطاليا 11% وفي اليونان 12% وفي اسبانيا 16%. ان استنزاف الاحتياطات المالية للحكومات جعل من الصعب الادخار للانفاق المستقبلي على الصحة ومعاشات التقاعد وهي المشكلة التي اصبحت اكثر صعوبة بفعل تزايد نسبة الكبار في السن.

اما الدول التي قامت بالاصلاح فعلا فان اعادة التنظيم فيها لم تكن خيراً مطلقاً. هي فعلا زادت من مستوى الاختراع والمضاربة، وزادت من المنافسة، واجبرت الشركات القائمة للتركيز على الفاعلية، كل ذلك اعطى المستهلكين سلعاً رخيصة وجيدة. ولكنها ايضا كانت لها نتائج سلبية غير مقصودة مثل زيادة عدم المساواة في الدخل وخلق فجوة كبيرة تعاملت معها الحكومات ليس بتهيئة قوة العمل لاقتصاد المعرفة وانما باعطائها مدخل للائتمان الرخيص.

تغيير الوضع الراهن

بالنسبة للولايات المتحدة وهي الاقتصاد الاكبر في العالم، كانت إعادة التنظيم ذات تاثير مزدوج. فخلال العقود القليلة الماضية ادى تحفيز المنافسة الى توسيع فجوة الدخول بين الاغنياء والفقراء وجعل من الصعب لمتوسط الامريكيين ايجاد وظيفة ذات دخل مستقر وامتيازات جيدة. ولكن تلك المنافسة قادت ايضا الى طوفان من السلع الاستهلاكية الرخيصة التي كانت تعني ان اي دخل يحصل عليه المستهلك الآن هو اكبر من اي وقت مضى.

وخلال فترة ما بعد الحرب وما رافقها من إعادة تنظيم مكثفة ومنافسة محدودة، شهدت الشركات الامريكية نموا واصبحت اكثر سعادة متمتعة بالارباح شبه الاحتكارية الواسعة. فهي تقاسمت هذه المردودات مع المساهمين والعمال. اما البنوك، كان هذا عصر الفورملا 3-6-3:اقترض بـ 3%، اقرض بـ 6%، واذهب الى لعبة الغولف في الساعة 3 مساءً. كانت البنوك مستفيدة وآمنة وضجرة، والثمن دفعه المودعون الذين لم يحصلوا الا على شيء زهيد بدلا من الحصول على سعر فائدة السوق. النقابات جاهدت من اجل امتيازات و رواتب جيدة للعمال، والشركات كانت سعيدة للتجاوب معها لضمان السلم الصناعي – وفي النهاية كانت هناك المزيد من الارباح يتم تقاسمها.

في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ادت اعادة التنظيم الكبيرة والعوائق التجارية الى وضع نهاية لهذه الحياة المريحة. المضاربون الجدد ذوي السلع الجيدة شكلوا تحديا لمنافسيهم بطيئي الحركة، وان نوعية وانماط السلع الاستهلاكية تحسنت جذرياً، وغيرت حياة الناس بشكل كبير نحو الاحسن. الكومبيوترات الشخصية المرتبطة بالانترنت سمحت للمستخدمين بالتسلية والاتصال والتسوق لانفسهم، بينما سمحت خلايا التلفون للناس بالبقاء على اتصال دائم مع اصدقائهم ومدرائهم. الحاويات البحرية مكنت المصنعين الاجانب الصغار من شحن السلع بسرعة للمستهلكين في الاماكن البعيدة.

يجب على الدول الصناعية ان تطلق نداء تحذير في تعاملها مع الازمة وتتحرك لمعالجة كل ما بقي خافياً دون حل حقيقي في العقود القليلة الماضية.

في نفس الوقت ومع تزايد القوة الشرائية للمستهلك المنتظم، تزايدت ايضا مدفوعات وول ستريت. ولأن ارباح الشركات كانت تحت الضغط، فهي بدأت بابتكار المزيد واتخذت الكثير من المخاطرة، وهي بهذا العمل كانت تتطلب من الممولين الذين يقدّرون تلك المخاطرة ان يسعّروها بالشكل الصحيح وتوزيعها بعدالة. لم تعد البنوك تشعر بالقلق، انها اصبحت مركز توجيه للاقتصاد، تمول توسّع الشركات هنا بينما تضع الاخرى تحت الافلاس.

في هذه الاثناء، اصبحت الشركات الافضل هي الاكثر نخبوية، وتدفع المزيد لجذب أرقى الموهوبين. أعلى 1% من المستهلكين حصل على 8.9% من الدخل الكلي للولايات المتحدة عام 1976، ولكن في عام 2007 ازدادت النسبة الى 25%. وحتى مع نمو رواتب الادارة العليا، فان سلّم رواتبها اصبح اكثر تنوعاً. وبالمقارنة مع الرؤساء التنفيذيين عام 1980، كان قادة الشركات المساهمة في الولايات المتحدة عام 2001 اصغر سنا، وربما معظمهم من النساء، (لم يعد من المهم انذاك الانتماء الى نادي دولة مناسب للوصول الى القمة، ما يهم كان امتلاك التعليم الجيد والمهارات المناسبة).

من الملائم إلقاء اللوم في فجوة الدخول الشديدة الاتساع على الحوافز المتحيزة للشركات وعلى السياسات الضريبية العشوائية، ولكن اي تفسير من هذا النوع هو غير كاف. اذا كانت الزيادة في رواتب المدراء التنفيذيين مجرد نتيجة للادارة السيئة للشركات، كما يدعي البعض، عندئذ فان الاطباء والمحامين والاكاديميين سوف لن يروا رواتبهم تزيد بنفس المقدار الذي كانت عليه في السنوات الاخيرة. وعلى الرغم من ان نسب الضرائب العليا كانت في الواقع منخفضة اثناء رئاسة جورج دبليو بوش، فان هذا الخفض لم يكن المصدر الرئيسي للتباين في الدخول طالما ان التباين في الدخول قبل الضريبة ازداد ايضا. هذا لا يعني القول ان جميع الرواتب العليا هي عادلة - ليس من الصعب وجود مدير تنفيذي غير كفوء ويستلم مرتب اعلى مما يستحق – ولكن غالبية الرواتب هي مجرد انعكاس لقيمة المهارات في العالم التنافسي.

في الواقع، منذ الثمانينات، اتسعت فجوة الدخل ليس فقط بين المدراء التنفيذيين وبقية المجتمع وانما عبر الاقتصاد ايضا، حينما جرى مكننة المهام الروتينية او انجازها عبر عقود مع المجهزين الخارجين. وبمساعدة التكنلوجيا ورأس المال، يمكن لعامل ماهر استبدال العديد من العمال غير المهرة. تصوّر لو ان المصانع استخدمت جهاز ميكانيكي لتقطيع الخشب او الحديد فسوف لن يكون هناك فرق بين الخريج الجامعي وخريج الثانوية وسوف يستلمان نفس الاجور. ولكن عندما طورت المصانع اجهزتها باستخدام الكومبيوتر في مجال تقطيع الاخشاب هنا اصبح الخريج الجامعي اكثر فائدة بينما لم تعد هناك حاجة لخريج الثانوية.

لم تختف جميع الوظائف ذات المهارات القليلة، فالمهام غير الروتينية والخدمات القليلة الاجر التي يصعب مكننتها او التعاقد بشانها- مثل سائق التاكسي والحلاقة وصيانة الحدائق- بقيت متوفرة. وبهذا فان قوة العمل الامريكية جُزئت الى وظائف قليلة الاجر تتطلب القليل من المهارات واخرى عالية الاجر تتطلب المقدرة والموهبة. الوظائف الروتينية والمريحة التي تتطلب مهارات معتدلة وتعطي امتيازات جيدة لم تعد قائمة، كان يتوجب على العمال المسرّحين من العمل اما ان يقوموا بترقية مهاراتهم او القبول بمهام قليلة الاجر.

ولسوء الحظ، ولعدة اسباب – ادّى نقص التعليم المدرسي المبكر ووجود العوائل والجماعات غير المنسجمة اجتماعيا والكلفة العالية للتعليم الجامعي الى فقدان التعليم والمهارة المطلوبين لدى العديد من الامريكيين. بينما صرف آخرون وقتا طويلا في الصناعات المتراجعة مثل التصنيع الاوتوماتيكي بدلا من اكتساب المهارات في القطاعات النامية مثل تكنلوجيا الطب. الاقتصاديان كلوديوس غولدن و لورنس كاتس يذكران ان السباق بين التكنلوجيا والتعليم في الولايات المتحدة في العقود الاخيرة ترك التعليم في الخلف.

ومع تخلّف مهارات الامريكيين تزايدت الفجوة بين اجور المتعلمين جيدا وذوي التعليم المتوسط. ومنذ بداية الثمانينات ازداد الفرق بين دخل أعلى 10% من ذوي الشهادة الجامعية واولئك الذين في المنتصف الحائزين فقط على دبلوم الثانوية. وبالمقابل، فان الفرق بين اعلى وادنى دخل ودخول من يشكلون 10% من ادنى السلم لم يتغير الاّ بالكاد. القمة تبتعد عن الوسط والوسط يندمج مع القعر.

الاحصاءات القادمة من امريكا تبدو مقلقة. في امريكا 35% ممن تتراوح اعمارهم بين 25 و 54 سنة وغير الحائزين على دبلوم ليست لديهم وظيفة، ونسبة المتسربين من الثانوية تقل فرصة حصولهم على عمل ثلاث مرات مقارنةً بالحاصلين على الشهادة الجامعية، وما هو ملفت اكثر ان الامريكيين بين عمر الـ 25 والـ 34 لديهم فرصة اقل للحصول على الشهادة الجامعية قياسا بمن هم في عمر يتراوح بين الـ 45 وـ 54 حتى لو اصبحت الشهادة الجامعية اكثر قيمة في سوق العمل. والمزعج ايضا انه في السنوات الاخيرة اصبحت لدى اطفال الآباء الاغنياء فرصة اكبر في الحصول على دراسة جامعية قياسا بنظرائهم الاطفال في الماضي، بينما نسبة من يكمل تعليمه الجامعي في العوائل الفقيرة بقيت على الدوام متدنية. التفاوت في الدخل الذي خلقه التظام التعليمي اصبح راسخاً يصعب تغييره.

استجابة السياسيين

في السنوات التي سبقت الازمة كان واقع الطبقة الوسطى للامريكيين هو ان رواتبهم لم تتغير نحو الافضل، والوظيفة اصبحت بمرور الزمن اقل اماناً حتى عندما اصبح الاثرياء اكثر ثراءً. لقد اصبح من الصعب العثور على وظائف جيدة الدفع او قليلة المهارة وذات امتيازات جيدة ماعدا تلك في قطاع الحكومة.

وبدلا من ان يعالج الساسة الامريكيون الاسباب الكامنة وراء هذه المشكلة نراهم اختاروا الحلول السهلة. استجابتهم ربما مقبولة ولكن ليس من السهل الارتقاء بمهارات العمال بسرعة. غير ان العلاجات احدثت من الضرر اكثر من النفع. السياسيون يسعون لرفع الاستهلاك على امل ان الناخبين من الطبقة الوسطى يشعرون بمجاراة جيرانهم الاغنياء – لو انهم حصلوا على سيارة جديدة كل بضع سنوات وعلى اجازات سياحية فهم سوف لن يقلقوا من حقيقة عدم نمو رواتبهم. احدى الطرق السهلة للقيام بذلك هو تعزيز امكانية الجماهير في الحصول على الائتمان.

وطبقا لذلك، وبدءً من بداية التسعينات، شجع القادة الامريكيون القطاع المالي على اقراض المزيد من الاموال لأرباب المنازل، خاصة من هم في ادنى الطبقة الوسطى. في عام 1992 شرع الكونغرس قانون الآمان والسلامة المالية لمشاريع الاسكان الفيدرالي، كي يفرض جزئيا المزيد من السيطرة على عمالقة الاسكان العقاري الخاص مثل بنك Fannie Mae و Freddie Mac ولكي يعزز ايضا امكانية الحصول على سكن لجماعات الدخل المنخفض.

هذه السياسات ساعدت في تدفق النقود الى المستهلكين في ادنى الطبقة الوسطى ورفعت انفاقهم. هي ايضا كانت مقبولة سياسيا.ان الائتمان السهل بدا كعلاج مخفف للالم استخدمته الادارات المتعاقبة غير الراغبة وغير القادرة على العلاج المباشر للمشاكل العميقة في الاقتصاد ولقلق الطبقة الوسطى.

ان بنك الاحتياط الفيدرالي شجع مثل تلك السياسات القصيرة النظر. في عام 2001 واستجابة لفقاعة الدوت كوم قام الاحتياطي الفيدرالي بخفض اسعار الفائدة الى ادنى حد ممكن. حتى الشركات الكبرى التي اريد تحفيزها لم تكن مهتمة بالاستثمار، اسعار الفائدة المنخفضة عملت كإعانات ضخمة لأجزاء من الاقتصاد اعتمدت على الديون مثل الاسكان والتمويل. هذا بدوره قاد الى توسع في القطاع السكني وبالخدمات المرتبطة به - مثل سماسرة وكالات السكن والاقراض العقاري، التي خلقت وظائف خاصة لغير الماهرين. بعض الاقتصاديين وافق على هذه العملية معتبرين ان طفرة الاسكان سوف ترفع الاقتصاد من حالة الركود التضخمي. ولكن الفقاعة المدعومة من الاحتياطي الفيدرالي اثبتت عدم امكانية استمرارها. العديد من عمال البناء فقدوا وظائفهم وهم الآن في ازمة أعمق من السابق، كونهم ايضا اقترضوا لشراء مساكن عالية الثمن.

البنوك تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية عن الازمة. بعض نشطاء القطاع المالي كانوا بوضوح مستغلين ان لم يكونوا مجرمين. ولكن الدور الذي لعبه توسيع الائتمان المعزز سياسيا لا يمكن تجاهله. انه السبب الرئيسي لأنهيار نظام الفحص والسيطرة على المخاطرة المالية.

وفي خارج الولايات المتحدة استجابت الحكومات الاخرى للنمو البطيء اثناء التسعينات بطريقة مختلفة. بعض الدول ركزت على جعل دولها اكثر تنافسية. المانيا المتحفظة مثلا، قللت من معونات البطالة وخفضت الحماية للعمال. الاجور نمت ببطء حتى مع زيادة الانتاجية، والمانيا اصبحت احدى اكثر الدول المصنعة تنافسية في العالم. ولكن بعض الدول الاوربية الاخرى مثل اليونان وايطاليا لم تكن لديها رغبة قوية للاصلاح، لأن تدفق الائتمان السهل بعد دخولهما منطقة اليورو ساعد في استمرار النمو وخفض نسبة البطالة. الحكومة اليونانية اقترضت لتخلق وظائف حكومية عالية الاجر لكنها قليلة الانتاجية، فانخفضت البطالة فيها بشكل كبير. ولكن في النهاية، لم يعد بإمكان اليونان الاستمرار في الاقتراض، وناتجها المحلي الاجمالي يتدهور الآن بسرعة. ليس كل الدول الاوربية التي تعاني من مشاكل وثقت بالاقتراض الفيدرالي والانفاق. في اسبانيا ادت سياسة البناء والانفاق من جانب الحكومات المحلية الى خلق الوظائف. وفي ايرلندا، لم تتحقق النتائج المطلوبة الاّ بفعل الفقاعة العقارية. ومهما يكن، فان الخيط المشترك في كل ذلك هو ان النمو الممّول بالديون غير قابل للاستمرار.

ما الذي ينبغي عمله؟

بما ان النمو قبل الازمة قد تعرض لتشويه حقيقي، اذاً من الصعب تصوّر ان الحكومات تستطيع إنعاش الطلب بسرعة – او ان عمل كهذا سيكون كاف لإعادة الاقتصاد العالمي مجددا الى وضعه الطبيعي. سياسة الوضع الراهن السابقة لم يعد ملائماً الرجوع اليها بسبب التمويل المفرط والبناء في القطاع السكني وحاجة قطاعات الحكومة للتقليص في الحجم وضرورة انتقال العمال الى اعمال منتجة.ان طريقة الخروج من الازمة لم تعد بالاستمرار في الاقتراض والانفاق، خاصة اذا لم يؤد الانفاق الى بناء اصول مستمرة تساعد الاجيال المقبلة في دفع أعباء الديون المترتبة عليها. بدلاً من ذلك، فان السياسة الافضل على المستوى القصير الاجل هي التركيز على النمو الثابت البعيد المدى. الدول التي ليس بمقدورها استخدام العجز الكبير في الموازنة مثل اليونان وايطاليا واسبانيا يجب عليها تقليص حجم اجهزتها الحكومية وتحسين عائداتها الضريبية. هي يجب ان تسمح بالدخول الحر الى مهن مثل المحاسبة والقانون والصيدلة مع تعريض قطاعاتها مثل النقل الى المنافسة، ويجب تقليل الحماية للعمالة. التقشف المالي ليس بلا الم وهو ربما يقلل من النمو في الاجل القصير. سيكون من الافضل للاصلاحات ان تكون متناغمة ومرحلية بمرور الزمن ذلك لأن الحكومات لا تتصرف عادة في الاوقات المناسبة التي تتطلب العمل، وتتصرف بسرعة في الاوقات السيئة. في الواقع،. يجب على الحكومات القيام بما هو ضروري وبسرعة لكي يشعر كل فرد بتقاسم الالم. لا يجب على الحكومات تجاهل معاناة كبار السن والشباب والفقراء ويجب تشريع القوانين للتخفيف من آثار الاجراءات.

على الولايات المتحدة الاهتمام بقوة العمل لأجل خلق وظائف اكثر انتاجية في المستقبل. الاستثمار في افضل تكنلوجيا الاتصالات والمعلومات، وفي الطاقة النظيفة قليلة الكلفة،وخلق زيادة حادة في الطلب في الاسواق الصاعدة على البضائع ذات القيمة المضافة العالية.

يجب الاشارة الى ان اي من تلك الاهداف لم يكن سهلاً. انظر مدى صعوبة ايجاد الانسجام بين المهارات والوظائف. بما ان قطاع الاسكان والقطاع المالي لن يوظفا نفس الاعداد من العمال الذي كان سائداً قبل ازمة الائتمان، فان الناس الذين عملوا واعتمدوا على تلك القطاعات يجب عليهم تغيير مسارهم المهني. وهذا سيأخذ وقتاً طويلاً وقد لا يكون ذلك ممكناً. كذلك ان قطاع الاسكان بالذات قام بتوظيف العمال ذوي المهارات الواطئة والذين يصعب ايجاد مكان لهم. وحتى محاولات الحكومة في مساعدة الطلبة في التمويل لم تكن دائما ناجحة.

اخيراً،يجب على السياسيين ان لا يعرقلوا مقدرة البنوك عبر تشريع القوانين رغم مسؤولية الافراط المالي عن الازمة. القطاع المالي يجب ان يكون نشطاً ليخلق الابتكار والمبادرة المطلوبين للعالم.

على الدول الصناعية ان تختار احد خيارين، اما ان تتصرف كما لو انها في وضع جيد عدا مستهلكيها الذين يعانون من الرعب والخوف، اي بمعنى آخر إنعاش ما يطلق عليه كنز بـ "الروح الحيوانية"عبر وسائل التحفيز. او انها تتعامل مع الازمة بنداء تحذير وتتحرك لمعالجة جميع المشاكل العالقة في العقود الاخيرة.

......................................

* الشؤون الخارجية Foreign Affairs عدد ايار/ حزيران 2012.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 1/آيار/2013 - 20/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م