الشهيد الشيرازي... العالم الحركي ومشروع نهضة أمة

 

شبكة النبأ: عندما يُطبق اليأس والإحباط والخيبة على كيان الأمة، وترى أن لا مناصّ للاستسلام للإرادات السياسية الاجنبية، والتبعية الاقتصادية، والمؤثرات الثقافية؛ الى من تلتجأ لتلتقط انفاسها وتحاول استعادة كرامتها وعزتها ومجدها..؟

في الوقت الراهن هناك خيارات مطروحة في الساحة، تأتي الاحزاب السياسية في المقدمة والواجهة، فهي التي تفكّر وتخطط وتفاوض ثم تحكم، كما نشهد هذا في بعض بلادنا الاسلامية.. وهنالك الشريحة المثقفة المنتظمة في نقابات واتحادات، مثل نقابات المهندسين والصحفيين والحقوقيين والعمال والطلاب وغيرهم. وهم الذين يطلق عليها سياسياً بـ "جماعات الضغط" أو (اللوبي). وهناك ايضاً؛ المؤسسة الدينية، متمثلة بالحوزة العلمية، وما تضم من علماء دين وخطباء وأساتذة.

التجربة الراهنة تؤشر الى أن علمية النهوض والانبعاث في أول خطوة لها، بعد تجاوز عهد الديكتاتوريات في بعض البلاد العربية، لم تكن موفقة، إذا لم نقل؛ رافقها المزيد من الإحباط والخيبة، وربما إعادة التفكير في عملية النهوض نفسها..! والسبب أن الاحزاب السياسية كانت تريد النهوض والانبعاث لها نفسها، سياسياً وليس اجتماعياً وثقافياً وحضارياً.. ونترك الحديث عن "جماعات الضغط"، لأننا بحاجة الى منظومة ثقافية متكاملة تمهد الطريق لممارسة ديمقراطية صحيحة – قدر الإمكان- وتداول سليم للسلطة، بينما اليوم نلاحظ أن لا رغبة لأحد في (ديمقراطياتنا)، لإرتداء ثوب المعارضة والمراقبة السياسية لمن هو في سدة الحكم، بل الجميع حاكمون، والجميع معارضون..!

من هنا يأتي الاستحقاق بأن يكون في الساحة (عالم دين حركي). فهو رجل حوزة علمية، وفقيه وخطيب واستاذ، وفي الوقت نفسه، هو صاحب مشروع يتحرك على أرض الواقع، وليس فقط على صفحات الكتب. وهذا ما جسّده شهيدنا المفكر الإسلامي آية الله السيد حسن الشيرازي – قدس سره- ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى افتقاده الأليمة.

لقد كان الشهيد الشيرازي أحد علماء الدين في كربلاء المقدسة في عقد الخمسينيات والستينات من القرن الماضي، والى جانبه كان هنالك العشرات من علماء الدين، ينتظمون في مدارس دينية، وهم بين طالب علم على سبيل نجاة، وعالم متعلّم، استاذ في مادة الفقه أو اللغة العربية أو الاصول او المنطق، لكن الذي ميّز السيد الشهيد الشيرازي، تحمّله مسؤولية واقع الأمة المتردّي، فقد لاحظ ابتعادها عن النظام الاسلامي الذي يفترض ان يقود الحياة، وارتباطها بمنظومات فكرية وثقافية خلفت لها الضياع والتخلف.

هذا النوع من الشعور المرهف والتفكير البعيد، جعل من الشهيد الشيرازي، نافذة أمل كبيرة لأبناء العراق ولسائر البلاد الاسلامية التي كانت وما تزال، تعاني نفس المشكلة المزمنة، وهي غياب الرؤية الصحيحة للإسلام، وهذا ما خلّد ذكرى الشهيد، وجعله نقطة مضيئة في طريق الإصلاح والنهوض الحضاري للأمة في القرن الماضي، وربما نجد هنالك اسماء لمفكرين وعلماء، بذلوا جهدهم وعملوا للتغيير والإصلاح، لكن في محيط بلدهم وأهل لغتهم، بينما الرؤية الثاقبة والشمولية هي التي يريدها الإسلام، ليعود كما كان في عهد رسول الله، وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما.. فالأزمة الثقافية والفكرية والعقائدية التي تعيشها باكستان – مثلاً- هي نفسها التي تعيشها المغرب، وبلاد الخليج، والعراق وهكذا.. تبقى التفاصيل الفنية في عملية التطبيق العملي لهذا البلد وذاك.

ولابد لنا من الإشارة – ونحن نسرد جانباً من سيرة الشهيد الشيرازي- الى أن التحرّك النهضوي، إنما انطلق من مدينة كربلاء المقدسة، بمباركة الوالد المكرّم والمرجع الديني الراحل السيد ميرزا مهدي الشيرازي – قدس سره- الذي كان له الفضل في إيقاد شعلة العمل في طريق النهضة الاسلامية الشاملة، وذلك في عقد الخمسينات، فقد أطلق الشرارة الأولى، بمجرد إحساسه بالخطر الداهم على عقيدة وثقافة الأمة، في فترة ما يسمى بـ "المد الشيوعي" عام 1958، فكان كلٌ من السيد الشهيد وشقيقه الإمام الامام الراحل، يمثلان الساعدين القويين لوالديهما المبجّل، لمواجهة هذا المدّ. وتؤكد الوقائع التاريخية والشواهد الحيّة، أن هذا التحرك من الأب واثنين من ابنائه البررة، اختزل عمل سنوات عديدة، وكان النجاح ثمرة تلكم الجهود، رغم انطفاء شمعة حياة الأب الراحل عام 1960، فانطلق السيد الشهيد الى رحاب العالم الاسلامي ليبشر بالأمل بإعادة النهوض والتقدم من جديد.

وبعد أن حدد اسباب الأزمة وعوامل التقهقر، يبين السيد الشهيد الخطوات العملية للنهوض، ويقول في كتابه "كلمة الاسلام": "لنكن مفكرين يعملون بإلهام الفكر المدبّر والعقل المتربّص قبل ان نكون عاطفيين، ولنشهد كياننا المتوقع من القاعدة حتى القمة، ونعزز سيرنا بالتعبئة الفكرية المدروسة التي ترحب بالتصحيح والتطوير، قاعدة فكرية واقعية تتوالد باطراد، فالامة المسلمة اليوم تطوي فترة الانتقال من الردة الجماعية الى الاسلام وهي أحوج الى الوعي والحذق والاتقان.. والامة الاسلامية اليوم حيث تستشرف الكتل العامة لإنقاذها وتتطلع الى السبيل الذي يبلغها الهدف العظيم، تتطلع اليها الاطماع الجشعة من كل مكان، وكل اسلوب وصبغة.."

ولا يخفى على السيد الشهيد استحقاقات هذا التحرك العظيم، فيقول: "اقحام الاسلام في واقع الحياة رسالة تتطلب ألف عنصر وعنصر، وأحد هذه العناصر بعث الوعي الاسلامي الصحيح في معارض الفكر، ودحض الافكار الدخيلة والتشوهات المنتجة مما خلفه الطغاة المستبدون الذين قاموا على أمور المسلمين او الذين يقومون.. وما افرزه الاستعمار".

وهذا لن يكون إلا بوجود آفاق لرؤية محددة في النهضة الاسلامية، وهذا ما كان يسعى لإيجاده السيد الشهيد.. أحد تلامذته في مدرسة الإمام المهدي للعلوم الدينية في بيروت، يشير الى هذه الرؤية عندما يتسائل مع نفسه؛ ما الذي يدفع السيد حسن الشيرازي الى كل هذه التضحيات وتحمل المعاناة الكبيرة لتأسيس هذه المدرسة في لبنان وأخرى في منطقة السيدة زينب، وإقامة المشاريع الثقافية والخيرية والاجتماعية في مناطق مختلفة من العالم..؟ ثم ما معنى أن يبذل العلم مجاناً..؟! وهل هناك أناس يفكرون على طريقته..؟ وربما حصل هذا الطالب في حينه الى الإجابة عندما جمعه والسيد الشهيد في جلسة استراحة، حيث قال له (قدس سره)، "لم يخلق الإنسان في هذا الكون للراحة، وغداً سوف نموت ونخلد إلى الراحة الأبدية، وأما اليوم فعلينا العمل، وعلينا أن نتغلب بوعينا وبمعرفتنا على كل الأشياء لكي تنتصر فينا تجربة الروح المدفونة في هذا الجسد، على المادة، فالكون بما فيه، صراع بين الروح والمادة، بين الحق والباطل، والإنسان هو الفارس الجلي في هذه الحلبة، إما أن ينتصر فيرتقي وإما أن يستسلم لمغريات المادة فيفشل في تجربته ويخضع لشهوات المادة والنفس وينتهي روحاً وجسداً".

هذا الطريق لا يسير فيه من يفكر بالأموال والمصالح الشخصية والجاه والمكانة الاجتماعية، إنما الذي يتطلع الى تحقيق الهدف الأسمى، وهو نشر فكر أهل البيت عليهم السلام، وتكريس القيم والمبادئ في أوساط الأمة، ذات مرة جاءه أحد الأثرياء من بلاد الخليج، ودخل عليه في مكتبه في دمشق، وكشف له أن له عقارات وأرصدة كبيرة، ولم يخمس منذ فترة طويلة، ويريد التعويض عمّا فات، وكان يروم تقديم مبلغاً كبيراً من المال الى السيد الشهيد، بينما كان الحاضرون من المقربين اليه ينظرون بلهفة الى تلك الأموال، لكن رأي السيد الشهيد، كان شيئاً آخراً، حيث أثنى على خطوة الرجل وتوبته وإنابته الى الله تعالى، فقال له: ان توبتك مقبولة إنشاءالله.. أما بالنسبة لي، فلا أحتاج الى المال، ولدي الكثير والحمد لله.. وإن أردت إنفاق هذا المال، فبالامكان توزيعه على الفقراء والمحتاجين.

إذا كانت القضية في نهضة الأمة وعودتها الى كامل وعيها وقدراتها الحضارية، فيجب ان يكون التحرك جوهرياً لا قشرياً، وشمولياً لا قطرياً ضيقاً.. لذا فقد حدد السيد الشهيد معالم الطريق، وآلية التحرك والعمل على صعيد الشريحة المثقفة، وايضاً على صعيد الجماهير، فبعد أن وضع الأسس الفكرية للحركة النهضوية في الستينات، من خلال كتابه "كلمة الإسلام"، وأن التحرك الناجح من البداية الى النهاية، هو الذي ينبثق عن المرجعية الدينية، رسم للعالم الاسلامي، خارطة الطريق نحو تحقيق الهدف الأسمى، وهو إعادة العزّة والكرامة للإسلام والمسلمين، فكان تأسيس الحوزات العلمية والمكتبات ودور النشر والحسينيات والمساجد في سوريا ولبنان والخليج، ثم في البلاد الافريقية وفي مقدمتها سيراليون، ثم امتدّ نشاطه – قدس سره- الى كينيا وتنزانيا. ويروى أن جمعٌ من وجهاء "الشيعة الخوجه" جاؤوا الى النجف الأشرف في عهد مرجعية الإمام الراحل السيد محسن الحكيم – قدس سره- وطلبوا منه خطباء وعلماء يفدوا اليهم ويبينوا للشيعة في افريقيا أحكام الاسلام على ضوء منهج أهل البيت عليه السلام، فاقترح سماحته عليهم بأن يتخرج العلماء والخطباء من نفس مجتمعهم، فكان الجواب هو العجب والاستغراب، فكيف لهم ان يصنعوا علماء وخطباء من الشيعة الخوجة؟ وربما يستغرق هذا وقتاً طويلاً، فاقترح عليهم – قدس سره- بأن يذهبوا الى السيد حسن الشيرازي ليرشدهم الى الطريقة الفضلى لحلّ هذه المشكلة، لمعرفته باختصاصه في الشأن التبليغي والإرشادي لما وراء الحدود. وفعلاً؛ وبفضل الجهود التي بذلها السيد الشهيد وأتباع أهل البيت في افريقيا تم تأسيس مدارس ومؤسسات ضخمة ما يزال بعضها قائماً، ويعد منطلقاً للتثقيف والتوعية.

وبالحقيقة، لا يسعني إلا القول: بأن السيد الشهيد الشيرازي – قدس سره- قدم جلّ ما يتمكن بلسانه وفكره وقلمه وجهده العضلي والذهني ووجاهته، لوضع اللبنات الاولى لنهضة اسلامية شاملة، وها قد طوينا أكثر من ثلاثة عقود على افتقادنا هذا المفكر البطل، ولم نشهد أبطالاً مشابهين أو حتى أقل من ذلك في الساحة، ولعل هذا ما يفسر التقهقر والتراجع الذي بدأ منذ تاريخ استشهاده وحتى اليوم، حيث تراجع العمل الثقافي والفكري، وتصاعد المد السياسي والأمني، وإنشغالنا بالتجاذبات السياسية، والصراعات والتنافس المحموم على النفوذ والسلطة، في هذا البلد وذاك. حتى أمسينا نعيش القلق على مستقبل التشيع، بوجود تحديات من (نكرات) تحولت الى جماعات تكفّر وتهاجم وتشيع الرعب في النفوس في أرجاء العالم الاسلامي، بل حتى العالم برمته. وهذا ما يجعل – بالحقيقة- شهيدنا الشيرازي- شاهداً وشهيداً على القصور الكبير في الساحة، وخسارة تلكم السنين الطوال التي تسببت في إراقة الدماء، والدمار والتخلف والحرمان، في دوامات حروب ومعارك وصراعات ما كان يفترض ان تكون الأمة ضحيتها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 30/نيسان/2013 - 19/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م