شبكة النبأ: يسعى أهل الفكر والثقافة
هذه الأيام لإيصال أفكارهم وطروحاتهم الثقافية الى المخاطب مستفيدين من
التقدم الهائل لتقنية الاتصال حول العالم، حتى أن البعض بات يحلم بأن
تُقرأ نتاجاته باللغة العربية من خلال برنامج خاص على النت، ينتقل الى
الهاتف النقال، ومهمته قراءة النصوص الموجودة، ولن يكون القارئ نفسه
بحاجة الى قراءة، إنما يكون مستمعاً وحسب..!
لكن يبدو أن مبتكري هذا البرنامج أدخروا جهدهم ولم يتجهوا لصناعة
برنامج ناطق باللغة العربية، إذ الموجود منذ سنوات هو باللغتين؛
الانجليزية والفرنسية. طبعاً تحفل المواقع الاسلامية بمكتبات
الكترونية تضم مئات الكتب المتنوعة بمضامينها، في محاولة واضحة للحؤول
دون وقوع القطيعة الكاملة بين القارئ والكتاب.
وهذا المشهد الثقافي، يعكس حالة العزوف الكبير عن المكتبات العامة،
وتكريم الكتاب الورقي بالتصفح والمطالعة، إلا في حالات نادرة مثل
الحاجة الى بحوث أكاديمية والاعتماد على مصادر، أما المكتبات الخاصة،
فان معظمها تحولت الى ديكور ومنظر جميل يصطف الى جانب أشكال الديكور في
البيوت.
والسؤال الذي أراه جديراً.. هل تقنية الاتصال التي تجعل مكتبة ضخمة
داخل جهاز حاسوب لوحي "لابتوب"، أو عشرات الكتب داخل جهاز نقال صغير
الحجم يندسّ في الجيب الصغير، أنتجت لأولئك المتضجورين من الكتب
الورقية، ويصعب عليهم تجشم عناء الذهاب الى المكتبات العامة؟
نعم؛ لا يماري أحد اليوم، من أن هذه التقنية تسهل كثيراً عملية
اقتناء الكتاب ومطالعته، لكن المشكلة ليست في الكتاب، سواء الورقي منه،
أو الالكتروني، إنما في مطالعته واتخاذه المصدر الأساس للعلم والمعرفة،
وهذا الذي طبع السلوك والثقافة في البلاد المتقدمة منذ أمد بعيد، حتى
تحول الكتاب الصديق الاول لشريحة واسعة من المجتمع الغربي. وهذا التوجه
والعلاقة الحميمة مع الكتاب هي التي جعلت مسيرة التطور العلمي والتقني
تسير بسرعة البرق. ورب سائل يحتجّ بأن التطور التقني قائم على التجربة
وليس المعرفة، وهذا صحيح الى حدٍ ما، لكن لنسأل انفسنا؛ ما الذي يحفّز
ذلك الشاب الغرب أو الشرق، على صرف أيام وأشهر من عمره، وبذل الجهد
العضلي والذهني للتوصل الى حقيقة علمية ما، أو انتاج سلعة معينة تقدم
خدمات جديدة للانسان؟ أليس التفكير بضرورة التفوق الحضاري والريادة
العلمية..؟ ثم لنلاحظ مستوى تفكير البعض في بلادنا ممن حباهم الله
تعالى من نعمه، فاذا بهم يقولون: "لدينا الأموال، وبها نشتري تقنية
الغرب ونستفيد منها، ولا حاجة للعناء و الانتاج.."!
من هنا نجد المكتبات الضخمة ما تزال قائمة في بلاد الغرب، كما في
الشرق، تضخ العلم والمعرفة والثقافة لإنسان ذلك العالم المتقدم، وذلك
بشكل ممنهج، إذ تشير الاحصائيات الى أن ثقافة المطالعة تبدأ مع الطفل
ثم تتصاعد الى مرحلة الشباب وهكذا.. ففي آخر احصائية نشرها "المركز
العربي للتنمية" العام الماضي، فان الاطفال في الولايات المتحدة
يتسلمون سنوياً (13260) كتاباً، وفي بريطانيا يتسلمون (3837) كتاباً،
وفي فرنسا يتسلمون (2008) كتاباً، وفي روسيا يتسلمون (1458) كتاباً.
هذه الكتب لها مؤلفيها في شتى الحقول؛ من سياسة واقتصاد واجتماع وفنون
وآداب وعلوم انسانية وغيرها، لذا يجب أن نعرف أن انتاج العرب من الكتاب
– حسب نفس الاحصائية- لا يتجاوز 1.1% من الانتاج العالمي للكتاب، مع
علم الجميع بعدد نفوس العرب، ومكانتهم الثقافية والحضارية بين شعوب
العالم، هذا مع قطع النظر عما يجري في عالمنا الاسلامي الكبير. ولذا
ليس من الغريب أن يكون للاطفال العرب، وهم بالملايين (400) كتاب فقط
سنوياً، وربما هذا الرقم يكون مبالغاً فيه الى، وينمّ عن مجاملة وتطييب
للخواطر، وإلا فان كتاب الطفل بحاجة الى مختصين بالكتابة في هذا الجانب،
في حين نرى الاهتمام الاكبر للسياسة والاقتصاد والأمن في بلادنا، وأضيف
هنا معلومة قرأتها قديماً، أن في الاتحاد السوفيتي السابق كان هنالك
ثلاثة آلاف كاتب مختص في كتاب الطفل.
هنا لنلقي نظرة خاطفة على تاريخنا الاسلامي، ونقارن ثم نتأكد من
الحقيقة، فقد كان للشيخ نصير الدين الطوسي مكتبة في بغداد، تضمّ (400)
ألف كتاب، وهذا الأمر يعود الى القرن السادس الهجري، ثم إن هذا العدد
من الكتب لم تطبع بالخدمات التقنية الهائلة اليوم، إنما كانت تكتب
وتستنسخ بشقّ الأنفس.. وفي كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" يؤكد
سماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- غير مرة،
على أمر الثقافة وتكريسها في الواقع الاسلامي، ويقول: إن نشر الثقافة
كان في مقدمة الأعمال التي قام بها المسلمون الأوائل.. طبعاً كان ذلك
بفضل وبركة وجود أئمة أهل البيت عليهم السلام، وفي طليعتهم الامامين
الباقر والصادق عليهما السلام، حيث تفتقت في زمنها العلوم الطبيعية
والانسانية، وإنبعث النور الحضاري من المدينة المنورة والبقاع
الاسلامية الى شتى أرجاء المعمورة، وتحديداً الى أوربا الغارقة حينها
بظلام الجهل، وفي برك الدماء والحروب الطاحنة.
وإذا نلقي نظرة سريعة على المؤلفات التي تعود الى العقود الماضية،
او القرون الماضية، مع قلتها، نجد الثراء العجيب في العلوم والمعارف،
التي تعد بالحقيقة الأرضية الصلبة لأي نهضة علمية وتقنية.. ونستلهم من
الرؤى الحكيمة للإمام الشيرازي مرة اخرى حيث يقول في نفس الكتاب: "إن
في المسلمين أفراداً يحملون ثقافة إسلامية راقية دون شك، ولكن الكلام
حول الأغلبية الساحقة منهم، فهؤلاء علينا تغييرهم، وإحدى الخطوات في
طريق التغيير هي طبع ألف مليون كتاب توعوي في مختلف النواحي: سياسياً
واقتصادياً واجتماعياً وزراعياً ومعاملياً وتربوياً، وفي مجال الحريات
والشورى وإلى غير ذلك".. وهذا نعده تفاؤلاً كبيراً له مصداقيته،
فالتغيير الكبير الذي حدث في العراق عام 2003، تسبب مما تسبب اليه،
برفع القيود والأغلال عن الفكر والثقافة، فتسابق الناس على المؤلفات
والكتب التي تتحدث عن الدين والاخلاق والمجتمع وسيرة المعصومين عليهم
السلام، وغيرها من المعارف والعلوم، وقد شهدنا الزحام على مكاتب
المرجعيات الدينية تحديداً في الايام الاولى من سقوط الطاغية. وهذا
دليل واضح على أن الإنسان محب – من حيث الفطرة- للعلم والتعلّم
والمعرفة، ويكره الجهل والتسطيح والتضليل، وهو ما كانت يمارسه حزب
البعث البائد في العراق، ومن خلاله جاء بصنم صدام وألقاه على كاهل هذا
الشعب طيلة ثلاثين عاماً، طبعاً يصدق على سائر بلادنا الاسلامية، التي
نرى اليوم كيف أن التغيير البسيط الذي طرأ عليها سياسياً، دفعها
للانفتاح على الثقافة والفكر والمعرفة.. كل هذا يجعل عالم الدين
والشريحة المثقفة والواعية في المجتمع أمام مسؤولية خطيرة للغاية، فهي
في الوقت الذي يجب أن تعمل على تزويد القارئ، وعموم الناس، بالثقافة
الأصيلة والفكر البناء، عليها الحذر من محاولات التسلل والنفوذ من لدن
جهات ومؤسسات تعمل ليل نهار، على كسب الساحة الاسلامية بقنواتها
الفضائية ومواقعها الالكترونية وبرامجها المتقنة، للوقوف بوجه اليقظة
الاسلامية الحقيقية، التي إن تحققت، فانها ستفضي الى نتيجتين: الاولى
إغناء المجتمع الاسلامي بالفكر والثقافة الأصيلة النابعة من جوهر
الحضارة الاسلامية، فيعيش الانسان المسلم وفق ما قدمه له النظام
الاسلامي المتكامل، وليس ما يطرح من نماذج وأنماط مستوردة.. والثانية
وهي الأكثر خطورة، إنتشار هذا الشعاع الى العالم الآخر، شرقاً وغرباً،
ولا ننسى أن الإقبال المشهود في العالم على الإسلام وتعاليمه ونظامه
الاجتماعي الرائد، ما هو إلا إنعكاس لخيط رفيع من ذلك الشعاع الهائل. |