التقدم كموضوع للتنوير

حاتم حميد محسن

ان أعظم مساهمات التنوير كانت في تشجيعه عملية التفكير التاريخي.

مفكرو التنوير أصرّوا على عدم وجود اية سمات ثابتة وخالدة للمجتمع، وان الترتيبات الاجتماعية كانت دائماً عرضة للتغيير والتحول. هذه الرؤية للتاريخ منحت الكائن الانساتي منزلة هامة باعتباره موضوعاً للتاريخ وربما هو على الاقل كذلك. ومنذ (كوندرسيه) وحتى (سانت سيمون) نظر التنوير للتاريخ باعتباره عملية لا متناهية من التقدم ومن ثم هو تغيير لا متناهي. العالم الجديد الذي ابتدأ بهذه القفزة في التصور هو عالم "من صنع الانسان".

ان فكرة امتلاك الانسان للمقدرة على التغيير وتحسين ظروفه شجع على ايجاد نمط من التفكير التاريخي الموجّه وبشكل صريح نحو المستقبل. مفكرو التنوير اصرّوا على ان التقدم ممكن عبر تطوير وتطبيق الفكر الانساني.

 واليوم من الصعب ادراك هذا الشكل من التفكير المخالف جذريا للرؤية العالمية التي سادت في ازمنة ما قبل الحداثة. واذا كان مفكرو القرون الوسطى نظروا الى روعة الماضي، كانت عيون التنوير متجهة وباصرار نحو المستقبل. ذكر سانت سيمون "ان العصر الذهبي وحيث وُضعت التقاليد العمياء دائما في الماضي، انما هو يكمن امامنا". دعا فكر التنوير الانسانية الى تطبيق طاقاتها الخلاقة في طرق جديدة ومثيرة وذلك عبر الحركة العكسية للعلاقة بين العصر الذهبي والحاضر. وبالتالي، ومنذ القرن الثامن عشر وصلت الانسانية الى الايمان بمشروع هزيمة المصير. احدى النتائج الهامة لهذه العملية كانت ان الانسانية هي اقل استعداداً للقبول بالقدر المفروض خارجيا. الناس اصبحوا اقل ميلاً لتقبّل المرض والموت. قلة من الرجال والنساء مستعدون لقبول القدر السيء كرغبة من الله. وبدأ المزيد من الناس يؤمنون ان حياتنا بالإمكان تغييرها نحو الافضل.

غير ان الانسانية وجدت دائما من الصعب التبنّي الكامل لمُثل التنوير. أدّت الرؤية اللامحدودة للمستقبل التي عرضها التفكير التاريخي الى تعكير حياة الناس الذين يشعرون بعدم الارتياح لعدم اليقين هذا. فكرة ان الناس يصنعون التاريخ هي جيدة من حيث المبدأ ولكن المجتمعات تعلمت ان التجارب الاجتماعية لا تقود دائما الى التقدم. وبالتالي فان التفكير التاريخي كانت تكتنفهُ دائما حالة من التوتر والقلق ازاء التغيير. العديد من مناصري التنوير بحثوا عن الراحة والاطمئنان من خلال طرحهم فكرة التقدم كشيء حتمي بدلاً من ان يكون محصلة ممكنة لصناعة التاريخ الانساني. المفكرون الذين تعاملوا مع التقدم كعمل طبيعي خارج التاريخ عادة حوّلوه الى دوغما عقائدية. وبهذه الطريقة اصبح التاريخ شيئا ماديا يتجسد كقوة عابرة تتجاوز التدخل الانساني. وخلافا لما هو مقبول، كانت هذه الرؤية القدرية للتقدم باعتباره عملية لا تحمل اشكالية للتقدم الانساني تتجاهل دور الناس في صنع التاريخ.

في عملية فهم الحدث بعد وقوعه يتضح جليا انه منذ بداية العصر الحديث كان الميراث الوضعي للتنوير اُجبر على المنافسة مع التيارات السياسية والفكرية المؤثرة المشككة في دور الانسان. الطريقة السردية المبالغ فيها في موضوع التقدم المشجعة لنموذج الحتمية قاد الى تجسيد الناس كاشياء للتاريخ بدلا من ان يكونوا موضوعاً له. وباستمرار كان التأكيد البلاغي على قيم التنوير ترافق مع محاولات كبح امكانية التغيير في المستقبل. فاذا كان التقدم هو مجرد بلوغ الفكرة المسبقة عن التطور الانساني، فمن الممكن القول بان الفكرة قد تحققت. وفي العقود الاخيرة جرى الابلاغ عن هذا الشعور عبر فكرة الـ TINA او (لا يوجد هناك بديل). وعلى الرغم من ارتباط الـ TINA بتاتشرية الثمانينات الاّ ان استنتاجاً مشابهاً توصل اليه المعلقون والمفكرون عبر الانقسام الايديولوجي. جميع هؤلاء بدوا يؤمنون بفكرة ان لا جدوى من تغيير المجتمع طالما ان مثل هذه المحاولات اما ان تفشل او انها تنتهي الى موقف اسوأ من الاول.

وحاليا لا يوجد سوى حيز ضيق في التصور الثقافي لفكرة الصناعة التاريخية للانسانية المحتملة. وعلى عكس ذلك كان هناك تحولاً اساسياً نحو رؤية عالمية يُطرح فيها الناس كليا خارج التاريخ. لم يحصل في اي وقت منذ القرون الوسطى ان اُعطي الكائن الانساني مثل هذه المنزلة المتدنية في صناعة التاريخ. مدرسة جديدة في التاريخ المالتيسي تتباهى في التقليل من توقعات الناس حول قدراتهم. التاريخ المبني على ممارسة ذاتية الانسان اصبح ثانويا بالنسبة الى التاريخ البيئي الجديد المضاد للانسانية. شكل جديد من التاريخ الطبيعي يشير باستمرار الى ان الانسان القديم Homo Sapiens لم يظهر على هذا الكوكب الا قبل 160 الف سنة بينما وجود الارض ذاتها يعود الى 4 ونصف بليون سنة. ان الاستنتاجات القائمة على العودة الى ملايين السنين انما تؤكد على ضآلة دور الانسان قياسا بقوة الطبيعة. وفق هذه الطريقة يتجسد الانسان مجرد كائن واحد بين ملايين الكائنات الاخرى.

هناك عدة نظريات مؤثرة – مثل نظرية Gaia ونظرية الفوضى – تجعل موضوع الانسان هامشيا. انها تدعم الاحساس بالتصميم البيئي الذي يخصص للكائن الانساني دورا ثانويا ضئيلا ضمن البناء العام للاشياء. هذه النظريات تصر على ان اي محاولة من الناس للسيطرة على مصيرهم سوف يتم تجاهلها من جانب قوى الطبيعة. ان محاولة السيطرة على الطبيعة تتمثل بسلوك مدمر لكائنات لا تعرف مكانها في النظام الطبيعي للاشياء. وبدلاً من الاحتفال بمحاولة الانسانية تحويل الطبيعة، جرى عرض الحضارة والتاريخ كقصة للتحطيم البيئي. ومن هذه الزاوية فان تطبيق العقل والمعرفة والعلوم جرى نبذها كمشاكل خطيرة لانها تعمل على تكثيف المقدرة التدميرية للكائن البشري. وبذلك فان التنوير يُنظر اليه كقوة شريرة تبشر بتحطيم الكوكب.

ان فقدان الايمان اليوم بالتفكير التاريخي وتدنّي هدفية الانسان هي دليل على العلاقة الملتبسة للمجتمع بميراث التنوير. في السابق رفض الناس الاعتراف بالمصير وصرفوا المزيد من الموارد ليحصلوا على وسيلة للسيطرة على حياتهم. وكان في نفس الوقت الايمان بعدم وجود بديل له تاثير فعال على سلوك الحياة العامة. وما هو أسوأ ان المشاعر المضادة للانسانية تستغل تصورنا مشجعة ايانا على النظر للمستقبل باحتقار. إعادة النظر بمُثل التنوير يمكن ان تساعدنا في إستعادة الثقة بمقدرتنا في تشكيل العالم.

....................................................................................

Frank Furedi بروفيسور في السوسيولوجي في جامعة كنت وهو مؤلف (دعوة للارهاب: تمدّد امبراطورية التعاقب المجهول).

انظر The Philosophers Magazine عدد 9 كانون الثاني 2010.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 23/نيسان/2013 - 12/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م