فقه الدولة: في السياسة الداخلية... الاصلاح والتطوير

الشيخ فاضل الصفّار

ونعني بها الوظائف والمهام التي يجب على الدولة أن تقوم بها تجاه الرعية وجوباً عينياً تعيينياً أو تخييرياً، أو وجوبا كفائياً على اختلاف الموارد والشرائط، ومن أوليات واجبات الدولة التي عليها القيام بها أمور تأتي بحسب تسلسل الحاجات البشرية، ويحرم التخلّف عنها أو التخلّي عن مسؤوليتها تجاهها:

الأول: حفظ النظام ومنع الإخلال بالأمن والهرج والمرج.

الثاني: القيمومة على حفظ الحقوق الأولية والثانوية ابتداء من الطعام والشراب إلى السكن والنكاح والعمل والتعليم ونحوها كحاجات أولية، ثم توفير الرفاه العام والكرامة الاجتماعية للجميع.

الثالث: بسط العدل في الناس وتسويتهم أمام القانون بلا فرق بين أهل الملل والأديان والعناصر والأعراق ونحوها.

الرابع: توفير فرص التنمية والتكامل للجميع في بعديها المادي والمعنوي.

هذه من أبرز مهام الدول والحكومات في سياستها الداخلية التي قامت عليها الأدلة الأربعة، مضافاً إلى الارتكاز العقلي والعقلائي عليها، بل لعل ادعاء قيام الضرورة عليه غير بعيد؛ لكونها من القضايا التي قياساتها معها، وأي خلل في واحدة منها عن عمد أو تقصير يسقط شرعية الدولة لانطباق جملة من العناوين المحرمة عليها، كالظلم والفساد والإضرار بالناس وتضييع حقوقهم ونحوها من ملاكات هامة حرّمها الشارع، فيحكم بحرمة تصديها للحكم حينئذٍ، كما يحرّم على الناس العمل أو التعاون معها، بل يجب عليهم التصدي لإسقاطها وإحلال حكومة أخرى مكانها تتوفر فيها الشرائط الشرعية.

نعم، في الجهل القصوري يمكن المناقشة في القول بسقوط الشرعية أو عدمه من جهة أن الجهل عذر عقلاً وشرعاً، فلا يحكم بسقوطها، أو من جهة استبعاد وجود جهل قصوري في الحكومات والأنظمة مع توفر دواعي الفحص وإمكان الرجوع إلى العالمين بالشؤون والتشاور مع أهل الخبرة في الخطط والممارسات، ومعها لا يبقى موضوع للجهل، فينحصر خطأ الحكومة أو التخلي عن مسؤولياتها ومهامها بالعمد أو بالجهل التقصيري الذي تحاسب فيه على تقصيرها في المقدمات التي يلحقها موضوعاً بالعمد.

 وهنا مسائل وتفريعات ينبغي التعرّض إليها:

المسألة الأولى: في وجوب توحيد المجتمع المسلم

إن تماسك المجتمع المسلم ووحدته وتعاطفه وتعاونه وتناصره ضرورة إنسانية وحاجة سياسية وواجب شرعي وعقلي، والإخلال به حرام، بل يعد كبيرة من الكبائر لما يترتب عليه من مفاسد ومخاطر عظيمة، فواجب الوحدة بين المسلمين يعلو فوق جميع المصالح الفردية والفئوية والعنصرية واللغوية ونحوها، ولا يجوز لأحد انتهاكه الاّ بمزاحم أهم كالمصالح العليا للإسلام والحفاظ على حوزته وبيضته، وقد ورد تشريع الوحدة باعتباره واجباً على عموم الأمة في الأدلة الأربعة، ولعل من أصرح ما ورد فيه قوله سبحانه وتعالى:{وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}[1] والريح هنا كناية عن القوة والغلبة من باب الاستعارة [2]، ولعلّه عبر بالريح لأنها تتضمن الإشارة إلى الحركة وشدة البأس والتحرر، وهي من سمات الريح الحقيقية، وعليه فالمجتمع المتماسك المتوحّد ناشط وفاعل ومتطوّر وقوي وحصين بخلاف المجتمع المتنازع المتفكك.

ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى:{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}[3] ثم يقول سبحانه:{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}[4].

ولا يخفى أنه كان اختلافهم على الإيمان والعقيدة فأنكروا رسالات الأنبياء(عليهم السلام)، وفرقوا المجتمع إلى مؤمنين وكافرين، وكانوا بعملهم هذا معتدين؛ بداهة أنه بعد قيام الحجة والبينة لا ينكر إلا المعتدي والباغي الذي يريد غير الهدى والصلاح؛ ولذا فإن مصيره إلى النار.

وكيف كان، فإن الإسلام يعتبر النزاعات الداخلية خطراً كبيراً على الأمة؛ لكونها تؤدي إلى هدر الطاقات وتبديد الإمكانات والقوى، وتؤدي إلى الفشل والخذلان وسقوط الهيبة السياسية والحصانة أمام الخصوم، مضافاً إلى زعزعة إيمان الناس واعتقاداتهم، ولذلك فقد شرع الله تبارك وتعالى وجوب فض النزاعات بالحسنى والمساعي المُصلحة، فإذا فشلت الأساليب السلمية فلابد حينئذٍ للأمة من التدخل الحاسم بنحوٍ مباشر أو غير مباشر لفض النزاع الداخلي وإنهائه على أساس مقاتلة الباغي.

 والملحوظ في جملة من الخطابات القرآنية الواردة في هذا الشأن أنها موجهة إلى الأمة وكأنها هي المطالبة والمكلفة أولاً وبالذات بالمحافظة على وحدتها وتلاحمها وتماسكها وتناصرها للحيلولة دون نشوء النزاعات، كما أنها المكلفة أولاً وبالذات بإعادة الوحدة إلى صفوفها حينما تهددها النزاعات والحروب الأهلية وما أشبه. قال تعالى:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}[5].

والملحوظ أن هذا الخطاب بما تضمنه من تكاليف شرعية عديدة موجّه إلى الأمة بنحوٍ عام، وقد جعلت الآية الشريفة مراحل تدريجية لسياسة التعامل مع الفتن تبدأ من الإصلاح أولاً بما يتطلبه من الجمع بين الحقوق وإيجاد الحلول الوسطى التي يمكن أن يتفق عليها الطرفان؛ لأن الصلح خير، ولأنه مقتضى قاعدة العدل، فإن أبت إحداهما الصلح ووافقت الأخرى صارت الآبية باغية، وكذا إذا حاربت واحدة من الطائفتين الأخرى التي توفرت فيها الشرائط الشرعية فصارت المحاربة باغية، أي متجاوزة الحق إلى الباطل، فهي معتدية، فيجب ردع العدوان والوقوف أمامه لإرجاعها إلى المصالحة والاتفاق بالعدل.

أقسام الإصلاح

 لايخفى أن الإصلاح على نحوين:

الأول: الإصلاح الحقوقي

 وهو فيما أمكن تشخيص الحق وتمييزه عن الباطل، وبالتالي تشخيص صاحب الحق والمعتدى عليه، فحينئذٍ يجب إعطاء الحق لأهله وردع المعتدي ومنعه من عدوانه.

الثاني: الإصلاح التوافقي

 وهو فيما لو التبس الحق بالباطل، أو تناصفت الطائفتان ببعض الحق وببعض الباطل، كما هو الغالب في النزاعات السياسية والاجتماعية، فحينئذٍ لا مجال إلا باللجوء إلى الصلح التوافقي الذي يجمع لكل طرف منهما بعض حقه للابدية العقلية؛ إذ لولاه لتعذر الحكم إما بترك النزاع متواصلاً وهو باطل، أو ترجيح أحدهما على الآخر وهو ظلم للآخر، أو يتنازل أحدهما. وهذا ليس ممكناً في الغالب، والكلام في صورة التنازع وعدم التنازل فيتعين الجمع بالتوافق بينهما، وهو خير كما قال سبحانه:{الصلح خير}[6] لكونه يجمع بين الحقوق.

ثم بعد ذلك ذكرت الآية فلسفة الصلح وسبب الدعوة إليه، وهو الأخوة الايمانية والإسلامية، ثم تدعو المجتمع إلى تجنب عوامل التفرقة وأبرزها التكبر والتعالي على الآخرين واحتقارهم واستصغارهم والاستهانة بشأنهم. قال سبحانه:{لا يسخر قوم من قوم}[7] فإن معيار الوضاعة والعلو والكبر والصغر ليس المظهر والشكل، بل واقع القلب والنفس والعقل، وهذا أمر لا يمكن أن يحكم به الإنسان بحسب المظاهر الخارجية؛ ولذا قال سبحانه:{فعسى أن يكونوا خيراً منهم}[8].

ومن الواضح أن «عسى» وإن كانت تفيد الترجي والترقب إلا أنها في الآية تدل على الواقع، إما لجهة وجود الأفضل في ضمن المجموع كما هو الغالب؛ إذ فوق كل ذي فضل أفضل، وفوق كل ذي علم عليم، أو لجهة حث الأفضل على التواضع، بأن يكف لسانه ونظره وفكره عن التعالي راجياً ان يكون الأفضل منه في الآخرين على ما هو الأقوى في تفسير مثل: «عسى» و«لعل» ونحوهما في القرآن خلافاً للعديد من المفسرين، حيث حملوهما على اللازم دفعاً لمحذور الرجاء في الباري سبحانه وتعالى، وكذا اللمز بالألقاب؛ لأنه من عناصر تفتيت وحدة المجتمع وفك عناصره[9].

 هذا ولا يخفى أن وجود الوحدة في المجتمع لا يعني إلغاء التنوع واختلاف الاجتهادات والمناهج، بل هذا من الضرورات الأولية في البشر، كما أن قيامها على الوجه الإيجابي من الضرورات الأولية للتطور والتكامل؛ لاستلزامه التنافس وإيجاد الأفضل، وإنما المراد من الوحدة هي الوحدة الروحية والاجتماعية والعاطفية والعقيدية في مقابل التعدد السلبي المسبب للصراع والتفرق والتشتت.

كما أن الوحدة الاجتماعية لا تمنع من تكوين الأحزاب والتعددية الحزبية والتكتلات الإيجابية، كما لا تمنع من التحالفات لو كانت في الإطار الإيجابي؛ لشمول أدلة الوحدة والسلطنة والقوة والعلو لمثلها، بل هو مما قامت عليه سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كما ذكره التأريخ في مثل حلف الفضول[10] وغيره[11].

ولعل من المناسب التذكير هنا بكتاب الحلف بين ربيعة وأهل اليمن الذي أملاه مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كما أورده المرحوم الشريف الرضي رضوان الله عليه في نهج البلاغة، حيث ورد فيه: «هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن حاضرها وباديها، وربيعة حاضرها وباديها، إنهم على كتاب الله يدعون إليه، ويأمرون به، ويجيبون من دعا إليه وأمر به، لايشترون به ثمنا، ولايرضون به بدلا، وإنهم يد واحدة على من خالف ذلك وتركه، أنصار بعضهم لبعض، دعوتهم واحدة، لا ينقضون عهدهم لمعتبة عاتب، ولا لغضب غاضب، ولا لاستذلال قوم قوماً، ولا لمسبة قوم قوما، على ذلك شاهدهم وغائبهم، وسفيههم وعالمهم، وحليمهم وجاهلهم»[12] فإن هذا العهد نص على مجال الوحدة والتعاون بين الفريقين لغرض المصالح العليا لحفظ حياض الإسلام وكرامة المسلمين مع وجود التنوّع والاختلاف بين الفريقين في كثير من المجالات السياسية والعسكرية، وربما الاجتهادية،وفي المصادر التاريخية شواهد كثيرة متضافرة تعضد ما ذكرناه.

المسألة الثانية: في وجوب مراعاة التعدد والتنوع الاجتماعي

يجب على الدولة أن تعد الاختلاف والتعدد والتنوع حقاً من الحقوق الإنسانية الطبيعية للمواطنين؛ لأنهم بشر، ومن الخصوصيات البشرية الأولية الاختلاف والتمايز، فلا يجوز لها أن ترى الاختلاف فوضى، ولا أن تمنع من إبداء الرأي أو إظهار الفكر أو الموقف المغاير لموقفها أو لغيرها من المؤسسات، ولا يجوز لها أن تتهم الاختلاف أو المختلفين معها بالتهم وسوء النية والغرض، فإن كل ذلك حرام؛ بداهة أن لكل امرئ ما نوى، والناس مسلطون على أنفسهم، ولهم الحق في ابتكار أفكارهم وإبداء آرائهم واختيار مواقفهم، كما أن سمعة الإنسان وعرضه محترمان، فلا يجوز انتقاصهما أو اتهامهما أو الإضرار بهما.

وعليه فإن الأصل هو حرية الرأي والاختلاف والتعدد وحرمة قمعه أو مصادرته أو اتهامه إلا ما خرج بالدليل، وهي موارد نادرة.

نعم، يجب على الدولة أن ترعى الاختلاف بإيجاد التفاهم والتقريب؛ لأن ذلك حسن عقلاً وشرعاً، ومن أوليات الأمور التي تمكن الدولة من ذلك هو فهم الاختلاف ومنشأه، وتدلنا التجارب الإنسانية بل والطبيعة البشرية على أن الاختلاف غالباً ما ينشأ من أمور:

1- الاجتهاد في الرأي.

2- المصالح المتضاربة.

3- الإحساس النفسي.

4- العلم.

5- الجهل.

6- الأغراض المتناقضة.

وأول ما ينبغي أن تلحظه الدولة في الحكم على الأشياء هو الأمور الخمسة الأولى، فإذا لم يتوفر واحد من هذه الأسباب حينئذٍ تصل إلى السادس، وهي تفسير الاختلاف بالغرض أو الحسد أو سوء النية أوغيرها من دواعي الاختلاف الضارة، وهذا ما يجده المتتبع للسيرة العقلائية في مختلف الشؤون والمجالات، فكثيراً ما نرى اختلاف أهل الخبرة كالفقهاء في أمورهم، ولا شك أنهم يريدون وجه الله والنوايا الحسنة، ولا يشوبهم شيء من الهوى، ولم يقصر أي واحد منهم في الاستنباط أو التشخيص أو التوثيق، كما نرى أن أهل القوانين قد يختلفون في النظر والرؤية أيضاً. وهكذا حال غيرهم من الخبراء في الأمور المختلفة كالأطباء والتجار والإعلاميين والعسكريين والساسة، فإن درك الكليات ثم تطبيقها على الجزئيات مختلف، كما نرى كثيراً اختلاف المصالح بين الصالحين من الناس؛ إذ كثيراً ما تتضارب مصالحهم الصحيحة، مما يوجب اختلافهم في الرأي أو الموقف أو العمل، مما تختلف لأجله النتائج.

فمثلاً: الطبيب المتعب الذي عاد إلى داره في ساعة متأخرة من الليل تقتضي مصلحته ومصلحة عائلته أن يستريح ويخلد إلى الراحة، تقتضي مصلحة المريض الذي يرزح تحت ألم المرض أن يذهب إلى الطبيب ويوقظه من نومه لأجل المعالجة، وكذلك مصلحة البائع تقتضي أن يبيع سلعته بمائة، بينما مصلحة المشتري تقتضي أن يشتريها بتسعين مثلاً، وهكذا مع أن هذا الاختلاف اختلاف في المصالح وليس ناشئاَ من الاجتهاد في الرأي.

وقد ينشأ الاختلاف من الإحساسات الباطنية الشعورية أو الظاهرية، فإن مشاعر الناس تختلف وتتعدد، والكثير من الناس ينطلق من إحساسه ومشاعره في مواقفه، وهذا أمر طبيعي لا يمكن إلغاؤه أو تجاهله أو المنع منه، فمثلاً: نفران من الضباط يختلفان في الشجاعة والخوف، فليس الخائف باختياره الإقدام في مواقع الشجاعة، وليس للشجاع الإحجام بسبب الخوف أو الجبن؛ ولذا نرى في المواقع الحساسة أن الأول يرى الإقدام بينما الثاني يرى الإحجام، وهكذا في الكريم والبخيل والهميم وفاتر الهمة، مع أن الواقع واحد وهو إما يطابق أحدهما أو يطابق كليهما مع أرجحية أحدهما أو المساواة بينهما، كما قد يخالف كليهما، ولهذا بحث طويل لا يسعنا تفصيله.

هذا وربما ينشأ الاختلاف من العلم والجهل، وهو كثير جداً، كما هو مقتضى محدودية الإنسان ونقصانه وعجزه عن الوصول إلى الواقع في الكثير من الأحيان، فإذا رأت الدولة حصول الاختلاف ولم يرجع إلى واحد من الأمور المتقدمة فحينئذٍ يمكن أن ترجع ذلك الاختلاف إلى الدوافع والأغراض السيئة؛ بداهة أن صاحب الغرض السليم إذا أرشد إلى الحق قبله، وإذا جهل الواقع تعلمه، والاختلاف الشعوري غالباً ما يكون غير اختياري وإن كانت مقدماته أحياناً اختيارية، واختلاف المصالح أمر طبيعي، ويجب على الإنسان أن يرعى مصالحه ويدافع عنها ما دامت في ضمن الموازين الصحيحة، وهذا ما يحكم بحسنه العقل والشرع، واختلاف الاجتهاد أيضاً من الحقوق الأولية في البشر.

 وأما الاختلاف غير الراجع إلى واحدة منها فيمكن التشكيك فيه أو الوقوف دونه، لكن يجب معاملته بالحسنى والمداراة لأجل الإرشاد والتعليم أولاً، والإصلاح ثانياً، واحترام الحقوق ثالثاً، فإذا لم ينفع يمنع منه؛ لأنه يقع موضوعا في مصاديق ردع العدوان ورفع المنكر ومنع الفساد.

المسألة الثالثة: في وجوب السعي لتطوير البلاد

يجب على الدولة السعي لأجل تطوير البلاد وتنميته إنسانياً وحضارياً، وهذه السياسة من أكبر مميزات الأنظمة الحرة من الأخرى المستبدة، كما أنها من أهم عوامل تقدم الأولى وتحقيق نجاحاتها في مختلف مجالات الحياة وتراجع الأخرى عنها، وقد أثبتت التجارب البشرية فضلاً عن أدلة الشرع والعقل بأن المستبد أناني، والأناني يحتكر كل شيء لنفسه حتى مصالح البلد.

ومن المعلوم أن التطور والتنمية يتوقفان على مشاركة الكفاءات والخبرات في ذلك، والكفاءات لها آراؤها واستقلالها وكرامتها، وهذا ما لا ينسجم مع سياسة المستبدين، فينفصلون عنهم واحداً بعد الآخر، حتى يبقى مع المستبد جملة من الإمعات والذيليين يتحكمون بشؤون البلد الذين لا يهمهم إلا رضا المستبد خوفاً أو طمعاً بإشباع شهواتهم، وتوفير أموالهم، والتلذذ بالطيبات والثروات الوطنية، بينما الشورى فلأنها تقع تحت رقابة الشعب بسبب المؤسسات والأحزاب الحرة فإنها تحترم الناس، وتصون حرية مجلس الأمة والقضاء والتنفيذ، فتنهض بنفسها بالكفاءات، وهذا ما هو ملحوظ في الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لمواطني كلا النظامين؛ لذا يحرم على الدولة اتباع سياسة استبدادية في التنمية لخروجها موضوعا عنها، ويجب عليها اتباع السياسة الاستشارية لتطوير البلد وتنميته ورقيه في مجالات الحياة المختلفة، ولعلّ من أبرز المجالات هو تطور الفكر والأخلاق؛ لأنهما يهذبان النفوس والعقول والسلوك الاجتماعي العام كما قال الشاعر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت...فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا[13]

وعن امير المؤمنين (عليه السلام): «عليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشريف، وتهدم المجد»[14].

مجالات التطوير

بعد الفكر والأخلاق يجب العمل لأجل التطور في أمور خمسة وهي:

1- الثقافة.

2- السياسة.

3- الاقتصاد.

4- الاجتماع.

5- النفس.

أما التطور في الثقافة فلوضوح أن الثقافة تهتم ببناء العقل ومضاعفة قدراته ومواهبه على مجابهة المشاكل العديدة التي يعانيها الإنسان في حياته الخاصة والعامة، ويرى البعض أن التقدم الصناعي الحاصل في بعض الدول الغربية حاليا يرجع إلى تلك النهضة العلمية التي ظهرت فيها خلال القرن الثاني عشر الميلادي، والتي بسببها تغير وجه الغرب، وتمكنوا من أن يغيروا جهات كثيرة من العالم، فإن في تلك الفترة استطاع العقل الغربي في الجملة أن يتعمّق في تحليل بعض الظواهر الطبيعية والاجتماعية، ويصل إلى نتائج هامة، ويخلق كثيراً من الوسائل التي ساعدته على تحسين معيشته العامة.

ومن أهم هذه الوسائل كانت العلوم التي توصل إليها المسلمون في نهضتهم الأولى، وقد تولدت من هذا التغير الرغبة الشديدة في البحث عن حقائق أوسع وأشمل من تلك الحقائق المتوفرة للإنسانية قبلها، وكلما جاء جيل جديد حاول هو أيضاً تغيير الأوضاع وتطوير ما تركه الآباء والأجداد، وهكذا أصبحت فكرة التغيير والتطور مقبولة لدى الشعوب، ولم يبق هناك من يعترض على إعادة النظر في المشاكل المحيطة به والبحث عن وسائل أكثر فعالية للتغلب على الصعاب التي تعرقل مشاريع التنمية.

التطور السياسي

وأما التطور السياسي فنعني به تقوية أجهزة الدولة بتحسين وسائل الاتصالات التي تساعد الدوائر والمؤسسات على الإشراف على الأمور ومراقبة المفاسد والانحرافات الخاصة أو العامة، وخصوصاً الشركات الضخمة، كما تجند مختلف القوى والطاقات لاستثمار الموارد الأساسية التي تمكّن المجتمعات من تحقيق نهضة صناعية واجتماعية وثقافية؛ ولذا تسعى الحكومة العصرية إلى تقوية الجهاز الإداري والإشراف على تسيير جهود المواصلات والصناعات الثقيلة وتربية الجيل الصالح وتزويده بالثقافة الحيوية وسياسة التطوير لتقوية الجهاز الحكومي، فإن مسؤولية الدولة في العصر الحديث قد تعقّدت، وعليها أن تكون في المستوى اللائق، وان تفي بالتزاماتها في ميادين متعددة في سياستها الداخلية والخارجية، وتمارس سياسة محكمة ودقيقة ومدروسة، وبذلك يتسنّى لها أن تنال ولاء المواطنين، وتحصل على ثقتهم وتأييدهم، وتضمن لنفسها البقاء، وتقف أمام الهزات الداخلية او الخارجية.

فإن الحكومة التي لا تحظى بثقة أبناء شعبها لا تستطيع أن تؤدي رسالتها على الوجه الأكمل، والدولة الواعية هي تلك التي تتبع وسائل الإقناع بجلب أبنائها إلى جانبها وتوظيف مختلف القوى والطاقات لخدمة المصالح العليا، ولا تلتجئ إلى استعمال القوة لتحقيق أهدافها وتطبيق سياستها الداخلية، كما أن السياسة المتطورة تعتمد على سن القوانين المعقولة والمتوازنة التي تنظر إلى القدرات بالقياس إلى المواهب والحاجات، والتي تسير بمقتضاها المؤسسات العامة والخاصة من دون هضم أو اهتضام، وبذلك تؤدي الحكومة وظيفتها الأساسية في حماية الشعب من أي تلاعب، وتجعل المواطن يشعر بأن هناك قيادة تسهر على حقوقه وجادة لحمايته من تلاعب المتلاعبين، سواء كانوا في الداخل أو في الخارج.

التطور الاقتصادي

وأما التطوير الاقتصادي فهو غالباً ما يقوم على عاملين أساسيين وهما: الاستثمار والإدخار، وقد اعتاد الفرد في الدول النامية على صرف الشيء القليل الذي يحصل عليه من دخله المحدود، فلا استثمار له ولا ادخار؛ ولهذا بقيت الناحية الاقتصادية في البلدان النامية في جمود، ولا تتعادل نسبة التنمية في هذه البلدان مع الزيادة المضطردة في عدد سكانها غالبا، وهذا أحد الأسباب الرئيسة لقلة فرص العمل وحرمان عدد كبير من أبناء البلد من كسب عيشهم بكيفية مرضية، أو استثمار طاقاتهم في الإبداع والتنمية؛ ولذا نرى العالم الثالث يضج بالبطالة، ويحتقن بالتذمر من سياسات حكوماته، وهذا أحد أهم أسباب كثرة الهجرة والعنف والانقلابات والتحولات وعدم الاستقرار في هذه البلدان، مضافاً إلى استشراء المفاسد فيها.

خطوات في تجاه التطور الاقتصادي

إن معالجة الأزمات الاقتصادية يضع أقدام الدولة ومواطنيها في تجاه التطور والرقي، ومن أهم الخطوات التي يجب على الدولة مراعاتها في هذا السبيل أمور أربعة هي:

الأول: توفير دخل عال لدى الأفراد، الأمر الذي يوفر للمواطنين إمكانية ادخار نصيب وافر من الأموال لنموهم وتكاملهم.

الثاني: حصول الطبقات الضعيفة كالفلاحين وغيرهم على قطعة من الأرض تكفيهم في أن يعيشوا منها ويستثمروا الفائض من العائدات في المشاريع الزراعية والتنموية التي تنفع قطاعاتهم، وتعود عليهم بالأرباح الطائلة.

الثالث: تعليم العامل وتخصيصه في مهنته وحرفته، وبذلك يستطيع أن يساهم في رفع الإنتاج كماً وكيفاً، والحصول على مرتب يمكنه من تحسين مكانته الاجتماعية ومن المساهمة في المشاريع الاستثمارية التي تجلب له أرباحاً إضافية.

الرابع: تحرير الصناعة والتجارة من قبضة الدولة والقوانين المكبلة والروتين القاتل؛ ليتسع حجم المبادلات التجارية سواء في الداخل أو الخارج الذي يحرك من فاعلية المجتمع، وينشط الحركة الاقتصادية، ويقود الجميع في مسارات التنمية.

التطور الاجتماعي والنفسي

وأما التطور الاجتماعي فالملاحظ أن المجتمع المعاصر قد تميز عن المجتمعات السابقة بعدم الاستقرار؛ لأن أبناءه يبحثون عن العمل الذي يتماشى مع اختصاصاتهم، ويقيمون حيثما تفرض عليهم ظروف عملهم ذلك، وقد صاحب هذا التحول الاجتماعي بروز عدد كبير من الأفراد الذين تحسنت اوضاعهم الاجتماعية، وارتفع دخلهم المادي، وتطور مستواهم الثقافي، إلا أن هذه الحركة الاجتماعية لم يصحبها تقدم مناسب في الميدان السياسي، فبقيت المناصب الهامة بيد نخبة محدودة من السكان، وحرمت الكثير من الكفاءات من فرص العمل المبدع والتنمية العامة، وهذا ما يدعو الدولة إلى توفير أجواء حرة وأكثر انفتاحا لتحريك الطاقات وتفعيل الكفاءات بالتنمية الاجتماعية وإزالة المعوقات المانعة منها.

وأما التطور النفسي فإن حرص الدول على الاحتفاظ بعاداتها وتقاليدها جعل كثيراً من شبابها يشعرون أن حياتهم تتصف بالركود، وأن الأمل بالحصول على حياة أفضل ضعيف، وفي بعضها كالمعدوم، وبما أن الآباء قد يحملون أفكاراً لا تتماشى مع عقلية الجيل الجديد فإن الشباب يلتجئون إلى تبادل التعلم والأخذ من بعضهم بدلاً من الاعتماد على توجيهات الكبار في المجتمع الأكثر تجربة، وبذلك ضعفت روابط المودة والاحترام التي تتوطد عادة بين الأبناء والآباء، وبين الشيوخ والشباب، ويشعر كل فريق بالنفور، وربما الاشمئزاز من الفريق الآخر لعدم التفاهم بينهما.

والمجتمع الذي لا يستطيع التوفيق بين أجياله ولا يقدر على إيجاد نوع من الانسجام والتفاهم بين أفراده اويلاحم بين الميول المختلفة لا يمكن أن يتقدم كثيراً في ميادين الحياة؛ لأن الكراهية تدفع بالإنسان الى عدم التعاون مع خصومه، ومن الواضح أنه بدون تعاون الفئات الاجتماعية لا يتحقق تطور ولا نمو، والدوافع النفسية للتطور والتقدم تأتي غالباً من الاختلاف بين جماعات لهم مستويات مختلفة من الثقافة؛ لأن الاختلاف يوجب التنافس الحر، وهو أول نواة التقدم في المجتمع المنفتح الذي يعيش الحرية والانطلاق.

وبما أن أغلب سكان الدول النامية يعيشون في الريف فإن ذلك يعني قلة الاختلاط بأبناء المدن الذين أتيحت لهم فرص التعلم والحصول على ثقافة عالية، وإذا نحن قارناهم بأبناء الريف – مع قلة الإمكانات والخدمات فيه، وقلة الاختلاط بالطبقات المتعلمة والمهنية - نجد أن ابن الريف منطوٍ على نفسه في الغالب، ولا تربطه أية علاقة قوية ببقية أفراد مجتمعه، وبالنتيجة فهو لا يواكب التطور والتنمية البشرية، وكذلك العكس.

التطوير وشرعية الدولة

هذا والمستفاد من مجمل الآيات والروايات هو وجوب رعاية الدولة لهذه الأمور، وأنها من أهم وظائفها ومهامها، ولولاها كانت غير لائقة بالحكم، ولا تستحق الطاعة والاحترام، وبه تسقط عن الشرعية، ولعل من المناسب الإشارة إلى بعض الروايات في هذا المجال:

منها: ما عن المفضل عن الصادق (عليه السلام) قال: «إذا أراد الله عز وجل برعية خيراً جعل لها سلطاناً رحيماً، وقيض له وزيراً عادلاً»[15] ولا يخفى أن إرادة الله سبحانه وتعالى في مثل ذلك تابعة لعمل الناس، فإن عملوا خيراً أراد الله بهم خيرا، كما أن شفاء الله للمريض تابع للعمل بحسب دستور الأطباء، وكذلك رزق الله للفلاح والعامل والطالب وغيرهم؛ لإن الله عز وجل جعل سنة الأسباب والمسببات هي الحاكمة في هذا الوجود، فكل من سلك السبل وأخذ بالأسباب وصل إلى النتائج المرضية.

ومما ورد في هذا المجال عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح»[16] وروى طلحة بن زيد عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً»[17]، وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته إلى أحد ولاته: «لا تقبلن في استعمال عمالك وأمرائك شفاعة إلا شفاعة الكفاية والأمانة»[18].

ومنها: ما عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يكون عمران حيث يجور السلطان»[19] وعنه (عليه السلام): «ليكن أحب الناس إليك وأحظاهم لديك أكثرهم سعياً في منافع الناس»[20] وعنه (عليه السلام): «حسن العدل نظام البرية»[21] وعنه (عليه السلام): «حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة»[22].

وعن الصادق (عليه السلام): «وليس يحسن للملوك أن يفرطوا في ثلاث: في حفظ الثغور، وتفقد المظالم، واختيار الصالحين لأعمالهم»[23] إلى غيرها من الروايات الكثيرة المروية في كتب الأخبار الدالة في مجملها وبنحو التواتر المعنوي على وجوب رعاية الدولة التطور والتنمية الإنسانية في البلد؛ لتنعكس هذه التنمية على مختلف شؤون الحياة.

 وهناك مسائل اخرى سيتم عرضها ومناقشتها في الموضوع القادم:

المسألة الرابعة: في وجوب مكافحة التأخر

المسألة الخامسة: في وجوب مكافحة الاستعمار

المسألة السادسة: في وجوب إرجاع السيادة الى المسلمين

المسألة السابعة: تركيبة المجتمع في البلاد الإسلامية

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

...................................................

[1] سورة الانفال: الآية 46.

[2] انظر مفردات الفاظ القران الكريم: ص211 روح.

[3] سورة آل عمران: الآية 103.

[4] سورة آل عمران: الآية 105.

[5] سورة الحجرات: الآية 9 – 11.

[6] سورة النساء: الآية 128.

[7] سورة الحجرات: الآية 11.

[8] سورة الحجرات: الآية 11.

[9] انظر مجمع البيان: ج9 ص136 ذيل الآية11 من سورة الحجرات.

[10] تاريخ اليعقوبي: ج2 ص17.

[11] انظر نهج البلاغة: ص464 الكتاب 74.

[12] المصدر نفسه.

[13] انظر مكارم الاخلاق: ص6.

[14] تحف العقول: ص 152.

[15] البحار: ج72 ص 340 ح 19.

[16] الكافي: ج1 ص44 ح3.

[17] الكافي: ج1 ص43 ح1.

[18] شرح نهج البلاغة: ج20 ص 276.

[19] شرح نهج البلاغة: ج17 ص72.

[20] مستدرك الوسائل: ج12 ص391 ح14384 باب 22 من ابواب كتاب الامر بالمعروف.

[21] غرر الحكم: ص191 حرف الحاء.

[22] غرر الحكم: ص190 حرف الحاء.

[23] تحف العقول: ص235.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/نيسان/2013 - 7/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م