العراق... مستقبل في نصوص من الماضي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: عشر سنوات على عمر التغيير الذي حدث في العراق، اي عقد كامل من تلك السنين بما حفلت به من احداث ومآسي ونكبات لازالت مستمرة ومتواصلة، والاسباب مختلفة وكثيرة.

عشر سنوات من التغيير، بين واقع اصبح من الماضي عاشه العراقيون طيلة عقود طويلة من الاستبداد والطغيان والديكتاتورية، وبين حاضر يعيشونه ليس كما كانوا يرجون وياملون.

في عمر المجتمعات البشرية لاتعد السنوات العشر تلك شيئا في حسابات التغيير، بل هي مخاض مستمر وعسير، لان الاجنة التي يحملها هي مشوهة وممسوخة، وهي في رحم الصيرورة وارهاصات التهيؤ للولادة.. ولانه لم يكن امام القادة الذين امتلكوا السلطة بعد هذا التغيير اي تصور او خارطة طريق لما يجب او كيف يمكن لهم ان يتعاملوا معه.

الارتجال هو السائد منذ العام 2003، والارتجال سيد الخطأ وبوابة ارتكابها، التجربة معلم كبير لمن يعترف باقتراف الخطأ، والتراجع عن الخطأ وتصحيحه ليس عيبا.

من الفشل يولد النجاح، لكننا يجب ان نشير وان نشخص مواطن فشلنا بدل انكارها والهروب منها الى الامام، انها احجار عاثرة في الطريق تصادفنا في كل خطوة نخطوها في المستقبل..

عشر سنوات والساسة لم يمتلكوا رؤية لقراءة مايحدث او سوف يحدث، فكل منهم يعيش لحظته الانية بابعاد اليوم الذي يكون فيه فاعلا سياسيا، اليوم الذي يليه لاتسألوه عنه، فهو في علم علام الغيوب.

ماذا عن الاخرين والاستفادة منهم؟ حتى في الافكار نحن متخاصمون، لا أقرأ لك لانك لست من جماعتي، او من ديني او من مذهبي وطائفتي، ولا استعير برنامج خلاص منك كنت قد سهرت عليه لياليك الطويلة وعلى مدار سنوات عمرك، لاني لاأتبع خطواتك، ولان وصفة الخلاص تلك لاتنسجم مع ما اؤمن به من افكار وطروحات وايديولوجيات اراها هي الانسب والافضل والاجمل.

اتابع مايحدث في العراق، وأطمح ان اكون شاهدا على تلك الاحداث، وهي شهادة اعتبرها موثوقة، لعدة اسباب منها سنوات عمري التي تقترب من الخمسين عاما، معاصرتي للكثير من الاحداث من داخل العراق وخارجه، واطلاعي على الكثير من النصوص، نصوص التحليل وخرائط الطرق والخلاص.

في ما يتعلق بالعنصرين الاولين، كتبت الكثير عن تلك الاحداث التي عاصرتها في بعدها الاجتماعي والثقافي المتولد عن السياسة وتاثيرها، وفي ما يتعلق بالعنصر الثالث وهو النصوص، اعود الى الكثير مما قراته قبل العام 2003 في صحف المعارضة العراقية، وادبياتها الحركية وبياناتها، واستذكر الافكار التي كان يتم طرحها عبر تلك النصوص، واؤشر لحقيقة كنا نلمسها في تلك النصوص، وهي الخطابية والانشائية المباشرة دون عمق او ريادة او ابداع في اي فكرة كانت تطرحها.. مجرد سطور لايعرف كاتبها ماذا تعني تلك الكلمات والمصطلحات والمفاهيم الواردة فيها، مجرد كلام في كلام، او هي ورقة انشائية لطلاب صف ابتدائي، ينطلق من طلب المعلم في رأس الصفحة (اكتب في احد الموضوعين التاليين).

وكان الموضوع المحبذ في تلك السنوات التي سبقت العام 2003 هو الامل بسقوط النظام الصدامي الحاكم.

حسنا، وماذا بعد سقوطه؟ تحضر الخيالات والهلوسات في تلك الكتابات الانشائية دون خطوات واقعية ممكنة.. وهذا ماوصلنا اليه بعد عشر سنوات من التغيير، خيال جامح يصحو على قسوة الواقع.

وكانت نصوص اخرى تقدم الحلول من منطلق الهم الانساني الاكبر، لمأساة اسمها العراق كانت تكبر وتكبر، لتصبح اكبر من مساحته.. تلك النصوص، تنبأت بالتغيير، واستشرفت امكاناته، ووضعت طرق الخلاص وخرائط الطريق لما يجب ان يكون العراق عليه بعد تغيير هو قريب الى التحقق اقرب مما كنا نتصور نحن الذين تسكننا اللحظة الراهنة فقط.

في العام 1991 اندلعت الانتفاضة الشعبانية في مدن العراق الجنوبية والشمالية، وكان المنتفضون قاب قوسين او ادنى من تحويل تلك الانتفاضة الى ثورة شعبية عارمة تؤتي اكلها ولو بعد حين لولا تدخل اطراف اقليمية ساعدت صدام حسين على قمعها والتنكيل بالمنتفضين والهاتفين لهم.

في ذلك العام وفي تلك الايام الحافلة باحداثها وجه مجموعة من العراقيين سؤالا الى الامام الشيرازي الراحل لاستطلاع رايه حول صورة عراق المستقبل الذي توقعوا تحققها.

لم تكن اجابته او ماطرحه من نقاط الا قراءة لمستقبل متحقق، ببصر ثاقب وبضمير نقي لايبحث عن ارباح لتلك اللحظة القادمة، بل ينطلق من هم كبير سكنه طيلة سنوات عمره، هذا الهم كان اسمه العراق، فتخيل كم هو حجم هذا الهم؟

انطلق الامام الراحل في اجابته من خلال تحديد الميزان الدقيق لما يجب ان تكون عليه الصورة المستقبلية، وهو الميزان الاسلامي، والذي هو بالضرورة يطابق موازين الانسان الفطرية.

من تلك البنود، حكم الاكثرية التي يذكر بدورها في بناء العراق الحديث، والتي لولاها ماكان العراق على الشكل الجغرافي الذي هو عليه، ولعل اكثر الامثلة دلالة وايحاءا التي يوردها لهذا الدور هو ثورة العشرين.. ولايقف الامام الراحل عند حكم الاكثرية وماتعنيه ربما مما يعرف ب (دكتاتورية الاكثرية او استبداها)، بل يشترط الى ذلك اعطاء الاقليات حقوقها.

ولا يتأتى تحقيق مثل هذا البند الا من خلال استناد الدولة إلى المؤسسات الدستورية، ومنح الحرية لمختلف التجمعات والتكتلات والفئات والأحزاب، وهي هنا بتعبير الامام الراحل (غير المعادية للإسلام) وذلك في إطار مصالح الأمة، مع اشتراط (أن تكون الانتخابات حرة بمعنى الكلمة) مع توفير الحرية للنقابات والجمعيات ونحوها.. ولا تكون تلك الحريات نافعة الا بحراسة لها من قبل السلطة الرابعة، وهي الصحافة ووسائل الاعلام الحرة، كما يرى الامام الراحل، ولاينسى (قدس سره) المراة ودورها عبر تمكينها في المجتمع لاداء هذا الدور عبر الحفاظ على كرامتها وحريتها.. كل ذلك في إطار الحدود الإسلامية الإنسانية التي عمادها قول الله سبحانه وتعالى: (لا إكراه في الدين).

ولان الامام الراحل كان يستشرف مايمكن ان يقود اليه كل تغيير يحدث في السياسة والمجتمع في بلد مثل العراق، فانه يشير في بند اخر الى انتهاج (اللاعنف) الذي يراه منهجا عاما في الداخل والخارج، لانه هو الأصل ونقيضه استثناء.

وتستمر رؤيته الثاقبة، وكانه يعيش بيننا الان، ويكتب من وحي اللحظة الراهنة، فهو (قدس سره) في بند اخر من بنود نصه القديم – الجديد، يؤكد على وجوب مراعاة حقوق الانسان بكل دقة حسب ماقرره الدين الاسلامي، وحسب تعبير الامام الراحل، وانقل هنا النص بين معقوفين (فلا إعدام مطلقا إلا إذا حكم ـ في كلية أو جزئية ـ مجلس شورى الفقهاء المراجع إذ في صورة الاختلاف بينهم يكون من الشبهة والحدود تدرأ بالشبهات كما ينبغي تقليص عدد السجناء إلى أدنى حد حتى من الحد المقرر في العالم اليوم كما لا تعذيب مطلقا وكذلك لا مصادرة للأموال مطلقا).

اوليس هذا وكثير غيره مما يحدث نقيضه الان ويجعل السياسة والاجتماع في العراق تتقلب على جمر يزداد اتقادا؟

ويضيف بندا اخر متمما لما ذكره في بنده السابق، من خلال تلك الرحمة النبوية الشريفة التي اسبغها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) على اهل مكة وغيرهم وهو يخاطبهم قائلا: اذهبوا فأنتم الطلقاء.. وهي ماتعارف عليه الناس حسب عرفهم (عفى الله عما سلف)..

وفي بند اخر، لايحصر الامام الراحل حكم البلد بالاكثرية المذهبية، مع احترام حقوق الاقلية من المذهب الاخر، بل يمتد ذلك الى وجوب اشراك القوميات او الاثنيات الاخرى في الحكومة القادمة وفي كافة مجالات الدولة والامة، لان لاولئك كما يرى الامام الراحل (قدس سره) كامل الحق في تلك المشاركة... كان هذا النص، ونصوص اخرى غيره في متناول يد الكثيرين من قادة مابعد التغيير، لكنهم لم يلتفوا اليه ولم يولوه اهتمامهم، لعصبيات بغيضة وايديولوجيات مريضة.

اتساءل في نهاية هذه السطور: كيف كانت ستكون صورة العراق لو ان قادة مرحلة مابعد التغيير عملوا بتلك البنود التي تجعل من السياسة كل الممكن والواقع؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 14/نيسان/2013 - 3/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م