جدلية العلاقة بين العالم والمجتمع

في رؤى الفقيه الشيرازي

 

شبكة النبأ: "العلماء ورثة الانبياء".. حديث مضيء لنبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، يكشف لنا الطريق الصحيح للعلاقة بين عالم الدين والمجتمع، بعديد شرائحه ومكوناته، وهناك أحاديث اخرى على هذا الطريق تبين لنا حقيقة العلاقة الممتدة بين علمائنا وبين الانبياء والرسل الذين أرسلهم الله تعالى الى أقوامهم ليهدوهم الى التوحيد والرشاد والصلاح. ثم تبين العلاقة التكاملية المطلوبة بين عالم الدين وافراد المجتمع.

وهذا ما جعل الفقيه الراحل سماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- لأن يولي هذا الجانب اهتماماً بالغاً، لعلمه بتأثير هذه العلاقة على مسار الثقافة الدينية، ونجاح الدور الرسالي لعالم الدين. وفي ذكرى رحيله المفجع، نتنبه الى ما بذله من حرص شديد على محاضراته المشحونة بالفكر والثقافة والمعرفة والموعظة الحسنة.. كل هذا وغيره واظب – قدس سره- على أن تتضمنه المحاضرات طوال سنوات حياته الشريفة، لتحقق الغاية المرجوة التي فيها رضى الله تعالى والفائدة للناس.

واذا اردنا لهذه العلاقة أن تأخذ مداها الحضاري، علينا الأخذ بما توصل اليه علماء الاجتماع بوجود "تصاعد هندسي لا عددي" في العلاقات بين افراد المجتمع.. فالعلاقات الاجتماعية لا تعني العلاقات الزوجية والأبوية والأخوية وغيرها، إنما هي العلاقة بين الزوج والزوجة، وايضاً بين الزوجة والزوج، وهكذا على هذه الشاكلة، سائر العلاقات. هذا النوع من العلاقات يجعلنا أمام استحقاقات ومشكلات متداخلة، وبالنتيجة؛ فان الحاجة الى عالم الدين والمبلغ ستتضاعف بشدة، لأن المسائل او الاستفهامات الموجودة لدى الزوجة، غير التي لدى الزوج، في حياتهما الزوجية، واذا كنا أمام مشكلات معدودة، فاليوم نحن أمام مشكلات تُعد بالملايين، من هنا نجد فقيهنا الراحل يلتفت بفطنته واحساسه المرهف بالمسؤولية، الى أهمية المجالس الحسينية البيتية، ويدعو علماء الدين والخطباء لأن ينظروا الى الأسرة على أنها إحدى المؤسسات الاجتماعية الجديرة بالاهتمام.

ولا يخفى على المؤمنين أصحاب هذه المجالس، البركات التي تأتي بها المجالس عليهم، من تهذيب النفوس، وإراحة القلوب، ومكافحة العادات الذميمة، وتكريس قيم المحبة والأخاء والتراحم والتكافل وغيرها. كما لا يخفى – وهذا الأهم- على علمائنا وخطبائنا، دور هذه المجالس في تجسير العلاقة، ليس فقط بين الخطيب وبين الناس، إنما بينهم وبين المؤسسة الدينية برمتها، حيث يجدون الطرق معبدة وسالكة نحو المكتبات والحوزات العلمية ودور المراجع والعلماء.

وهذا طموح كبير وجميل، بأن يكون الناس على مقربة من علماء الدين، وهو ما تؤكده لنا الاحاديث الشريفة منها: "زاحموا العلماء في مجالسهم.."، وعلينا البحث عن السبيل الى تحقيق هذا الطموح. فقيهنا الشيرازي الراحل – قدس سره- يضيء لنا نقطتين من جملة نقاط عديدة في هذا المجال:

أولاً: البيان

العلم وطلبه، أمران مهمان، والأهم منهما نشره وتعميمه، وهذا ما تؤكده النصوص الدينية، فـ "زكاة العلم نشره"، بمعنى وجود الحاجة الماسّة الى الوسيلة والسبيل لنشر العلم والمعرفة، وأول معلّم لنا؛ القرآن الكريم حيث تقول الآية الكريمة: "ادع الى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، فالحكمة هي العلم التي تحرك العقل وتوقظه، بينما الموعظة الحسنة، تحرك القلب وتحفز المشاعر، فالحقائق ربما تكون واضحة للجميع، لكن الفائدة في اندفاع الناس نحو هذه الحقائق وتبنيها.

وبالحقيقة؛ لن نأتي بجديد اذا تحدثنا عن أهمية "البيان" في طرح الفكر والثقافة الدينية، تبقى الحاجة الى هذا الخيار، فالبعض يعتقد ان إثارة العواطف والمشاعر، ليس من شأن العالم والمفكر، لاسيما اذا اتصل نشاطه وتحركه بالطبقة المثقفة والاكاديمية، لذا عليه ألا يتكلف كثيراً ويبذل جهداً للوصول الى اكبر عدد من الناس، بدعوى أن القلّة المثقفة والواعية السريعة الاستيعاب، أفضل من الكثرة قليلة الاستيعاب. حتى تطاول البعض في إجحافه بحق خطباء المنبر الحسيني، ووصفهم بأنهم يتعكزون على إثارة العواطف واستدرار الدموع، ولا أساس لهم من العلم والمعرفة. بينما تشير التجارب الناجحة الى دور المنبر الحسيني في إشاعة الفكر الأصيل والثقافة التي دلّت المجتمع على طريق السعادة، الأمر الذي يدعو المعنيين في الحوزة العلمية الى وضع المناهج الكفيلة بصياغة البيان المناسب والطرح الناجح للفكر والثقافة والعلم بين أوساط المجتمع.

الثاني: البديل

هنالك نظرة سائدة، تقول: أن عالم الدين مثال للحظر والتحريم والمنع.. حتى بات من الشائع سماع عبارة: "لا يجوز" من رجل الدين فقط لا غيره.. بينما الصحيح غير ذلك، فعلماء الدين الذين جعلهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ورثة الأنبياء، و شبههم بأنبياء بني اسرائيل، لايمكن أن يكون خطابهم الحظر والمنع، ووضع السدود والحدود أمام الناس، وهو أمر غير معقول، بدليل أن الشريعة الغراء حرّمت نوعاً من اللحم – مثلاً- وحللت أنواعاً كثيرة من اللحوم، وحرمت الممارسة الجنسية المتسيّبة والهدامة، ودعت وحثّت على الممارسة الجنسية البناءة في إطار الزواج وتأسيس الأسرة.. وهكذا سائر الأمور في الحياة، وهذا تحديداً ما يطالب به افراد المجتمع، من الرجل والمرأة والطفل والشاب.. يقول سماحة الفقيه الشيرازي – قدس سره- "علينا إضاءة المساحات الواسعة غير المحظورة في الاسلام"، وهذا ليس من قبيل الكلام النظري أو النصيحة العابرة، إنما هي تنطوي على استحقاقات عديدة وكبيرة، لاسيما في الوقت الحاضر، الذي يعجّ بالمحرمات والمحضورات، مما يتوجب البحث عن البديل المناسب لها، وهو موجود قطعاً في الجانب النظري، لكن الأمر يحتاج الى مزيد من الجهد والتعاون والاهتمام.

مثالٌ على ذلك.. ما يسمى بـ "مواقع التواصل الاجتماعي"، وهي تسمية تحمل غطاءً جميلاً وجذاباً ومحبباً الى النفوس بعكس ما تتضمنه من مساحات يجول فيها شذاذ ومعقدون يرومون الانتقام من المجتمع، وجرّه الى التحلل والتسيّب وحتى التعرّي. في المقابل بالامكان تشييد المراكز الاجتماعية الخاصة بالشباب في جميع مناطقنا، تفتح أبوابها للتواصل والتعارف والتعاون في مجالات الدراسة والاعمال المهنية وإثارة القضايا الثقافية والدينية، وليكن كل ذلك تحت عنوان الهيئة الحسينية، او المركز الثقافي أو أي تسمية اخرى، ونفس الشيء ينسحب على النساء والفتيات وحتى الاطفال..

وفي عديد محاضراته وكلماته، يعرب سماحة الفقيه الشيرازي – قدس سره- عن بالغ قلقه من الاختراق الكبير للثقافة الغربية والافكار الفاسدة الى الوسط الاجتماعي، لاسيما بين الشباب والفتيان، مما يؤكد مسؤولية علماء الدين بشكل خاص والحوزة العلمية بشكل عام، في تأمين حاجة المجتمع الى المنهج الصحيح في العلاقات الزوجية، وإضاءة الطريق القويم أمام الشباب.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 13/نيسان/2013 - 2/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م