الميّاه العربية... وحروب إسرائيل المستقبلية!

مصطفى قطبي

منذ عدة سنوات وخلال التوقيع على اتفاقيات الشراكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل اشترطت الأخيرة ضمان توفير المياه لها، وبالفعل تم تداول عدة مشاريع تضمن للكيان الصهيوني الحصول على المياه، ويكون مصدرها أنهار دجلة والفرات واليرموك وبانياس، والليطاني والحاصباني والوزاني والنيل والأردن، إضافة للمياه المحلاة من مياه البحار المشاطئة، وذلك بتمويل أوروبي وأميركي، لأن موضوع المياه يشكل حيزاً رئيسياً في التفكير الاستراتيجي الصهيوني، من أجل الحصول أو السيطرة على المياه ومصادرها بشتى الطرق والوسائل.‏

بعض الباحثين يعيد أطماع الصهيونية في المياه العربية إلى العهد التوراتي القديم ويرى جذور هذه الأطماع موجودة في تعاليم التوراة والتلمود، وورد في التوراة حوالي أكثر من مائتي نص يتعلق بالمياه والأنهار والبحيرات وتتضمن هذه النصوص في معظمها أفكاراً عدائية بهذا الخصوص، وثمة من يذهب إلى أن اليهود وضعوا ومنذ القدم نصب أعينهم هدف السيطرة على أرض ومياه بلاد الشام، وأن ضرورة الوصول إلى النيل والفرات والسيطرة عليهما هو من ناحيتهم واجب ديني، وثمة من يستنبط هذه الأطماع من خلال العلم الصهيوني والعملة الإسرائيلية المعروفة بالشيكل والتي رسم عليهما خارطة ما يسمى إسرائيل الكبرى ووضع فيهما خطين أزرقين يشار إلى أنهما نهري النيل والفرات، وتحدث في هذا الإطار أيضاً ''مناحيم بيغن'' عندما كان رئيساً لوزراء الكيان الصهيوني المعادي عن فكرة (إسرائيل الكبرى) بقوله: (إن التوراة تتنبأ بأن دولة إسرائيل ستشمل في النهاية أجزاء من العراق، سورية، تركيا، السعودية، مصر، السودان، الأردن، الكويت)، وبذلك يكشف كغيره من قادة الصهاينة لنا بوضوح عن وجود أطماع ليس في مياه المنطقة فقط، وإنما في هوائها وترابها.‏

لقد ظهرت في السنوات الأخيرة في منطقتنا العربية بوادر تشير إلى أن المياه العذبة ستصبح في القرن الحادي والعشرين الحالي سلعة إستراتيجية قد تتجاوز في أهميتها النفط، من هذه الأحداث قيام تركيا بحجز مياه الفرات في بحيرة سد أتاتورك ووقف سريان مياه النهر نحو سورية والعراق لمدة شهر كامل خلال كانون الثاني من عام 1990 وثمة مشروعات لتزويد إسرائيل بمياه الفرات ودجلة، كما أن هناك دراسات إسرائيلية في أثيوبيا وفي بلدان منابع النيل الأخرى للبحث عن إمكانية إقامة مشروعات على روافد النيل.

وقد سبق لرئيس جامعة تل أبيب الأسبق ''حاييم بن شاهار'' أن اقترح في ندوة التعاون الاقتصادي لدول الشرق الأوسط التي عقدت في لوزان عام 1989 أن تقوم مصر بمنح إسرائيل حصة من مياه النيل، وفتح ترعة سيناء.

 وهذه المعطيات ومثيلاتها ترتبط فيما يمكن تسميته الصراع على المياه، وهذا أمر ليس جديداً في المنطقة، فمن أسباب العدوان الثلاثي على مصر تمويل مشروع السد العالي، وهناك قضية تحويل مياه نهر الأردن الذي قامت به إسرائيل، ناهيك عن الأطماع الإسرائيلية في المياه اللبنانية والتي كانت من أسباب احتلال جنوب لبنان قبل أن تحرره المقاومة.

وفي السياق ذاته نظم مركز الدراسات الإستراتيجية في جامعة جورج تاون الأمريكية ثلاثة مؤتمرات خلال عامي 2010 ـ 2011 شارك فيها مسؤولون من وزارتي الدفاع والخارجية وآخرون من إسرائيل وتركيا وبعض الدول العربية لما سمي بحث مشكلة المياه في أحواض أنهار الأردن والفرات ودجلة والنيل وتأثير انخفاض الموارد المائية على البلدان المعنية. وقد أصدر المركز في ختام المؤتمر تقريراً خلص إلى أن منطقة الشرق الأوسط تقف على حافة أزمة موارد مائية حادة يمكن أن تؤدي إلى نزاع قبل نهاية القرن الحالي، زاعماً أن ضعف التعاون بين دول المنطقة يزيد من حدة الأزمة، في إشارة إلى المساعي الأمريكية والإسرائيلية لإدخال إسرائيل قسراً للمياه العربية.

فالمدير العام الأسبق لوزارة الزراعة الإسرائيلية ''مائر بن مائير'' يقول في بحث بعنوان ''نقص المياه في الشرق الأوسط'': (أن أزمة المياه في منطقة الشرق الأوسط هي مثل قنبلة موقوتة وإذا لم يكن المسئولون في هذه المنطقة قادرين على مناقشة مخرج معقول فإن الحرب بين دول المنطقة تصبح مسألة أكيدة وأن إسرائيل سوف تواجه أزمة في بداية القرن المقبل لا محالة).

 والمعلومات الموثقة تؤكد أن ''إسرائيل'' تلعب ورقة المياه مع دول الجوار العربي، التي تنبع منها الأنهار العربية الكبيرة، لتحقيق اختراقات في هذه الدول تمكنها من الضغط على الدول العربية في مسألة المياه، التي تشكل مسألة حياة أو موت لدول مثل مصر، التي أخذت تعاني مع السودان، من تحريض ''إسرائيل'' لدول المنبع لنقض المعاهدة الدولية التي تنظم توزيع مياه النيل، ما يشكل خطراً على الأمن المائي للدولتين العربيتين، ازداد مع فصل جنوب السودان، حيث الأصابع الإسرائيلية واضحة، بل وعلى الأمن الوطني لهما، والأمن القومي العربي عموماً.

إذاً لم تقف الأطماع الإسرائيلية بالمياه الفلسطينية، بل تجاوزتها إلي الدول العربية المجاورة وتوالت المشاريع لاستغلال هذه المياه وتوزيعها غير آبهة بأي عواقب يمكن أن تنشأ نتيجة تعدياتها وأطماعها تلك، وساعدها على ذلك عدة عوامل كان أهمها الدعم الأميركي والغربي غير المحدود لتنفيذ أهدافها، وأهم هذه المشاريع هوركز وجونسون وكوتن وهيس ولودرميلك وغيرها.‏

وبعودة سريعة إلى الأطماع الصهيونية، نرى أن إسرائيل تستفيد من طاقة مائية كبيرة من مياه الجولان المحتل، والذي تعادل مساحته 1 في المائة من مساحة سورية الإجمالي، ويتمتع بمردود مائي يعادل 3 في المائة من المياه التي تسقط فوق سورية، و 14 في المائة من المخزون المائي العام، إضافة لمحاولاتها القديمة والمستمرة في السيطرة على المياه اللبنانية، حيث تتعمد إسرائيل تعطيل أي مشروع لبناني يرمي إلى الاستفادة من المياه أو من خلال الاستيلاء عليها بشكل متقطع وكلما سنحت لها الفرصة بذلك، ليصل مجموع ما تسرقه سنويا نحو 145 مليون متر مكعب.‏

أما فيما يخص الأردن فإن تطبيع العلاقات لم يسهم في حماية وتأمين حصة الأردن من المياه حسب بنود الاتفاقية الموقعة، وذهب الأمر بالكيان الصهيوني إلى حد حفر آبار جديدة في الأراضي الأردنية داخل وادي عربة، للحصول على 10 ملايين م3 من المياه لغايات زراعية، وزد على ذلك استغلال علاقاته مع الدول المجاورة للدول العربية والتي يتطفل على مصادر مياهها، والدخول على الخطوط الساخنة أحياناً ظناً أنه يستطيع استمالتها لمصلحته.‏

وبالنسبة لمياه النيل تعود أول الأطماع الصهيونية إلى مطلع القرن الماضي وبالتحديد إلى عام 1902، ففي سعي حثيث لـ ''تيودور هرتزل'' مؤسس الحركة الصهيونية ومن أجل الوصول إلى فلسطين اقترح في ذلك العام على الحكومة البريطانية، كخطوة أولية نحو فلسطين، فكرة توطين اليهود في سيناء، وأرفق اقتراحه بفكرة الاستفادة من مياه النيل، وتم إرسال بعثة استكشافية صهيونية إلى مصر لدراسة الفكرة على أرض الواقع، ولتوفير المياه اللازمة لهذا المشروع، ورد اقتراح تحويل مياه النيل إلى سيناء من ترعة الإسماعيلية عبر أنابيب تمر من تحت قناة السويس لتصل إلى الأجزاء الشمالية الغربية من المنطقة المختارة للاستيطان، وقدر حينها أن معدل المياه المطلوبة من النيل تبلغ نحو أربعة ملايين متر مكعب يومياً، ولإقناع المعتمد البريطاني في مصر اللورد ''كرومر'' بهذه الفكرة قلل الصهاينة من كمية المياه التي يرغبون في سحبها من مياه النيل، وقال ''هرتزل'' مخاطباً كرومر في 25 آذار 1902: إننا بحاجة إلى مياه الشتاء الزائدة التي تجري عائدة إلى البحر ولا يستفاد منها، ووافقت الحكومة البريطانية آنذاك على هذه الفكرة، ثم رفضتها لأسباب تخصها، وحفظ المشروع في الأدراج الصهيونية غير أنه لم يمت، وعادت هذه الفكرة إلى الظهور في أواخر السبعينيات وتحديداً في الشهر التاسع من عام 1978 على شكل مشروع قدمه المهندس الصهيوني ''اليشع كالي'' على صفحات جريدة معاريف العبرية في مقال بعنوان (مياه السلام) وعرض فيه مشروعاً متكاملاً للتعاون في نقل مياه النيل واستغلالها في سيناء وغزة والنقب.‏

واليوم، ووسط صمت عربي، وبعيداً عن الأضواء وقعت إسرائيل في الخامس والعشرين من تموز الماضي اتفاقية دولية مع جنوب السودان للتعاون في مجال المياه، الأمر الذي سيمكنها من التواجد رسمياً في إحدى دول حوض النيل، ما يشكل خطراً على مستقبل الأمن المائي لمصر والسودان.

واستناداً إلى صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، فإن الاتفاقية تقضي بتأسيس شراكة للتعاون في البنية التحتية للمياه وتطوير التكنولوجيا بين إسرائيل وجنوب السودان، وتحدد الخطوط العريضة للتعاون بين البلدين في تحلية المياه والري ونقل وتنمية المياه.

يقول العميد ''حسين حمدو مصطفى''، مؤلف موسوعة (إسرائيل في أفريقيا): ''إن خطورة هذه الاتفاقية على مصر مائياً تكمن في تنفيذ مشاريع مخططات قديمة لعقود تحلية المياه، وإقامة بنية تحتية لمشروعات الري والصرف، وإقامة السدود أو ما شابه ذلك على النيل، وهذا أمر في غاية الخطورة، ويشكل إعلان حرب على مصر من هذه الناحية''، مضيفاً: ''إن هذه الاتفاقية جاءت في الوقت الذي تضاءل فيه نفوذ مصر في القارة الأفريقية بشكل كبير، ومن المحتمل أن يحدث في المستقبل أن تتدخل إسرائيل وتصبح قوة ضاغطة على مصر في ملف المياه بفضل سيطرتها على النيل في إحدى الدول المطلة على النهر، ألا وهي دولة جنوب السودان الحديثة، وقد يمتد هذا الضغط لدفع مصر للموافقة على جر المياه إلى الكيان الصهيوني من خلال ''ترعة السلام''، ولا شيء مستغرباً في مثل هذه الأوضاع، فكل شيء وارد''.

وإذا كانت الاتفاقية المائية بين إسرائيل وجنوب السودان قد أعلنت بدء مرحلة شد الخناق المائي على مصر والسودان، فإن المسؤولين في البلدين مازالوا يقفون موقف المتفرج، ما عدا بعض الإعلاميين والمعلقين الذين يتناوبون على الشاشات محذرين من سرقة مياه النيل، لافتين إلى خطورة ما يجرى باعتباره خطراً يهدد الأمن القومي لكلا البلدين، ويجب التصدي له، متناسين أن هذه الاتفاقية لم تكن سوى تتويج لسياسات العقود الماضية التي تجاهلت الأطماع الإسرائيلية في مياه النيل وموارد القارة الأفريقية، والتي لا تعد جديدة، فإسرائيل كانت منذ سنوات طويلة تسعى إلى تعزيز علاقاتها بعدد كبير من البلدان الأفريقية، فالموارد الطبيعية الهائلة التي تختزنها بلدان القارة تشغل أعلى سلم الأولويات الإسرائيلية في القارة السمراء إلى جانب الملف الأمني.

أما بخصوص جنوب السودان، فلم تخف إسرائيل يوماً علاقتها بمسؤولي الحركة الشعبية لتحرير السودان، ولا بقادة التمرد الجنوبيين الآخرين منذ اندلاع شرارته قبل عقود، والنظرة الأمنية لجنوب السودان سبق أن لخصها وزير الأمن الداخلي الصهيوني السابق ''آفي ديختر'' في محاضرة ألقاها في عام 2008، بفكرتين رئيسيتين: الأولى مرتبطة بالسودان، والثانية بمصر.

إن الأطماع الصهيونية في مياه النيل قديمة، ولهذا نرى أن هذه الأطماع تتجدد باستمرار وتنتظر الفرصة المناسبة للوصول إلى منابع النيل لتوسيع الفجوة بين العرب والأفارقة، ويبدو أنها نجحت اليوم من خلال التوقيع على هذه الاتفاقية لتؤجج صراع المياه في حوض النيل، مستفيدة من نفوذها في منطقة القرن الأفريقي (أثيوبيا وكينيا في منطقة البحيرات العظمى)، لتأليب دول المنبع في حوض النيل ضد مصر والسودان، ما شكل تهديداً للأمن القومي العربي في محوره الأفريقي. ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل إنها تسعى لتقسيم شمال السودان لعدة دويلات، وتكريس وجودها العسكري في المنطقة.

يقول ''هاني سلامة'' رئيس برنامج دراسات السودان، وحوض النيل بمركز الأهرام الاستراتيجي: ''إسرائيل ساهمت بشكل كبير في انفصال جنوب السودان منذ الستينيات من القرن الماضي، وتمكنت من إيجاد موطىء قدم لها في المجال الأمني والاستخباراتي والتسليح والتدريب، ولها قواعد عسكرية ومحطات تنصت، وقد امتد هذا التواجد إلى المجال الاقتصادي، والآن يمتد إلى مجال المياه، وهذا يدل على تكريس نفوذ إسرائيل في جنوب السودان كقاعدة ارتكاز لتحقيق أهداف استراتيجية، ومواصلة أعمالها التخريبية في السعي إلى إعادة تقسيم شمال السودان بعد نجاحها في تقسيم السودان إلى دولتين: شمالية وجنوبية، ووضع مصر تحت الضغط المستمر، ودفعها للموافقة على إيصال قسم من مياه النيل إلى إسرائيل، لأن ذلك لا يتم إلا من خلال مصر لتفعيل العمل بأنبوب السلام الذي لم يتحقق عبر اتفاق كامب ديفيد''...

إن الحقيقة الخطيرة والمؤلمة هي أن الأمن المائي العربي يوشك أن يصبح خاضعاً لمشيئة قوى خارجية، وإذا أضفنا إلى الاعتبارات الجغرافية التي تجعل مصادر ومنابع المياه توجد ـ في معظمها ـ خارج الوطن العربي، فإن غياب استراتيجية عربية جدية لحماية هذه الثروة المائية القومية يزيد من حجم المشكلة، ويكرس إبعادها الرامية، فالنيل مصدر حياة الشعبين المصري والسوداني ـ تتحكم في مصيره سبع دول، هي تنزانيا، وبورندي، ورواندا، وزائير، وكينيا، وأوغندا، وإثيوبيا، وأي تعديل في حصص هذه الدول من إيرادته المائية تؤثر تأثيراً مباشراً على مصر والسودان وغير خاف أن أثيوبيا ـ من دون سائر ذلك الدول ـ هي الأكثر تهديداً للأمن المائي المصري والسوداني ـ وإذا صحت الأنباء التي تحدث عن مشاريع أثيوبية ـ إسرائيلية لإقامة سدود على النيل ـ فمعنى ذلك أن حياة المصريين ذاتها في خطر.

وما يقال عن النيل يقال عن الفرات الذي يشكل واحداً من أهم مصادر عيش العراقيين والسوريين فمنابع هذا النهر تسيطر عليها تركيا (العضو في الحلف الأطلسي)، والفرات يعني مفتاح الأمن الغذائي لحوالي 50 مليوناً من العرب في سورية والعراق. وفي هذا الصدد قال ''أشوك سواين'' الباحث في أسباب النزاعات بجامعة (أوبسالا) بالسويد: إن خطر نشوب نزاع خطير في المنطقة سببه النزاع على المياه في نهري دجلة والفرات. ولفت النظر إلى أن الحكومة التركية تخطط لبناء 22 سداً في جنوب شرق تركيا لغرض الري وتصنيع الكهرباء، وقد تم إنشاء تسعة من هذه السدود حتى الآن، لكن العراق ليس سعيداً أبداً بهذا التطور لأن هذه المشاريع التركية نتج عنها تراجع حاد في كميات المياه التي كانت تحصل عليها من نهري دجلة والفرات. وبسبب انشغال العراق بمشكلاته الداخلية فإنه لم يتمكن من مقاومة هذه الخطوة التركية التي يقول العراقيون إنها ترمي إلى السيطرة على المياه في نهري دجلة والفرات. لكن المراقبين يعتقدون أنه حالما تهدأ الأمور الداخلية في العراق سوف تتفرغ الحكومة العراقية إلى مواجهة خلاف خطير حول المياه مع الجار التركي.

 أما إسرائيل فتبقى المصدر الأكثر تهديداً على هذا الصعيد، لقد سرقت المياه العربية في فلسطين بعد استيطانها، ثم زادت في معدلات استغلالها للمياه العربية الجوفية في الضفة وغزة بعد الاحتلال إلى درجة التهديد بنضوبها، وتهدد الأردن ولبنان في مياهها (نهر الأردن، نهر الليطاني) وتحاول البحث عن صورة من صور استغلال مياه النيل ومدخلها إلى ذلك الضغط على مصر عبر أثيوبيا. وجاء التدفق الكثيف للمهاجرين من دول أوروبا الشرقية ليزيد من أطماع إسرائيل في المياه العربية، ولنا أن نتصور مستقبلاً تذهب فيه إسرائيل إلى سرقة المزيد من المياه العربية، إنه لن يكون إلا على حساب مصيرنا.

هكذا تبدو اللوحة غير مشجعة، بينما يغط كثير من العرب في النوم، متجاهلين ما يتهددهم. وعليه فالمنطقة العربية وفي ظل الأطماع الإسرائيلية التي باتت معروفة تعيش أزمة مائية وقلقاً حقيقياً على المستقبل، ولاسيما مع ازدياد عدد السكان ونضوب بعض المصادر، وإمكانية دخول بعض الموارد المائية الأخرى ضمن المصالح السياسية المتقلبة في المنطقة، ورغم انطلاق المفاوضات بين بعض الدول العربية وإسرائيل برعاية دولية، والتوصل إلى التطبيع، فإن مشكلة المياه مازالت هي الشغل الشاغل للحكام الصهاينة، وتؤكد مجمل التصريحات لهم أن موضوع المياه سيكون من أصعب الموضوعات على جميع مسارات التفاوض، بل يعد أحد الخطوط الحمراء في أي مفاوضات.‏ فقد أدركت الصهيونية، ومنذ نشوئها أهمية وحيوية المياه لمشروعها الاستيطاني إذا أريد له النجاح مستندة إلى أمرين.

أولهما: طبيعة المشروع الصهيوني استيطانياً وزراعياً والذي يتطلب ربط اليهود بالأرض وذلك يتأتى من خلال الزراعة، ما يعني ضرورة توفير أو وضع اليد على مصادر المياه الحيوية الكافية لتلبية المشاريع والمستوطنات الزراعية، ولهذا كانت الأفواج الأولى من التسلل اليهودي إلى فلسطين تتجه وبناء على التوجيه الصهيوني نحو الأماكن التي تكثر فيها المياه، وتكون إما صالحة للزراعة أو قابلة للاستصلاح الزراعي.

وثانيهما: إن الهدف المعلن للمشروع الاستيطاني كان تجميع شتات يهود العالم في فلسطين، وقد جاء ذكر الفقرة الثانية من قرارات المؤتمر الصهيوني الأول فيما يتعلق بمساحة الدولة اليهودية المزعومة وحدودها الجغرافية المراد إنشاؤها، أن تكون كافية لاستيعاب خمسة عشر مليون مستوطن الأمر الذي يستدعي ضرورة توفير المياه اللازمة لتلبية الحاجات المختلفة، منها لهذا الكم من المتطفلين، علماً بأن موارد فلسطين الذاتية من الماء زهيدة نسبياً ولا تستطيع أن تسد الحاجة المائية لهذا العدد الضخم منهم.‏

يتصل التفكير في هذه الناحية بالنظر إلى نواحي الأمن المائي العربي لا بأمن الأنهار والآبار والاحتياطات الجوفية من الماء فحسب، وإنما بأمن المحيطات والبحار والمضايق، أي الحزام المائي الإقليمي العربي الممتد على شمال غرب وشرق الوطن العربي، وفي قلبه، فالبحار والمحيطات تكوّن جزءاً من الفضاء (الجيوستراتيجي) المتميز للوطن العربي، وتفصله عن، وتصله بـ (جنوب أوروبا)، وتفصلنا عن القارة الأمريكية، وعن العالم الآسيوي، وهو ـ في الوقت نفسه ـ يشطر الجغرافيا العربية إلى قسمين من قارتين (البحر الأحمر): قسم إفريقي وقسم آسيوي، وإلى ذلك فالوطن العربي يتحكم أو يشارك التحكم ـ مع غيره ـ في السيطرة على الكثير من القوات والمضايق الاستراتيجية الهامة (مضيق هرمز، باب المندب، خليج العقبة، قناة السويس).

وهذا الوضع (الجيوستراتيجي) للوطن العربي يجعله مفتوحاً وعرضة للاختراق، فعلى مقربة من المياه الإقليمية للدول العربية تجثم الأساطيل الكبرى كي تؤدي وظيفة حماية الاستراتيجيات الكبرى، وتتحرك تجارة تصدير النفط على أوسع نطاق، لتتحرك معها البحرية الأمريكية في الخليج، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الغرب يراقب قناة السويس بمعية إسرائيل، وإن هذه تراقب الحركة في البحر الأحمر وفي خليج العقبة، عبر ميناء إيلات المحتل، وإن إيران تراقب مضيق هرمز بل تسيطر عليه، لاتضح جلياً أن هذه الميزة الاستراتيجية، لا تشكل في ظل غياب استراتيجية أمنية عربية بحرية، امتيازاً للعرب، بل إنها تكاد تنقلب عبئاً على أمنه، وليس أدل على ذلك من إقدام فرق الموساد على تنفيذ اغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في العاصمة التونسية بعملية لم تواجه عائقاً، في ظل غياب خطير حتى للحراسة البحرية العادية (دوريات الشاطئ) للدول العربية في بحر كبير الأهمية، كالبحر المتوسط...

وواقع الأمن المائي ـ بهذا المعنى العسكري ـ يعكس عجز الدول العربية على بناء استراتيجية عسكرية لحماية أمنها المائي من الأخطار التي تحدق به من جراء تواجد الأساطيل الدولية الضخمة وبسبب ما قد تحمله الحركة التجارية، لاسيما ما تعلق بتدفق النفط، عبر البحار والمحيطات من احتمالات تعرضها للخطر.

فليس ثمة شك في وجود علاقة عضوية وطيدة بين الأمن المائي والاستقلال الكامل، الاقتصادي والسياسي، فتحقيق الأول يسهم في ضمان تحقيق الثاني، كما أن فقدان الأول يؤثر موضوعياً في الثاني. إن دولة لا تستطيع تأمين ثروتها المائية من مخاطر التبذير وسوء التصرف اللاعقلاني في الداخل، ومن مخاطر السيطرة الخارجية على بحار ومحيطات يفترض أن تكون نقطة قوة لها هي دولة عاجزة عن ضمان أمنها الاقتصادي والغذائي. إن دولة لا تستطيع بناء سياسة بحرية دفاعية تؤمن حقوقها المائية، وترفع من درجة استعدادها الأمني لدرء الأخطار العسكرية البحرية هي دولة تعجز ـ تماماً ـ عن ضمان استقلالها السياسي، وحين تفقد الدولة قدرتها على تأمين الغذاء لشعبها ـ وحين يصبح مستعصياً عليها ـ بالتدريج ـ أن تستوعب الحاجات الاقتصادية المتزايدة بسبب فقدانها للحد الأدنى من السيطرة على ثرواتها فإن وجهتها عادة ما تكون هي الالتجاء للخارج للاستدانة مع ما يتبع ذلك من قبول منها ـ اضطراري ـ للتبعية والتخلي عن جزء من سيادتها، ويضعها، موضوعياً، تحت رحمة القوى الدائنة، وقد شهدنا كيف كانت الحياة السياسية لكثير من دول العالم الثالث تدار من حكومات الظل المرتبطة مباشرة بصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، بصورة تحولت معها البرامج والمخططات الحكومية إلى تنفيذ لتوصيات هذه المؤسسات المالية المدارة من عواصم الغرب الكبرى.

ومن هذا المنطلق يجب التنبه للأخطار الصهيونية المحدقة والمتزايدة، التي تدعونا للسؤال من أين يشرب 450 مليون عربي في الأعوام القليلة القادمة إذا استطاعت إسرائيل تنفيذ مخططاتها ولم تجد من يردعها عن غيها وغطرستها تلك؟! كما تدعونا لاتخاذ موقف عربي موحد وتوقيع اتفاقيات تضمن الأمن المائي العربي حتى نستمر بالحياة، فخطر شح المياه أشبه بالأسلحة الفتاكة التي تسعى إسرائيل لاقتنائها وتهديدنا بها.‏ ولابد من التحذير أن الوطن العربي مقبل على كارثة مائية بحلول عام 2020 في ظل المؤامرات الدائرة على منابع المياه وغياب استراتيجية عربية للحل.

لقد أظهرت العقود الأخيرة أن الأمن المائي أصبح مكوناً رئيسياً في منظومة الأمن القومي المتكاملة، فمتى يكون للعرب، دولاً وتجمعاً، استراتيجيتهم الواضحة للحفاظ على أمنهم المائي، وأمنهم القومي برمته؟!.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/نيسان/2013 - 30/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م