الثقافة... سلاح لا نتركه أرضاً

 

شبكة النبأ: عندما يأتي الحديث عن الثقافة، تقفز الى أذهان الكثير من الناس الصورة النمطية للحالة الثقافية متمثلة في الكتاب والشريحة المتعلمة في المجتمع، مثل المعلّم والاستاذ الجامعي والكاتب الصحفي والأديب.. بمعنى أن كل واحد من هؤلاء، عندما يسير في الشارع، فمعناه أن الثقافة تسير على رجلين..! أما بين عامة أفراد المجتمع، فان الثقافة مفردة غريبة لا يفقهها الكاسب والموظف والعامل والمهني وغيرهم.

هذه القطيعة التي طالما كتبنا عنها، وأشبعناها بحثاً ودراسةً عمن هو المسؤول: المثقف أم المجتمع، لم تسبب حالة الجهل والغفلة وحسب، إنما حصل الأخطر من ذلك، وفي مرحلة لاحقة، وهو استمراء الثقافة الوافدة، وعدّها النموذج والخيار الأفضل والأوحد، كما أن الثقافة السائدة في الغرب، هي أول ما تعرف عليه الانسان منذ الخليقة الاولى، فأخذ التقاليد والسلوك والفكر، ولم تكن هنالك رسالات سماوية مبشرة بمناهج حياة للأنسان، تمت واكتملت برسالة نبينا الخاتم صلى الله عليه وآله.

واعتقد أن المثقف وغير المثقف، مدعوون لقراءة بسيطة لخلفية الثقافة في الغرب، وحتى يزول العجب بوجود مفاهيم اسلامية وحضارية، مثل النظافة والنظام والتطور التقني والأبنية الضخمة والرائعة، والخدمات العامة، علينا معرفة السبب، وهي إن الانسان الغربي مارس الثقافة والفكر، قبل ان يضع يده في معامل الطائرات والسيارات والآلات الثقيلة، أو في مشروع بناء ناطحات السحاب والانفاق والجسور وغيرها، لذا جاء "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" المقتبس من الثورة الفرنسية عام 1789، قبل ان تشهد أوربا ما يسمى بالثورة الصناعية، التي امتدت الى سائر بلاد الغرب خلال القرن التاسع عشر، مثل اليابان والولايات المتحدة وكندا.. ثم لا ننسى أن بريطانيا التي خاضت الثورة الصناعية، بنجاح أكثر وأسرع من البلاد الاوربية لقوة اقتصادها، فانها كانت تمتلك برلماناً ونواباً وانتخابات ولو على نطاق محدود منذ القرن الرابع عشر، وهذه التجربة الديمقراطية كانت تقوم على أفكار ورؤى فلاسفة وعلماء كبار لديهم، أمثال "جان لوك"، و"ديكارت"، و"كانت"، وغيرهم، وهؤلاء هم الذين وضعوا النظريات السياسية والاجتماعية التي نجد آثارها واضحة وجليّة في تنظيم حياة المجتمع الغربي، في مقدمتها نظرية "العقد الاجتماعي" والحريات الفردية والحريات العامة. وهذا تحديداً ما يجعل الانسان الغربي – على الأغلب طبعاً- محبّاً للمطالعة والالتزام بالوقت والنظام وغيرها من المفاهيم التي بشّر بها الاسلام أولاً، وضيعها المسلمون فيما بعد.

ثم لنلاحظ ما الذي يأتينا من الغرب مع وسائل الاتصال السريعة، والسلع الاستهلاكية، وحتى في "افلام الكارتون"، التوجيه الثقافي المركز والهادف، نحو الميوعة واللاابالية تارةً، ونحو العنف والتوثّب والتوتر، لتكون الحالة الملازمة للانسان، تارةً اخرى. فهذا هو سلاح الغرب للهيمنة والنفوذ في البلاد الاسلامية، لإزالة ما تبقى من آثار الحضارة لدى المسلمين، من علوم وابتكارات وافكار ونُظم، فيكون التقدم العلمي والتقني وايضاً الحالة الثقافة الراقية لديهم، إنما هو غربي بامتياز خاص، ولا سرقة في الأمر.

في المقابل، نجد شعوبنا تبحث عن هويتها وحضارتها في المال والسلطة والسلاح، فالبلد الذي يتوفر على سيولة نقدية هائلة يكرم بها ابناءه مثل الكويت والامارات، وقطر، فانها بلاد ناجحة، وعلى بأس عليها، كما إذا توفرت القدرة العسكرية والمخابراتية مصحوبة بالمال السخي، مثل العراق، فانه ايضاً يمكنه أن يتباهى أمام نظرائه من الدول، بأنه يحظى بالاستقرار والنجاح. وهذا - باعتقادي – احد اسباب اصطدامنا بالفشل تلو الفشل في الامور التي ندّعي أننا نرتكز عليها ف تحقيق النجاح. لاحظ الانهيارات المالية في العقارات والمصارف والبورصات.. ثم لاحظة الانهيارات الأمنية والسياسية.. والامثلة كثيرة على ذلك.

ولا أدري؛ هل إن أهل الحكم أم أهل الثقافة، من جهلوا كون الثقافة تمثل الركائز الأساس لبناء المجتمع والأمة، وكل شيء يعلو ويقوم على هذا الأساس، فإذا قوياً و أميناً، حقق الأمن والاستقرار والسمو للبناء كله، والعكس بالعكس. وهذه الإضاءة يقدمها سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – دام ظله- في إحدى محاضراته، حيث يؤكد أن الثقافة لا تصنعها السياسة ولا المال ولا السلاح، كما لا يمكن لهذه القوى أن تقارع الثقافة.

وهذه رسالة الى من يهمه أمر الثقافة والفكر في المجتمع، أو يتحدث عن الاستقلال والمنعة أمام القوى الأخرى، ولمن يريد الثقافة الحقيقية التي تنسجم مائة بالمائة مع فطرة الانسان السليمة، ما عليه إلا العودة الى فكر وثقافة أهل البيت عليهم السلام، وبما انه يمثل منهجاً متكاملاً ورائداً ومضيئاً بإقرار مفكرين مسلمين وغير مسلمين، فإن سماحة المرجع الشيرازي يبدي حرصاً شديداً على أن يعمّ هذا النور وهذه الفائدة العظيمة، ليس فقط للمسلمين وحسب، وإنما لجميع سكان العالم. وهذا بالحقيقة يعكس بوضوح الرؤية الحضارية الخلاقة، حيث يقول: " أنّ هنالك الملايين من البشر محرومون من هذا النور".

من هنا يمكن القول: إن المسؤولية كبيرة وخطيرة في آن واحد.. لأننا لسنا أمام حالة بسيطة وظاهرة عابرة يمكن معالجتها، إنما نعيش جملة من الثقافات الخاطئة أو لنقل؛ المشوبة بالخطأ في واقعنا الاسلامي، في المجتمع والاقتصاد والسياسة والأمن، بل وحتى في الدين والعقيدة، وهو الأهم.. حتى نعرف ويعرف العالم، أن المفاهيم والقيم السائدة في الغرب، إنما معظمها مستوردٌ من الشرق المسلم، ولابد من إحياء هذه المفاهيم والقيم، لنستفيد منها نحن ايضاً، ثم نصل الى حد التكامل الثقافي والفكري، فنكون في موقع الصدارة أمام الشعوب والأمم بالعالم، وهذا لا من باب المثالية أو التوهّم بتاتاً.

نعم؛ جرّبت بلادنا هذه الصدارة أمام في العالم، عندما تمسكت بثقافتها ومبادئها بكل قوة وعزم وإيمان، حتى سالت من بين يديها الدماء في ثورات وانتفاضات باسلة.. فهذا المرجع والامام الراحل الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي – قدس سره- الذي قاد الجماهير العراقية الى الثورة على الاستعمار والتبعية والذل، في ثورة العشرين الشهيرة عام 1920 ضد الاستعمار البريطاني، يرفض دخول أحد جنرالات الجيش البريطاني الذي جاء الى كربلاء بعد انتهاء الثورة، والقصة يذكرها سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين"، بأن مدير بلدية كربلاء في ذلك العهد حاول إدخال هذا الجنرال الى دار الميرزا الشيرازي رغم الرفض الشديد منه، وعندما دخل فجأة – في قصة مفصلة- أطرق الميرزا الشيرازي برأسه الى الأرض، فبدأ الجنرال البريطاني بالكلام، فيما استمر الامام الراحل في صمته دون أن يرد عليه بكلمة، فكان الموقف ردّاً عنيفاً وقاسياً أغضب الجنرال البريطاني، وعندما خرج خائباً، توجه مدير البلدية الحافظ للمصالح البريطانية في المدينة المقدسة، بالكلام الى الميرزا الشيرازي وسأله عن سبب استقباله واستضافته، فيما رفضت استقبال ذلك الجنرال البريطاني، فكان الجواب: "أنت انسان مسلم، تشهدت الشهادتين، وقد احترمتك لهذا وإن كنت على الطريقة الخاطئة، بينما ذاك انسان كافر ومستعمر لبلادنا، فكيف احترمه واستضيفه.."؟!

اذا كنّا نتحدث بصدق عن الوطنية والاستقلال والحرية وغيرها من الشعارات الجميلة والمحببة للنفوس، علينا دفع ثمنها بكل ثقة، كما دفعها الميرزا الشيرازي – قدس سره- ومعه الآلاف من الثائرين والشرفاء والمخلصين من ابناء العراق الذين قدموا التضحيات الجسام، كما فعل ذلك ايضاً الاحرار في سائر البلاد الاسلامية، وهذا بالتحديد هو الذي أوقف البريطانيين، بما لم يكن يصدقون، وجعلهم يفكرون اكثر من مرة قبل ان يرفعوا خطوة واحدة نحو بلادنا الاسلامية. فاذا نجد استمرار الابتسامات والمجاملات والمساومات، فيجب أن يحجم الجميع؛ سواءً أكانوا في أروقة السياسة والدولة، أم كانوا في أروقة الثقافة والعلم، عن الحديث عن الاستقلال والحرية والنجاح والتقدم.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 6/نيسان/2013 - 25/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م