إفريقيا الوسطى من فرانسوا الى جوتوديا

بلد يسير الى المجهول

 

شبكة النبأ: تزداد الخشية من تردي الأوضاع الأمنية في جمهورية إفريقيا الوسطى التي أصبحت تحت سيطرة الجماعات المتمردة والتي استولت على العاصمة بانجي وأطاحت بالرئيس فرانسوا بوزيز وتعليق العمل بدستور البلاد، تلك التطورات الجديدة وبحسب بعض المراقبين ربما ستسهم بتأجيج الصراع الداخلي خصوصا وان دول الاتحاد الإفريقي لاتعترف بالحكومة الجديدة التي يقودها ميشال جوتوديا والذي أعلن نفسه رئيسا للبلاد، مؤكدين ان وصول المتمردين إلى السلطة سيهدد امن واستقرار المنطقة وخصوصا دول الجوار التي باتت تخشى من اتساع رقعة التحالف بين المجاميع المتطرفة بهدف الاستيلاء على بعض المناطق والمدن الإضافية الأخر، يضاف الى ذلك الخشية من نشوب حرب أهلية كبيرة داخل هذا البلد الذي يشكل البروتستانت45% من سكانه والكاثوليك 35% و المسلمين15% و 5% من الأرواحيين، غالبيتهم ينحدرون من الشمال الذي ينطلق منه التمرد، يضاف الى ذلك. وقد تعايشوا على الدوام بدون مشاكل تذكر.

وفي هذا الشأن قال متحدث باسم المتمردين في جمهورية إفريقيا الوسطى إن زعيم متمردي سيليكا تعهد بتشكيل حكومة لاقتسام السلطة بعد ان استولى على العاصمة بانجي وأعلن نفسه رئيسا. وسارعت الامم المتحدة والاتحاد الافريقي الى التنديد باستيلاء ائتلاف متمردي سيليكا على السلطة في خطوة هي الاحدث في سلسلة انقلابات وتمردات منذ استقلال البلاد عن فرنسا في عام 1960 .

ودعت الولايات المتحدة وفرنسا وتشاد زعيم المتمردي ميشال جوتوديا الى احترام شروط اتفاق اقتسام السلطة الذي تم توقيعه في ليبرفيل عاصمة الجابون في يناير كانون الثاني. وأدى الاتفاق الى تشكيل حكومة تضم متمردين ومعارضين مدنيين وموالين للرئيس السابق فرانسوا بوزيز وكان يتزعهها رئيس الوزراء نيكولاس تيانجايا وهو محام سابق وعضو بالمعارضة المدنية.

وقال اريك ماسي المتحدث باسم متمردي سيليكا "سنحترم اتفاق ليبرفيل: انتقال سياسي يستمر عامين أو ثلاثة أعوام قبل الانتخابات." وأضاف "رئيس الوزراء الحالي سيبقى في منصبه وسيجري تعديلا وزاريا طفيفا على الحكومة." وقال ماسي ان الهدوء ساد العاصمة وان كان المتمردون مازالوا يسعون الى احتواء أعمال النهب المتفشية منذ سقوط بوزيز.

واتهم متمردو سيليكا وهو ائتلاف فضفاض من خمس جماعات متمردة بوزيز بانتهاك الاتفاق بعدم اتخاذه خطوات لإدماج مقاتليهم في الجيش. وبدأ المتمردون في القتال وتقدموا بسرعة للاستيلاء على العاصمة متجاهلين قوة جنوب افريقيا المكونة من 400 جندي التي حاولت الدفاع عن بانجي.

الى جانب ذلك تعهد قادة جيش جمهورية أفريقيا الوسطى بالولاء لميشال جوتوديا وقال موريس نتوسي القائد في قوة حفظ السلام الافريقية في جمهورية افريقيا الوسطى والذي حضر الاجتماع "أراد ضباط الجيش (الوطني) السابق الاجتماع بالرئيس جوتوديا لإبلاغه بأنهم يعترفون به رئيسا جديدا." وأضاف "كل القادة السابقين للشرطة والدرك وقائد القوات المسلحة وغيرهم من كبار الضباط حضروا الاجتماع. كان هذا شكلا من أشكال الاستسلام."

في السياق ذاته قال رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى الجديد ميشال جوتوديا إن حكومته ستراجع عقود التعدين والنفط التي وقعت في عهد الحكومة السابقة وتعهد بالتنحي عند إجراء الانتخابات في عام 2016. ولدى سؤاله بشأن تراخيص النفط والتعدين التي منحها الرئيس المخلوع فرانسوا بوزيزي لشركات صينية وجنوب افريقية قال جوتوديا "سأطلب من الوزراء المعنيين النظر فيما إذا كانت الأمور سارت بشكل سيء في محاولة للتدقيق فيها (العقود)."

وأضاف جوتوديا أنه سيطلب من فرنسا القوة الاستعمارية السابقة والولايات المتحدة المساعدة في إعادة تدريب جيش افريقيا الوسطى الذي يفتقر إلى الانضباط ويعاني من انخفاض الروح المعنوية وأطاح به مقاتلو تحالف سيليكا المتمرد بسهولة. وقال متحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إن الوزارة لم تجر أي اتصال مع المتمردين وتدين استيلائهم غير القانوني على السلطة. وأضاف الميجر روبرت فيرمان المتحدث باسم الوزارة قائلا "ندعو جميع الأطراف المعنية بالالتزام باتفاقيات ليبرفيل والعمل على إيجاد حل لهذا الصراع."

وقال جوتوديا "سنعول على الاتحاد الأوروبي لمساعدتنا على تنمية هذا البلد" مضيفا أن حوالي 80 بالمئة من المساعدات الأجنبية لبلاده تأتي من الاتحاد. وتابع "عندما تعثرنا وقف الاتحاد الأوروبي بجانبنا. لن يتخلى عنا الآن." وتعكس تصريحات جوتوديا على ما يبدو عدولا عن مسار سلفه بوزيزي الذي أقام علاقات وثيقة مع جنوب إفريقيا ووقع معها اتفاقية دفاع مشترك جديدة في يناير كانون الثاني.

وإطاحة ائتلاف متمردي سيليكا ببوزيز انتكاسة أخرى لجهود تبذل في افريقيا لوضع أسس راسخة لحكم دستوري يتوائم والنمو الاقتصادي المنتعش في القارة وسط اقتصاد عالمي مضطرب. وما حدث محرج للغاية لجنوب افريقيا التي تسعى للظهور في صورة القوة الاقليمية ذات النفوذ في القارة ومنيت قوات جنوب افريقيا الموجودة في افريقيا الوسطى بموجب اتفاقية للتعاون الدفاعي بخسائر في الارواح أثناء قتالها في صفوف القوات الحكومية في محاولة فاشلة لمنع المتمردين من دخول بانجي والابقاء على بوزيز في السلطة.

ولم تحظ افريقيا الوسطى باهتمام استراتيجي مثل دول افريقية أخرى كمالي والصومال أو شرق الكونجو لكنها تعمق دون شك جرحا سببه انعدام الاستقرار في قلب قارة ينمو اقتصادها. وترجع بعض جذور هذه المشكلة إلى تاريخ استعماري من العزلة والاهمال. وبعد الاستقلال في عام 1960 تفاقم الوضع اثر وقوع انقلابات وتمرد دام وتدخل عسكري فرنسي وحكم واحد من أغرب المستبدين في العالم وأكثرهم بذخا وهو جان بيدل بوكاسا الذي أطلق على نفسه اسم الامبراطور بوكاسا الأول.

وبوزيز رجل دولة قوي وعسكري مخضرم كان جنرالا في "إمبراطورية" بوكاسا بين عامي 1977 و1979 ثم استولى على السلطة في انقلاب عام 2003 قبل أن يفوز في انتخابات جرت عام 2005 . وأطلق بوزيز ما عرف باسم الحوار السياسي الشامل مع خصومه المتمردين في عام 2008 . لكن بوزيز فشل في تحقيق تقاسم حقيقي للسلطة وأعقب ذلك انتخابه مرة أخرى في انتخابات متنازع عليها عام 2011 قاطعتها المعارضة بسبب مزاعم بالتزوير مما أدى بشكل مباشر إلى هجوم ائتلاف سيليكا الذي يضم خمس جماعات تمرد مسلحة.

وكان مقاتلون من ائتلاف سيليكا وتعني هذه الكلمة "تحالف" في لغة السانجو المحلية قد اقتربوا من بانجي في ديسمبر كانون الأول وأجبروا بوزيز على قبول اتفاق لتقاسم السلطة بحلول منتصف يناير كانون الثاني وتشكيل حكومة وحدة وطنية. لكن المتمردين أنهوا اتفاق وقف إطلاق النار متهمين بوزيز بأنه نكث وعدا قطعه بإخراج قوات جنوب افريقيا من البلاد وإدماج ألفي متمرد في الجيش.

وقالت لويزا لومبارد الاستاذة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي والتي درست حركات التمرد في افريقيا الوسطى "ثمة إحباط أخذ ينمو وينمو من طريقة بوزيز في الحكم وهي غير حاسمة." ويشير الخبراء إلى غياب التنمية الاقتصادية وافتقار الحكومة للسيطرة على كامل البلاد بصفتهما من العوامل الرئيسية للاستياء والثورة في بلد مساحته أكبر من مساحة فرنسا قليلا ويعيش فيه 4.5 مليون نسمة.

ويعد هذا إرثا يعود للحقبة الاستعمارية عندما كانت البلاد واسمها في التاريخ اوبانجي تشاري منطقة نائية ومهملة بين مستعمرتين فرنسيتين أكثر تقدما هما تشاد والكونجو برازافيل. وفي السنوات الاخيرة أصبحت الحدود الممتدة لافريقيا الوسطى مضطربة ولا تحظى بالحماية وكان مهاجمون مسلحون من تشاد والسودان وجمهورية الكونجو الديمقراطية يعبرون بحرية لمهاجمة القرى وسرقة الحيوانات وانضموا إلى عصابات محلية.

ووصفت برقية دبلوماسية أمريكية صادرة من بانجي وتعود لعام 2009 جمهورية افريقيا الوسطى بأنها "دولة لها حدود على الخريطة لكنها تفتقر إلى سيطرة فعالة للدولة على أراضيها." ووصفت المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات ومقرها بروكسل البلاد بأنها "دولة  شبح" في عام 2007 . وبعد سقوط الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية في افريقيا في عام 1960 أصبحت جمهورية افريقيا الوسطى الدولة التي تدخلت فرنسا فيها عسكريا أكثر من أي دولة أخرى في افريقيا بعد الاستقلال.

وأصبح الجنود الفرنسيون الذين يعرفون محليا باسم "باراكودا" بعد عملية باراكودا الفرنسية في عام 1979 والتي أطاحت ببوكاسا من السلطة يضعون زعماء افريقيا الوسطى في السلطة وساعدوا على قمع حركات تمرد وعصيان. وحتى عامي 2006 و2007 ساعدت طائرات ميراج فرنسية القوات الحكومية على صد المتمردين في منطقة الشمال الشرقي المضطربة.

وبدأت فرنسا تدخلا عسكريا كبيرا في مالي بمنطقة الساحل في يناير كانون الثاني لطرد متمردين إسلاميين تربطهم صلات بتنظيم القاعدة لكن الرئيس الفرنسي فرانسوا اولوند أوضح أنه لا ينظر إلى الانتفاضة على بوزيز بنفس الطريقة من الناحية الاستراتيجية. ورغم مناشدات بوزيز لمساعدة "أبناء عمومتنا" باريس وواشنطن فإن فرنسا أصرت على أن قواتها التي تقدر ببضع مئات في افريقيا الوسطى هي لحماية الرعايا الفرنسيين والمصالح الفرنسية فحسب وليس الحكومة المحلية. وقالت فرنسا إنها سترسل المزيد من القوات إلى بانجي لحماية أكثر من ألف فرنسي في البلاد.

وبالنسبة لمراقبي جمهورية افريقيا الوسطى منذ فترة طويلة فإن اشتعال الثورة جاء نتيجة فشل عملية السلام عام 2008 والتي استهدفت تشكيل حكومة حاسمة. وقال السفير الأمريكي فريدريك بي كوك في برقية دبلوماسية كتبها عام 2009 وكشف عنها موقع ويكيليكس "حدث تعديل بسيط وأسندت وزارات غير مهمة لشخصيات في المعارضة لكن لا يمكن اعتبار النتيجة اتفاقا حقيقيا لتقاسم السلطة."

وكان كوك الذي ترك العمل الدبلوماسي الامريكي منذ ذلك الحين صريحا في تقييمه لبوزيز الذي وصفه بأنه "زعيم دولة فاشلة" وقال إنه يرأس "حكومة لصوص" وفقا لبرقيات أخرى تعود لعام 2009 . وتفاقم الشعور بالاقصاء بين خصوم بوزيز بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في عام 2011 والتي أسفرت عن انتخاب بوزيز وحزب كوا نا كوا الذي ينتمي إليه بفترة أخرى في السلطة في ظل مقاطعة المعارضة للانتخابات.

وذكر تقرير داخلي للمفوضية الأوروبية إن مرشحي المعارضة في افريقيا الوسطى تعرضوا "للتهميش" وتوقفت إصلاحات أمنية مدعومة من الخارج وخطط لنزع سلاح المتمردين وتسريحهم مما أجج جذوة التمرد في البلاد. ولا يزال بوزيز شخصية مشاكسة اشتهر خلال حكم بوكاسا الذي تولى السلطة في انقلاب عام 1966 .

ووفقا لكتاب صدر عام 1997 بعنوان "العصر المظلم الأوديسا السياسية للامبراطور بوكاسا للمؤرخ برايان تيتلي فإن بوكاسا قام بترقية بوزيز من رتبة ملازم ثان إلى جنرال بعدما ضرب فرنسيا أظهر عدم احترام للرئيس. وتوج بوكاسا نفسه امبراطورا لافريقيا الوسطى عام 1977 في مراسم بتكلفة 22 مليون دولار مولتها فرنسا وكانت من مظاهر البذخ في البلد الافريقي الفقير.

وقال تيتلي إن الامبراطور أمر بوزيز وجنرالا آخر يدعى جوزيفات مايوموكولا والحرس الامبراطوري بقمع احتجاجات قادها الطلاب عام 1979 . وقتل عشرات الاشخاص في ضواحي بانجي الفقيرة. وقضى الاعتقال ومقتل تلاميذ في السجون خلال هذه الاحتجاجات على علاقة بوكاسا بفرنسا أكبر داعميه مما أدى إلى قراره طرد القوات الفرنسية عام 1979 .

وبعد ثلاثين سنة يقول متمردو سيليكا الذين أطاحوا ببوزيز إنهم يسعون لترتيب محادثات وطنية وانتقال إلى انتخابات ديمقراطية. لكن هناك تساؤلات حول قدرة هذا على وقف دائرة انعدام الاستقرار في جمهورية افريقيا الوسطى. والمتمردون الذين حلوا محل بوزيز هم أنفسهم منقسمون ومتنوعون بين زعماء ميليشيات في الأدغال وسياسيين في المنفى. وقالت لومبارد "ما يوحد الجميع هو كراهية بوزيز لكن هل سيكون هذا كافيا لتوحيد صفوفهم؟ هذا سؤال يحتاج لإجابة."

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 4/نيسان/2013 - 23/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م