العراقيون... وتحديات ما بعد الاحتلال

علي الأسدي

واجه العراقيون الكثير من المحن خلال العقود الخمسة الماضية، كانت حقبة الحرب وحكم البعث الصدامي أشدها ايلاما، وبدا للكثير من العراقيين أن المحظوظين فقط من تمكن أن يمسح من ذاكرته تلك الحقبة السوداء من تاريخ العراق. لكن لا أحد كان بامكانه أن ينسى أو يتناسى ذلك، بل حتى أولئك الذين عانوا من ارهاب الغوغاء الطائفي في السنين الأولى من احتلال العراق لم يكن لهم المبرر لنسيان الارهاب الصدامي.

فالنظام الصدامي سعى الى مسخ الشخصية العراقية وحاول تحويل اعضاء حزبه ومرتزقته الى أدوات لمؤسساته الديكتاتورية بعد ان جردها من الشعور بأدميتها، كما حاول تحطيم معنوية المواطن العادي ليشكل منه كائنا معاقا فكريا ومريضا نفسيا. لكن مع سقوط صدام كرمز للتوحش والخوف تحررت الشخصية العراقية من سجنها الذاتي الذي سكن العراقي من الباطن، كما حررها من السجن الأوسع الذي يمتد لجهات العراق الأربع وجهات العالم الأربع. فهل يعيد التاريخ نفسه في شخصية صدامية جديدة، وهل يسمح العراقي لذاته ان تعود للسجن من جديد بعد كل تلك التضحيات..؟

لم يكن النضال ضد الديكتاتورية الصدامية سهلا، بل كان شاقا وباهظ الثمن، كلف أبطاله حياتهم توزعت بين ساحات الاعدام والتعذيب في السجون والتهجير الاجباري من الوطن والتغييب والحروب أو الاختفاء بعيدا عن عيون السلطة الغاشمة الى أجل غير مسمى. اما الذين ضاقت بهم الحياة في الوطن أو تقطعت بهم سبل العيش وكانوا قادرين على الافلات فقد هاجروا الى نهاية العالم، ومع الحسرة لم تتكحل عيون بعضهم برؤية الوطن مرة أخرى.

البعض الذي عاد من المهجر متفائلا بعد سقوط الصنم احتفل بالحرية والديمقراطية على ضوء الشموع، وانتظر مع أبناء شعبه مرارة الأمل بغد أجمل وأكثر عطاء واستقرارا خاليا من الخوف. أما الآخر الذي اعتاد على حياة الدعة في الديمقراطيات العريقة فلم تكن له قدرة التعايش مع واقع العراق الجديد بديمقراطيته النامية المتعثرة فانتهى به المطاف مغتربا ثانية، وهذه المرة مخيرا لا مرغما.

عراقيو مابعد سقوط النظام ورثوا كارثتين، أولها الخراب الذي تركته الصدامية، وثانيها خراب الحرب والاحتلال. لكن وبرغم كل ما جرى خلال تلكما الحقبتين يضع الشعب العراقي اليوم الماضي وأحداثه جانبا، بينما يوجه اهتمامه وآماله صوب المستقبل، فضمد جراحه فاتحا ذراعيه لسجانيه السابقين، متفائلا بمستقبل أفضل.

فللمرة الأولى منذ حوالي الأربع عقود يمارس شعبنا بحرية كاملة ودون خوف التعبير عن آرائه في السياسات الحكومية الداخلية التي تخص حياته اليومية، فيوجه النقد عند الضرورة لمختلف مجالات نشاطها. بنفس الوقت والى جانب وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والصحافة يمارس البرلمانيون دورهم المنوط بهم، وبرغم ما يشوب عملهم من نواقص فهو يشكل ضمانة لا غنى عنها لمراقبة كافة نشاطات السلطة التنفيذية، وتقييد ومعارضة اجراءاتها غير الدستورية.

والجانب الايجابي في الحياة السياسية العراقية أن كل هذا يتم بحرية كاملة دون ضغوط من جانب أجهزة الأمن تهديدا أو قمعا لممارسي هذا النشاط، وهي بلاشك ظاهرة صحية غير مسموح بها في الكثير من البلدان المجاورة، اضافة الى كونها غير معقولة أو متصورة تحت حكم النظام الصدامي. برغم ذلك سنحتاج بعض الوقت لنرى مزيدا من النجاح في عمل مؤسساتنا الاعلامية المستقلة والسلطة التشريعية.

وما يقال في الصحافة العراقية عن ديكتاتورية جديدة في طور النمو، هو أحد ايجابيات الحرية الصحفية، بل هو تعبيرا عن نجاح للسلطة الرابعة، فالحديث حول موضوع الديكتاتورية تتناقله وتتناوله الصحافة العراقية بالنقد والتحليل بكل حرية. وبنفس الوقت يثبت النظام البرلماني هو الآخر بعض النجاح في المجال نفسه. فخلال العهد الديكتاتوري المقبور نظر للصحافة والبرلمان باعتبارها أدوات دعائية لتجميل وجه الديكتاتور، وتقديمه للداخل العراقي وللعالم الخارجي بكونه مثالا للديمقراطية.

الكتابة عن الأداء الحكومي ايجابيا، غير الكتابة عن الحريات الديمقراطية ايجابيا، ومع الفارق فان الكتابة ايجابيا عن الحكومة في الثقافة السياسية العراقية غير مقبول في الغالب، وهي ظاهرة موروثة من العهد الصدامي. ففي تلك الحقبة السوداء كان كتاب كثيرون يسبحون بحمد النظام أما لكونهم موظفين لهذا الغرض لتلميع وجهه، أو كونهم انتهازيين وتجار سياسة ومواقف.

في العهد الحالي وبعد تلاشي الديكتاتورية للكاتب كامل الحرية في الذم أو النقد البناء أو الاشادة مدفوعا بقناعته بصواب الموقف السياسي للحكومة أو أحد مسئوليها من قضية ما. المعارضة في التقاليد الشائعة العراقية كونها موقفا وطنيا، وهذا المفهوم صحيح في حينه عندما كانت الحكومة في الجانب الخطأ، ونحن في المعارضة وقفنا ضد ذلك الخطأ بالمطلق، ومن يحاول التخفيف من الموقف يتهم بالمساومة ويسقط سياسيا.

لكن عهد الديكتاتورية قد ولى بعد أن تحرر العبيد من ربقته، وعلى أحرار اليوم سيعتمد انجاح المشروع الديمقراطي أو فشله، فسوء الادارة وضيق الأفق والفساد المالي تبقى العدو اللدود للتقدم والتنمية الاقتصادية، فيما تعمل النزاهة وطول النفس على إدامة زخم الاندفاع نحو النجاح والتطوير، وهو ما يجب العمل من أجله في مرحلة الانتقال الحساسة هذه. وما دمنا نستطيع التعبير عن مواقفنا دون خوف فلا يجب أن نخشى النقد أو الاشادة بموقف حكومي من قضية سياسية داخلية أو خارجية نعتقد بصوابها.

وفي تجربة شخصية لي واجهتني قبل فترة من الزمن، كتبت لصديق لي يعيش في السويد عن ظاهرة انتشار استخدام التلفون النقال وظواهر أخرى. لقد جلب انتباهي في السنوات الأخيرة ان الخبازة التي تسكن سقيفة في الجوار تتصل بنا ونتصل بها عبر التلفون النقال عند حاجتنا لمزيد من الخبز، ونفس الوضع مع منظفة المنزل فالمواعيد معها تتم عبر الجهاز النقال، ونفس الحال ينطبق على سائق التاكسي. كما كتبت له عن ظاهرة انتشار استخدام السيارات الجديدة بأعداد هائلة في شوارع بغداد، بعد ان كان من الصعب ان تجد سيارة حديثة في الشارع اذا لم تكن لأحد المقربين من النظام، بينما كانت ظاهرة السيارات القديمة من موديلات الستينيات هي السائدة سواء لسيارات الأجرة أو الخاصة، استمرت هذه الظاهرة حتى عامي 2004و2005، وهو مؤشر على تحسن نسبي في القوة الشرائية.

القدرة الشرائية تحسنت كثيرا بعد إلغاء قرارات العقوبات وزيادة مبيعات النفط التي لولاها لم يكن بمقدور رجل التاكسي والخبازة ومنظفة المنزل ومواطن الطبقة الوسطى من حيازة التلفون النقال أو حيازة سيارة حديثة. رد علي ذلك الصديق بجملة بسيطة واحدة " لقد أصبحت دعوجي "، وانهى صداقة عمرها حوالي العشرين عاما. وهذا ما قصدته بعدم تخلص البعض من ثقافة المعارضة المطلقة حتى وان تغير النظام وأصبح لنا أكثر من حكومة تباشر سياسات مختلفة جذريا عن الحكومات الصدامية.

الديمقراطيات العريقة في البلدان الصناعية في أوربا والقارة الأمريكية الشمالية استغرقت قرونا قبل أن تستكمل الأسس التي تقوم عليها حاليا. فالديمقراطية في العراق مازالت كالفاكهة التي لم تنضج بعد، نتفحصها كل يوم للتأكد فيما اذا حان موعد قطافها. هي كالطفل الذي ما يزال يحبو، سنحتاج بعض الوقت لنهنأ برؤية خطواته الأولى وسماع أولى ما ينطق به من كلمات. فمهمة رعاية الديمقراطية تقع على عاتقنا، هي مهمة كل فرد في المجتمع العراقي، وتوجيهنا النقد لممارسيها حكومة كانت أو أعضاء برلمان هو جزء عضويا من التقاليد الديمقراطية، وهو الذي يبقيها حية ويعزز مؤسساتها ويردع متجاوزي قواعدها.

الحرب على العراق قد اسقطت الديكتاتورية، لكنها بنفس الوقت أسقطت الدولة وحولت أعراس الناس بسقوط الديكتاتور الى مآتم وأحزان، وسالت الكثير من الدماء والدموع نتيجة سوء الإدارة والتصرف. وحتى لا يذهب كل ذلك هباء ينبغي تعزيز دولة ما بعد الديكتاتورية، والسير بها قدما الى الأمام وإعادة بناء مؤسساتها المدنية، وترسيخ الحقوق الانسانية الفردية والمجتمعية في صياغات قانونية دستورية ملزمة للفرد والمجتمع ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية على حد سواء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 4/نيسان/2013 - 23/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م