توماس هوبز وجدل الحرية

حاتم حميد محسن

يعتبر توماس هوبز وبلا شك أعظم مفكر سياسي حديث كتب في اللغة الإنجليزية. لم يشغل هوبز كل وقته للتفكير بموضوعات السلطة والسيادة.

هذا الرجل الخجول والعنيد، الذي توفي عام 1679 عن عمر يناهز الـ 91 عاماً خصص العقدين الأخيرين من حياته محاولاً تحقيق شيء ما لم ينجزه أحد من قبل.‏

‏كان هوبز درّس الرياضيات لملك إنجلترا تشارلز الثاني حين كان في باريس عام 1646، وهو من أكثر المفكرين الإنجليز الذين عوملوا باحتقار، ولم يكن له مدافعين في بلده حتى بعد مرور قرن على وفاته. في القارة الأوربية كانت سمعة هوبز جيدة نوعاً ما، أما في بلده فكانت عكس ذلك. اعتقد البعض أن حريق لندن الكبير عام 1666»1»، وانتشار مرض الطاعون الأسود قبل الحريق بسنة، إنما هو عقوبة من الله لإنجلترا بسبب تسامحها مع شرير عاق مثل «هوبز». وبعد أسابيع من الحريق الكبير بدأت لجنة برلمانية النظر في الكتب التي تميل إلى الإلحاد، بالأخص كتاب هوبز «ليفاثان». أدرك هوبز أن بعض الأساقفة يريدون قتله فقام بإتلاف العديد من أوراقه الخاصة. وهو السبب الذي جعل أعمال وحياة هوبز موضوعاً شائكاً للدارسين.‏

لماذا صنع هوبز كل هؤلاء الأعداء؟‏

تتحدث مجلة الإيكونومست البريطانية في عددها ليوم 6 تشرين أول 2012 عن الموقف السياسي لهوبز، فتذكر أنه مارس التحريض في كتاباته ضد التعليم الكنسي والأرسطي المتبع في الجامعات. هاجم أيضاً الثيولوجيين الذين اتهمهم بمبالغتهم في معرفة الله أكثر مما يمكن أن يكتشفه العقل المعرض للفناء. سعى هوبز لحشد التأييد لتقليص سلطات الكنيسة، وقد رأى ضرورة حل النزاعات الدينية فقط عبر الجهات السيادية في كل دولة. فوق كل ذلك كانت المادية العلمية لهوبز هي التي جعلت منه لعنة. هوبز اعتبر الطبيعة ماكينة، لكنه ذهب بهذه الفكرة بعيداً حين أكّد بأن كل شيء هو مادي مطلق، ولا شيء عدا ذلك. من بين ابتكارات هوبز إلى جانب المادية الحديثة المضادة لمادية ديموقريطس القديمة كانت رؤيته للحكومة. فلسفته السياسية كانت مضادة لليوتوبيا، فهو بدلاً من أن يصف المجتمع المثالي كما فعل أفلاطون في الجمهورية، نجده يؤكد على رعب العالم الفوضوي، فيه يُترك كل فرد للدفاع عن نفسه والنتيجة ستكون خوفاً دائماً وموتاً مروعاً، حيث حرب الجميع ضد الجميع. ولكي نتجنب كل ذلك يجب على الإنسان التخلي عن حقه الطبيعي في الدفاع الذاتي لتتولاه سلطة سيادية ذات صلاحيات واسعة تتجسد بالملكية المطلقة، وأي شيء أقل من ذلك سيقود إلى نتائج مروعة.‏

خاض هوبز جداله مع خصمه الرياضي والكاهن John Wallis وهي الرغبة التي كانت تنسجم مع اهتمامات هوبز. كان هوبز خائفاً وحذراً في جميع تعاملاته اليومية، وهو أيضاً كان عقلانياً صلباً امتلك الثقة العالية بقوة العقل «خاصة عقله هو» في حل المعضلات الإنسانية القديمة. وعن خلافاته مع ولز أعلن هوبز: «إما أنا وحدي مجنون، أو أنا لست مجنوناً، ليس هناك خيار ثالث ما لم نكن «مصادفةً» كلانا مجنونين».‏

كان هوبز شديد الإعجاب بالرياضيات بسبب ما تقدمهُ من يقين. فالنظريات الرياضية حسب رأيه واضحة ولا تقبل الجدل، والشيء ذاته ينطبق على مبادئ السياسة. وفي مقطع استشهد به «Noel Malcolm» في مقدمة الطبعة الجديدة لكتاب «Leviathan»، يرى هوبز أن التجربة الإنسانية أقل أهمية من إدراك المبادئ الأساسية عندما يُراد حكم البشرية، فمثلاً «مهارة خلق الثروات العامة والحفاظ عليها، تتألف من قواعد محددة، تشبه قواعد الحساب والهندسة، ولا تعتمد على الممارسة وحدها كما «في لعبة التنس» حيث القواعد لا يحصل من خلالها الناس الضعفاء على المتعة، ولا الناس الذين حصلوا على المتعة امتلكوا الفضول أو طريقة اكتساب المعرفة».‏

أما ميكافيلي الذي كتب قبل ذلك بقرن، يرى أن أفضل وسيلة لفهم السياسة هي عبر دراسة التاريخ. في المقابل، يرى هوبز أن الحكومة هي علم استنتاجي ينتقل من البديهيات الثابتة إلى الاستنتاجات القوية. كل من يتمكن من إدراك عناصر هذا العلم يمكنه تطبيقه على المواقف السياسية الملموسة ولكن لا أحد تمكن من ذلك كما هو هوبز ذاته. يذكر مالكولم «أن المسألة الهامة في النظرية السياسية المجردة لهوبز كانت إيجاد نصيحة في كيفية الحفاظ على السلطة السيادية، وهي النصيحة التي كان مؤلف تلك النظرية هو الأجدر بتقديمها».‏

النزعة التشاؤمية‏

عُرف هوبز برؤيته السوداء للطبيعة البشرية ولكن الأكثر إثارة فيه هو إيمانه بأن المشاكل السياسية على- الأقل من حيث المبدأ – يمكن حلها بسهولة. في «دولة الطبيعة» تجد البشرية ذاتها في صراع وحشي لا يمكن معه الحفاظ على أي صناعة أو فنون متحضرة. لكن هوبز يدرك بوضوح طريقة الخروج من هذا المأزق. كل ما هو مطلوب هو قراءة هذا الكتاب وتطبيق ما جاء فيه من دروس من جانب الحاكم المفكر: «أنا أستعيد بعض الأمل، في وقت ما، كتاباتي هذه ستقع في أيدي صاحب السيادة، الذي سيعتبرها هي ذاته.. وبممارسة كامل السيادة.. تتحول حقيقة التأمل هذا إلى منفعة تطبيقية».‏

إن اجتماع النزعة التشاؤمية لهوبز حول الطبيعة الإنسانية مع الثقة العالية بإمكانية تحسين الظروف الإنسانية حين تصغي السلطة لصوت العقل، وضع هوبز في مرحلة متميزة من الفكر الحديث – فكر التنوير الأوربي المبكر. وعلى عكس الأفكار الشائعة، لم يكن مفكرو التنوير متفائلين دائماً حول المستقبل. أنصار التنوير في الفترة الأخيرة ينظرون إلى التاريخ كقصة للتقدم المستمر يصل ذروته ببلوغ الحكمة المتعالية، ولكن هوبز كان مدركاً تماماً بأن المكاسب المعنوية والسياسية لجيل معين ستختفي في الجيل اللاحق. هو لم يشك أبداً بوجود الطريقة العقلية التي تنقذ البشرية من أسوأ أنواع الصراع. إن البشرية ولكي تخلق السيادة يجب أن تتعاقد مع السلطة للقيام بكل ما يضمن السلام، بما يمكّن البشرية من الحفاظ على الحياة في دولة الطبيعة- حيث الحياة المنعزلة، الفقيرة، المقرفة، الوحشية والقصيرة- والتمتع بوسائل الحياة المريحة».‏

آراؤه السياسية‏

وبما أن هوبز ليس لديه اهتمام بالحرية أو الديمقراطية ذاتها، فهو يمكن اعتباره أكبر ممثل للاستبداد التنويري. وعلى عكس الأحاديث السخيفة الدارجة حول «قيم التنوير الليبرالية» فإن التنوير كان دائماً ينطوي على تيار مؤثر للتفكير الاستبدادي- التيار الذي ضم المفكرين المحدثين مثل «جيري بنهام» و»اوكست كومت»، إلى جانب القادة السياسيين مثل لينين وأتاتورك. هوبز ينتمي إلى هذا التيار ولكن جزءاً من عظمته كمفكر هو أيضاً كان يُنظر إليه كمؤسس لليبرالية. أشهر محققي هوبز في القرن العشرين – أمثال الماركسي ماكفيرسون، وليو ستراوس والمحافظ المشكك ميخائيل اوكشوت اعترفوا بأن هوبز أكثر من أي مفكر آخر، كان الأب للعقيدة الأصولية لليبرالية الحديثة – العقيدة بعدم وجود أي حق ديني أو طبيعي للحكم. الفكرة بأن هوبز ليبرالي تبدو محيرة طالما نحن نتشبث بالرؤية التاريخية الضيقة بأن القيم الليبرالية هي في الجوهر تتعلق بحق الإنسان في الحرية. بالنسبة إلى هوبز وُجدت الحكومات فقط لتحمي رعاياها، ولهذا السبب الحكام غير مجبرين على احترام أي من الحريات التي نعتبرها اليوم مكملة لليبرالية. السيادة الهوبزية يمكنها أن تكبح شرعاً حريات العقيدة والتعبير طالما كان ذلك ضرورياً للحفاظ على السلام.‏

الليبراليون اليوم ربما يُصابون بالدهشة حين يرفض هوبز أي مُثل للحرية العالمية. الليبراليون اليمينيون ينتابهم الذعر عندما يقف عدد كبير من الناس لدعم الأنظمة الاستبدادية، محاولين توضيح الحقيقة عبر الإشارة إلى فساد الانتخابات. هوبز لن يحتاج إلى المراوغة حين يؤمن بحقيقة أن الإنسان يحتاج دائماً إلى الأمن قبل حاجته إلى الحرية.‏

في تعليق له على الطبعة الجديدة لكتاب هوبز ذكر الكاتب «جون جري» في مجلة The New Statesman في أيلول الماضي أن هوبز يرى مهمة الدولة هي لتعزيز السلام، وليس لأجل الفضيلة أو لخلاص الإنسان. هذه الرؤية للحكومة تترك مجالاً واسعاً للحرية لأنها تمنع الحكام من استعمال سلطتهم في تكريس أي رؤية للحقيقة أو الخير على حساب أمن رعاياهم. ولنفس السبب، إنها تمنع الحكومات من التصرف كمبشّر للحرية. وحينما تقودنا الحكومات إلى حالة الحرب الدائمة لأجل المثل الغامضة للتحرر العالمي، فإن رؤية هوبز هذه لم تعد ملائمة.‏

الخطأ الذي وقع فيه هوبز كان في اعتقاده بأن السلام يمكن تحقيقه بتطبيق طريقة لا تقبل الخطأ ومن النوع السائد في الهندسة. وبينما أدرك ميكافيلي أن بناء الدولة يعتمد كثيراً على الحظ أو المصادفات المستعصية للتاريخ- كما هو الحال في مهارات الحاكم، نجد هوبز كان متأثراً بالوهم الأساسي للتفكير التنويري. حين اعتقد هوبز أن معضلات الأخلاق والسياسة هي بالأساس قابلة للحل فقط حينما يطبق الإنسان العقل، يكون قد فرز وفق رؤيته للأشياء جميع تلك الميول التي لا تتناسب مع نظريته. الحماس الديني، البطولات الانتحارية، وممارسة العنف لأجل العنف، كلها كانت أشكالاً للجنون يمكن للحاكم الذكي مسترشداً بمبادئ هوبز التغلب عليها.‏

سعت الطبعة الجديدة لـكتاب «ليفاثان» إلى عرض عمل هوبز بأفضل صورة ممكنة. والنتيجة - نتاج عدة سنوات من العمل- كانت إنجازاً رائعاً وبأعلى درجات المهنية. لم نر في السابق مثل هذه الطبعة شديدة الإتقان والتي ليس بمقدور أي شخص آخر مجاراتها. العقبة الوحيدة هي سعرها البالغ 375 دولاراً للأجزاء الثلاثة والذي هو فوق مقدرة القارئ والمكتبات أيضاً. في نكوص قد لا يكون مفاجئاً لهوبز، يبدو اننا نتراجع إلى موقف تكون فيه الدراسة متاحة فقط للأغنياء الذين ليس لهم اهتمام بها.‏

- كتاب Leviathan لتوماس هوبز، صدر عن مطبوعات جامعة اكسفورد بثلاثة أجزاء، عدد الصفحات 1832 صفحة.‏

.............................................

الهوامش:‏

«1» اندلع حريق لندن الكبير في وسط لندن عام 1666 واستمر من يوم 2 إلى 5 أيلول حيث أتت النار على أكثر من 13 ألف منزل و87 كنيسة، وتركت 70 ألف شخص بلا مأوى. عدد الضحايا المسجل كان فقط 6 أشخاص ليس بضمنهم أي من ضحايا الطبقة الفقيرة أو الوسطى.‏

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 3/نيسان/2013 - 22/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م