تكامل العلم والأخلاق في بناء توازن الشخصية

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: قد لا يبدو الترابط مباشرا وقويا بين العلم والأخلاق، ولكن من نتائج التحليل المنطقي أن الانسان المتعلم، ينحو الى التهذيب في التفكير والسلوك، أكثر من الإنسان الجاهل، وهكذا يقترب الانسان المتعلم كثيرا من الاخلاق، خلافا للجاهل الذي يكون في الغالب غير مهذّب بسبب عدم اطلاعه وقلة وعيه، وهذا ينعكس على عموم المجتمع بطبيعة الحال، لهذا فإن اكتساب الاخلاق والسعي الى درجة الاكتمال في هذا الجانب أصعب بكثير من اكتساب وفهم واتقان أحد العلوم، والسبب يكمن في أن الاخلاق تدخل في بناء النفس، فيما تُسهم العلوم في بناء عقل الانسان، والفارق بين بناء النفس وبناء العقل كبير من حيث الجهد المبذول في هذا المجال، ومن بداهة القول أن المجتمع اكثر حاجة للانسان الخلوق المتزن الانساني في افكاره وسلوكه، من الانسان الذي يتقن العلوم لكنه لا يتقن السلوك الانساني، وربما يصل الانسان المتعلم الى أعلى المناصب، وربما يقود مجموعة او دائرة وقد يصل الامر الى قيادته لدولة ما، بسبب قدراته العلمية التي اكتسبها بسعيه وجهده ومواهبه.

مزايا القائد المتعلم

هنا يتبادر الى الذهن التساؤل التالي: ما فائدة كل ذلك اذا لم تكن الاخلاق هي المعيار الذي يستند عليه صاحب السلطة في ادارة سلطته وصلاحياته، ولذلك نلاحظ ان من يتخصص في علم ما، فإنه سيحقق ما يسعى إليه من تفوق وبسرعة تفوق كثيرا ما يسعى اليه الانسان في مجال بناء النفس. 

يقول سماحة المرجع الشيرازي، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه الثمين الموسوم بـ (العلم النافع) بهذا الخصوص: (إنّ مَن يتخصّص في علم واحد ويستفرغ كلَّ وسعه وجهده يبلغ أعلى الدرجات فيه ويتفوَّق غالباً على مَن كان ذلك العلم أحد اهتماماته، والأخلاق تحتاج إلى التفرّغ والجدّ والمثابرة من أجل بلوغ المراتب العالية فيها)، لذلك فإن جميع العلوم تتطلب سعيا وجهدا حثيثا لتحصيلها، ولكن الاخلاق تتطلب جهدا مضاعف، بل يحتاج الانسان لكي يبني نفسه الى ارادة حديدية تحيِّد رغائب النفس الكثيرة، وتعطل الغرائز الدافعة للانسان نحو الوقوع في الزلل، لهذا غالبا ما يحتاج المجتمع الى الرمزية الاخلاقية، والى النموذج الاخلاقي المؤثر، لأن الانسان الخلوق سواء كان عالما او غيره، يترك تأثيره الاخلاقي بسرعة ووضوح في المحيط الاجتماعي الذي يتحرك فيه.

لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه المذكور، على أن: (المستوى الذي يبلغه الأخلاقي ـ وطالب العلم الدينيّ خاصة ـ يؤثِّر في أداء دوره في المجتمع. فقوله وفعله وسيرته وتاريخه يشجِّع الناس نحو الفضائل الأخلاقيّة والاجتناب عن رذائلها إذا كان هو من أهل الفضيلة، ولكن إن كان عكس ذلك فسيدفع الآخرين إلى العكس أيضاً). في هذه الحالة لا يصح أن تكون هناك مجافاة بين العلم والاخلاق، بمعنى أن الانسان العالم والعارف ببواطن الامور وسواها، ينبغي أن يحصّن نفسه مسبقا بقاعدة أخلاقية تحميه من الاخفاق، والانحراف والضعف تحت ضغط الحاجات المادية الجسدية وسواها، لذا لابد أن يدرّب الانسان نفسه على انتهاج سبل الفضيلة، وكبح نوازع الرذيلة التي تدفع نحوها النفس طمعا او طلبا لتحقيق مآرب لا مشروعة، من هنا ينبغي على من يسعى الى اكتساب العلم، أن يجعل من الفضيلة شعارا في القول والفعل يطبقه في حياته العملية وسواها، لهذا يوجه سماحة المرجع الشيرازي قائلا في هذا الصدد: (اذاً على طالب العلم أن يولي الالتزام بالفضائل والأخلاق عناية خاصّة لأنّه كلّما ارتفع مستواه فيهما ارتفع مستوى التزام الناس بهما بالتبع. وهذا أحد الفروق التي تميّز الأخلاق عن سائر العلوم والفنون كالفقه والأصول والبلاغة والفلسفة والخطابة وغيرها).

وكما ذكرنا ان هناك فوارق عديدة بين الاخلاق والعلوم، ولكن يمكن ان يشكل الطرفان رديفين بعضهما لبعض، بدلا من حالات التناقض التي قد تحدث أحيانا، بين العلم والاخلاق، وهو ما يعزوه البعض الى حدوث التضارب سياسيا بين النهج العلماني والديني، ولكن في ظل الاسلام لا تضاد بين العلم والاخلاق، ولا بين السياسة وبين الدين، أما الفارق فهو يكمن في الصعوبة التي تتجلى باكتساب الاخلاق، قياسا باكتساب العلم، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (الفرق الآخر بين الأخلاق والعلوم الأخرى يكمن في صعوبته قياساً بها، فالرقيّ في الأخلاق أصعب منه في العلوم الأخرى). وفي المسار نفسه يضيف سماحته قائلا :

(إنّ الأخلاق أصعب من الفقه لأنّ الأخلاق تعني تهذيب النفس وبناءها، وقد قال بعض اهل الخبرة: من الصعب أن يصبح المرء مجتهداً ولكن من الأصعب أن يصير إنساناً).

الارتقاء بالذات

لذا يتطلب الامر أن يرتقي الانسان بنفسه، وأن ينحو صوب تهذيب الذات وتشذيبها من المساوئ أيا كان نوعها او مصدرها، وطالما كان الصراع بين الانسان ونفسه، فإنه صراع ينطوي على صعوبات جمة، إذ يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا بهذا الصدد: (إنّ الارتقاء في الأخلاق والفضائل أصعب من الاجتهاد في الفقه؛ وإنّ ثمرته ونتيجته أبعد منالاً وأعسر حصولاً من الفقه).

وهكذا فإن الاخلاق لا تعني أن يتصنع الانسان سلوكه مع الاخرين، بل لابد أن تكون الاخلاق متأصلة في ذاته ونابعة منها، أما التصنّع فهو مكشوف ولا يصمد طويلا، حيث ينكشف الوجه الحقيقي للانسان، بعيدا عن غطاء التصنّع، ولهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على: أن (المرء لا يلمس نتيجة سعيه إلاّ عندما يصبح ذا قلب سليم وتصبح الأخلاق والفضائل ملكات لديه، عندها يشعر بلذّة الأخلاق والوصول إلى مراتبها العالية، وعندها يعرف قيمة ترويض النفس ومخالفة الشهوات).

وبهذا يمكن للاخلاق أن تصبح ملكة تتأصل في ذات الانسان، ولكن الامر يتطلب سعيا حثيثا ومتواصلا، لاكتساب الفضائل كسلوك أصيل يطبع نفسية الانسان وتوجهاته في الافعال والاقوال معا، اذ يقول سماحة المرجع الشيرازي:

(لا تصبح الأخلاق ملَكة عند الشخص إلاّ بعد أن يحارب نفسه ويخالفها، ويستمرّ في مخالفتها حتى تنمو عنده ملَكة حبّ الخير في كلّ أبعاده. فإذا حصل على الملَكة شعر باللذّة وبدأ يلمس نتيجة أتعابه في مجال الأخلاق والفضائل. وهذا لا يحصل بصورة سريعة بل هو بحاجة إلى وقت يستغرق عمر الفرد؛ لذلك أصبح الارتقاء في مدارج الأخلاق صعباً)، وفي كل الاحوال يحتاج المجتمع الى الرمزية الاخلاقية، إذ يكون يكون بمقدورها تأصيل السلوك الانساني السليم وتطويره، وتعميمه على افراد والجماعات، لاسيما النخب المؤثرة كالعلماء والسياسيين والمثقفين وغيرهم، لكي تتكون للمجتمع قاعدة اخلاقية متينة، تصونه من التردي والتراجع والنكوص.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 21/آذار/2013 - 9/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م