ثقافة الحذاء

محمد علي جواد تقي

تحولت الشعوب الواعية والطامحة للعلم والمعرفة، من القلم في مقالاتها، الى أزرار آلة الطابعة، ثم الى آلة الحاسوب. وتحولت في طباعة الكتب، من الآلات الحديدية الضخمة، الى أجهزة الكترونية مدمجة تطبع الكتاب بألوان زاهية وجودة عالية داخل البيوت. أما نحن في العراق.. البلد المعروف بحبه للقراءة والمطالعة بين شعوب المنطقة، فانه ماض في تطوير لغة العنف، لا لغة الثقافة والعلم والمعرفة. فبعد أول عملية إعدام جماعي، وسحل في الشوارع، وتمثيل بالجثث في تاريخ العراق الحديث، جرت في بغداد، في الرابع عشر من تموز عام 1958، بدأت لغة العنف والقسوة والإقصاء تأخذ حيّزها الواسع في الثقافة العراقية الأصيلة، حتى لوثتها بالأحوال والدماء.

وعندما انهار نظام الرعب والقسوة والدموية، هلل الجميع بأنهم لن يسمعوا بعد اليوم، طرقات الباب العنيفة منتصف الليل، ولن يشهدوا اعدام الجندي الهارب أمام زوجته واطفاله عند باب داره، ولن ترمى الجثامين على أبواب البيوت ليستلمها ذويها ويدفنوها بصمت القبور.. فكل ذلك من قاموس نظام صدام البائد.

فماذا عن قاموس النظام الجديد؟ انه يحمل أوصاف كبيرة وعالمية.. "الديمقراطي"، "التعددي"، "الاتحادي". لكن لم ير العراقيون حتى الآن من "الديمقراطية"، سوى صناديق الاقتراع التي يصطف أمامها ليدلون برأيهم، ويعودون الى بيوتهم، ويتابعوا جلسات مجلس النواب، وكيف يتبارى نوابهم المنتخبون في فضح بعضهم البعض، ويتقاذفون الاتهامات، ويظهرون الحرص الشديد على مصالحهم السياسية، قبل مصالح ابناء الشعب الذين أوصلوهم الى قاعة البرلمان، ثم يتفقون بأجمعهم وبكل صلافة على منافعهم الشخصية ورواتبهم التقاعدية. وقد كشفت هذه الحقيقة صراحةً النائبة حنان الفتلاوي في حديث متلفز.

والدرس الجديد الذي تلقاه العراقيين حديثاً هو رشق الحذاء من نائب الى نائب آخر بعد مشادة كلامية بينهما.. وبغض النظر عن ملابسات الحادث وتفاصيله، ومع عدم التقليل من الاعتداء اللفظي والاساءة التي لحقت بالنائبة عالية نصيف، من سلمان الجميلي، فان حذائها المقذوف ذكّر الناس بالحذاء الذي رفعه (الصحفي) منتظر الزيدي، ورشق به الرئيس الامريكي جورج بوش في بغداد، وبغض النظر ثانية عن ملابسات الحادث، فربما يكون منفعلاً حقاً من الاتفاقية الامنية التي جاء بها بوش حينها، وأنه غضب للعراقيين بفعلته هذه، أو ربما يكون الامر غير ذلك، فالنتيجة واحدة، وهي إن لغة الخطاب السريعة الفهم وسهلة الوصول الى الطرف المقابل، هي الحذاء..! والمثير حقاً، أن نسمع النائبة تتحدث عن مكالمات هاتفية تعرض عليها شراء الحذاء الذي رشقته على النائب المتجاوز، وقد بلغ بملايين الدولارات، وهو تكرار لما حُظي به (حذاء الزيدي)، عندما عرض أحد الامراء الخليجيين شرائه بأموال سخية. واللوم لا يقع على النائبة نصيف فقط، فاذا لم يتداول بعض النواب الالفاظ البذيئة، في أوساطهم الخاصة، لما صدر ما صدر من النائب المشار اليه.

 واذا لا أجانب الحقيقة، فان غير قليل من نواب البرلمان العراقي، يرى في القيم الاخلاقية، من قبيل؛ الصدق والأمانة واحترام الآخر، وحفظ اللسان من الزلل، إنما تفيد في أماكن العبادة والاجواء الروحانية، مثل المساجد والحسينيات والمشاهد المشرفة، بينما نجد - ولله الحمد- الغالبية العظمى من ابناء شعبنا، سواء في هكذا أماكن ومشاهد، أو حتى في وسط الصحراء، وفي عمق الاهوار والبساتين، يشعر بالفخر والاعتزاز بالتزامه القيم الاخلاقية ونبذه للصفات المذمومة.

وأكثر ما يحزّ في النفس حقاً؛ ابناء الجيل الجديد، الذين يتطلعون الى مستقبل مشرق لهذا البلد رغم الأزمات والمنغّصات، فهم يشقون طريقهم في مسيرة طلب العلم وصولاً على المراحل العليا من الدراسة الاكاديمية ليشاركوا كما يُقال في (بناء العراق)، وقد اصبح اليوم لدينا شريحة كبيرة وواسعة من طلبة المدارس والجامعات في عمر الزهور، وعندما يسمع هؤلاء من وسائل الاعلام بما جرى بين نوابهم المنتخبون، يقدح في أذهانهم السؤال: ماذا يمثل هذا العمل في قاموس الثقافة العراقية؟ هل هو عمل أصيل ومطلوب على نطاق واسع؟ أم انه مفردة صغيرة و دخيلة ، يمكن ازالتها؟ هذا السؤال لابد من الاجابة عليه، ليعرفوا – ومعهم ايضاً جميع ابناء الشعب- في أيّ طريق يسيرون؟ لان المفترض بالنائب ان يكون واجهة للشعب تحت (قبة البرلمان)، يحفظ لسانه ومشاعره الخاصة ما أمكنه، ويتحمل الضغط والألم النفسي للحفاظ على دور النيابة الذي خوله الشعب، وإلا سيكون ممثلاً عن نفسه فقط، لأنه انتصر لذاته، وليس للقيم والمفاهيم التي يؤمن بها الشعب وضحى من أجلها طيلة العقود الماضية.

في المحصلة؛ الجميع يشجب وبشدة الاعتداء اللفظي الذي شنّه النائب الجميلي ضد النائبة نصيّف، وهو جدير بما أشد من إجراءات عقابية، لكن لا أحد يجد الضرورة – على الأقل- بانتقاد الهجوم بالحذاء من النائبة على النائب، وذلك بدعوى الانفعال والثأر لسمعتها، وربما تتمكن النائبة من مقاضاة النائب المعتدي، و طرده من البرلمان وغيرها من الاجراءات الاخرى، ثم تنتهي القضية لصالحها. ولكن ماذا عن حالات الاعتداء اللفظي التي تقع هنا وهناك؟ فهل يجب أن يرفع الحذاء؟ أم يكون الخيار للمنطق السليم وكلمات اللوم والتقريع التي ربما يكون لها أبلغ الاثر في النفوس؟

نحن نتحدث عن السلم في صراعنا مع الأنظمة الديكتاتورية والدموية، وحتى خوض الصراع، فهو من باب الدفاع عن النفس لا غير، وقد شهد العالم كيف إن أنظمة عسكرية ومخابراتية كبيرة في البلاد العربية، انهارت أمام صرخات الجماهير، وليس أمام اسلحتهم وقنابلهم. وهناك من يتحدث في العراق، بانه البلد الذي تجاوز مرحلة (الثورة) وتغيير النظام السياسي، لانه بلغ النضوج السياسي وصار (ديمقراطياً)، لكننا نفاجئ بأنه يخفي سلوكاً يعود الى العهود الجاهلية، كمن يقال عنه طباخاً ماهراً ومذواقاً، ثم يرونه يشعل النار بالطريقة الحجرية، ويطهو اللحم على اللهب المتصاعد.

 فاذا كان العراقيون يريدون ان يكونوا بهذا النضج، ليس في السياسة وحسب، إنما في الثقافة والاجتماع والاقتصاد والامن، فعليهم ان يقفوا على مسافة بعيدة من هكذا تصرفات ومواقف تعكس أجواء الجلسات الخاصة للسياسيين البعيدين – بمعظمهم- مع الأسف عن الجماهير.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 18/آذار/2013 - 6/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م