فقه الدولة: في ممارسة السلطة بواسطة إدارات الدولة

الشيخ فاضل الصفار

وفيه مسائل خمس مسائل:

المسألة الأولى: في حدود شرعية السلطة الإدارية

المسألة الثانية: في وجوب اللامركزية الإدارية

المسألة الثالثة: السلطة الإدارية بين التشريع والتنفيذ

المسألة الرابعة: في التعامل مع أخطاء السلطة ودوائرها

المسألة الخامسة: في التزاحم بين خبروية المدراء وإخلاصهم

المسألة السادسة: في إدارة غير المسلمين لشؤون المسلمين

وسنتعرض في القسم الاول من هذا البحث الى المسائل الاربع الاولى وفي القسم الثاني الى المسئلتين الخامسة والسادسة.

المسألة الأولى: في حدود شرعية السلطة الإدارية

إن أدلة مشروعية الدولة ونصب الحكومة تقتضي أن تكون مشروعية سلطة الإدارة الحكومية على المجتمع مقتصرة على القدر المتيقن من الأدلة المقيدة للأصول الأولية القاضية بتسلّط الإنسان على نفسه وشؤونها، وتسلّطه على الطبيعة وشؤونها أيضاً؛ إذ لا مشروعية للتسلط الإداري الزائد على القدر المتيقن.

فكل مورد يشكّ في شمول الأدلة المقيدة له يرجع فيه إلى الأصل القاضي بعدم مشروعية تسلّط الإدارة على الناس؛ لأصالة عدم ولاية أحد على أحد، وعدم منع تسلط الناس على الطبيعة، لأصالة الإباحة في الأشياء، ويترتب على ذلك عدم جواز فرض السلطة قرارها على الناس وعدم وجوب إطاعة الناس لقراراتها؛ للتلازم بين الوجوبين، بداهة أن المرجع في موارد عدم انطباق دليل التقييد أو في موارد الشك في انطباقه هو الأصول الأولية.

أما في صورة عدم الانطباق فللخروج التخصصي عن حكم العام، وأما في صورة الشك في الانطباق فلا يصح التمسك بالعام؛ لاستلزامه التمسك بالعام في الشبهات المصداقية. والوجه فيما ذكرنا هو أن الأدلة المقيدة للأصول الأولية هي أدلة لبية ناشئة من الأحكام العقلية والعقلائية والسيرة العملية غالباً، وليست للإطلاقات وعمومات الأدلة اللفظية؛ لذا فهي ليس فيها إطلاق أو عموم يمكن التمسّك به لاستيعاب جميع الأفراد حتى المشكوك منها إذا انعقد للمطلق أو العام ظهور فيها في موارد العموم والإطلاق، فيقتصر فيها على القدر المتيقن، فلا يجوز التعدي عنها إلى ما يشك في شمول الدليل له؛ لأنه ليس حجة فيه لما عرفت من المحذور، وأما بيان أن أغلب الأدلة لبيّة فلما عرفت من أن أبرز الأدلة المقامة على مشروعية إقامة الدولة ونصب الحكومة كان وجوب حفظ النظام وبسط العدل ودفع الفوضى والهرج والمرج والسيرة العقلائية ونحوها، وهذه ترجع في المآل إلى العقل، وهو دليل لبي، وبالدلالة الالتزامية يثبت وجوب التصدي لها من باب المقدمية أو الأولوية ونحوها، وهي الأخرى دلالة عقلية لبية ليس لها عموم ولا إطلاق، وكذلك الحال في أدلة الأمور الحسبية.

والحاصل: ان غاية ما تدل عليه هذه الأدلة هو القدر المتيقن مما يقتضيه حفظ نظام المجتمع في الحقوق والواجبات، وكل ما زاد على ذلك من سلطات فيحتاج إلى دليل معتبر يدلّ على مشروعية تسلّط الدولة على الناس، وعلى مشروعية تحديد سلطة الناس على الطبيعة أيضاً، واللازم مما ذكرناه هو كون مشروعية السلطة وشرعية قراراتها والإجراءات الملزمة من قبل إدارات الدولة يجب أن تقتصر على الحد الأدنى من التدخل الحكومي الإداري في شؤون المجتمع العام والجماعات والأفراد سواء من حيث سلطة الإدارة عليهم، أو من حيث سلطة الناس على الطبيعة، فإن الأصل الأولي الأصيل هو سلطنة الناس على أنفسهم وأموالهم وما يرتبط بهم من الطبيعة ومكوّناتها، وهذا الأصل يؤسس لأصالة الحرية في الإنسان في مختلف تصرفاته وشؤونه، وقد حدّد هذا الأصل لأجل ضرورة الدولة وحفظ النظام، فيقتصر فيه على هذا القدر لا أكثر؛ لأنه ضرورة، وهي تقدر بقدرها.

ويظهر من ذلك أمران:

الأول: بطلان الأنظمة الاشتراكية والأخرى المستبدة والثالثة الشمولية التي تستولي على كل شيء في البلد بحجة المساواة وحفظ النظام وبسط الأمن وما أشبه ذلك.

الثاني: بطلان التوسعة الهائلة في دوائر الدولة، والتكثير من تفريعات الأنظمة الإدارية وأجهزة الحكومة بأنحائها المختلفة. هذا النهج الخطير الذي يصيب الإدارات الحكومية في الدولة الحديثة، حيث يتضخّم جهاز الموظفين نتيجة لاستحداث دوائر وسلطات لا ضرورة لها تزيد من تقييد حرية المواطنين، وتزيد من ربط أعمالهم وأنشطتهم بجهاز الدولة، فتشلّ جانباً كبيراً من قدرة الناس على الإبداع والمبادرة والتنافس والتنمية، وفي نفس الوقت تصرف المسؤولين الى الانشغال بهوامش الأمور الإجرائية دون عظائمها، وتجعل أعمالهم أكثر كلفة من جهة ما تستغرقه من زمن وجهد، ومن جهة ما تكلفه من أموال وهدر للطاقات والأوقات والثروات للشعب والدولة.

وبذلك يظهر أن شرعية السلطة الإدارية ليست مطلقة، وإنما هي مقصورة على القدر المتيقن من الأدلة، وهو ما يتوقّف عليه حفظ نظام المجتمع وتماسكه ونموّه، وما زاد على ذلك فممارسة السلطة على الناس فيه أمر غير مشروع كما لا يجب على الناس الالتزام به بحسب العنوان الأولي.

المسألة الثانية: في وجوب اللامركزية الإدارية

ينبغي أن تكون السلطة الإدارية في الدولة لا مركزية؛ وذلك لما عرفت في المسألة السابقة من أن مقتضى أدلة شرعية السلطة الإدارية هو محدوديتها بالحد الأدنى من التدخل في شؤون الأفراد والجماعات، وهذا يقتضي أن تكون الإدارة في الدولة لامركزية، بحيث تتوزع مراكز السلطة الإدارية فيها على مؤسسات وهيئات متعددة على نحوٍ تتمتع فيه كل مؤسسة وهيئة بالاستقلال عن السلطة المركزية في العاصمة، وعن سلطات الأقاليم والنواحي، كما أنه مستقل عن سلطات المراكز الفرعية الأخرى بالمقدار الذي لا يخلّ بوحدة الدولة وتنظيم الإدارة ووجوب التعاون والتكامل بين المؤسسات المختلفة، وقد عرفت أن فصل السلطات من أهم مظاهر التوازن والحرية في الدولة التي تجمع بين الأدلة والحقوق، وهذا الفصل لا ينبغي أن ينحصر في السلطات الثلاث المعروفة، بل يسري إلى مختلف شؤون السلطة وتفريعاتها، كما عرفت أيضاً أن التعاون والتنسيق بين السلطات لاينافي الفصل بينها.

وكيف كان، فإن مقتضى الجمع بين الأدلة يستدعي أن تكون الإدارة لا مركزية؛ لأنها إذا كانت مركزية فإنها تقتضي بطبيعتها تجمّع سلطات كثيرة على أعداد كبيرة من السكان في يدٍ واحدة أو أيدٍ قليلة من الموظفين الإداريين، وتحمّل المواطنين أعباء ثقيلة وكثيرة نتيجة لارتباط مصالحهم بمراكز قرارٍ بعيدة عن موطن مسكنهم وعملهم، زائداً على تراكم العمل والحاجات والمراجعات في تلك الدائرة، مما يقتضي الاتصال بها بذل نفقات وجهود كبيرة، وتتيح للإدارة المزيد من القدرة على التحكم في إدارة الناس ورغباتهم، مما يحدّ من حريتهم وسلطاتهم، وهذا يتنافى مع الأصل الأولي في سلطة الإنسان على نفسه وعمله وماله وعلى الطبيعة، ولا يظهر من أدلة التقييد شمولها لهذا المقدار من السلطة، فيكون محكوماً بعدم المشروعية حينئذٍ لاندراجه في مقتضى الأصول الأولية.

والظاهر أن الحكومة الإسلامية للمعصوم (عليه السلام) سواء كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) مركزية من حيث إنها سلطة إلهية سياسية، لكنها كانت لا مركزية من حيث السلطة الإدارية، وقد كانت المناطق مستقلة إدارياً عن السلطة المركزية، بل يمكن القول إنها كانت تتمتع بالاستقلال الذاتي، وهذه حقيقة ربما يلاحظها المتتبع لشؤون الولايات والولاة الذين عيّنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجرى عليها المسلمون من بعده في العهود الأولى في تكوين الدولة وتشكيل سلطاتها الإدارية في المناطق المختلفة، وهذا ما تعضده تركيبة نظام الحكم في عهد الغيبة أيضاً؛ لابتنائها على ولاية الفقهاء جامعي الشرائط، سواء انحصرت الحكومة بفقيه أو توزعت في شورى للفقهاء، فإن انفصال التقليد عن الشؤون العامة واختيار الناس من يريدونه للشأنين معاً، وإمكان توزيع سلطات الفقيه إلى مؤسسات متعددة إلا ما توقف منها على الاجتهاد في صورة وجوده وتصديه، أو توزيعها على الأمة في صورة عدمه أو عدم تصديه كما عرفته في الأمور الحسبية يكفي شاهداً على لزوم اتباع اللامركزية في الإدارة، بل مع سعة هذه السلطات وحرية الناس في اختيار ما يرونه مناسباً قد يحكم العقل بلا بدية اتباع النهج اللامركزي، وإلا تعذّر القيام بمهام الدولة ووظائفها عادة او غالبا، وسبّب ذلك تضييعاً للحقوق.

وكيف كان، فإن الظاهر أن ما يستحصله المتتبع من مجموع الأدلة هو وجوب قيام نظام الحكم في ممارسة السلطة على اللامركزية الإدارية، وهذا ما قامت عليه الدولة الإسلامية في عهودها الأولى في الولايات[1]، ولكن الأمويين اتجهوا بالإدارة نحو المركزية، حيث استحدثوا منصب الكاتب الذي تطور فيما بعد إلى الوزير والوزارة، ثم تعدد الكتاب فازداد تمركز الإدارة، واشتدّ تمركزه في برهة من العهد العباسي، كما ذكره بعض المؤرخين[2].

ولكن الذي يتتبع ابواب الفقه المختلفة فيما يتعلق بشؤون الحكم والقضاء والمهام الأخرى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والتعزيرات وما أشبه يجد أن الفقه قد أصّل اللامركزية في مختلف الأبواب، ابتداءً من مهام الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة وتوزيع السلطات وقيام المؤمنين بتولي الشؤون الحسبية، وإيكال القضية إلى الواجب الكفائي والتخييري في كثير من الأحيان يدلّنا على أن الأصل في الإدارة في الدولة الإسلامية هو اللامركزية، وأما السلطات المركزية فهي غالباً ما تكون مؤسسة للاستبداد، ومضيعة للكثير من الحقوق وهدر الطاقات والأموال، وبهذا اللحاظ تكون من المحرمات الشرعية.

المسألة الثالثة: السلطة الإدارية بين التشريع والتنفيذ

إن المؤسسات الإدارية في الدولة الإسلامية جهاز تنفيذي محض، وليست له سلطة أو صلاحية تشريعية؛ إذ ليس للإداريين والتنفيذيين وغيرهم حق التشريع، كما أنهم لا يتمتعون بحصانة من الخطأ أو النقد والمحاسبة، بل حالهم حال سائر الناس في كل ذلك، سوى أنهم تخصصوا أو فوّضوا أو أوكلوا فيما يقومون به من مهام ومسؤوليات، فلا تعد تصرّفاتهم شرعية بالضرورة.

وعليه فإنه لا صلاحية للإدارة في ممارسة التشريع في مختلف القضايا الحكومية أو المالية ونحوها، كالضرائب والغرامات، ولا مصادرة الأموال أو حجزها، أو ممارسة العقوبات التعزيرية والجزائية من حبس وتقييد حرية وضرب تأديب وتشهير وما أشبه ذلك إلا بما شرّعه الإسلام، ودخل في تأطيرات السلطة الشرعية الواقعة تحت إشراف الفقهاء.

 فليس للإدارة أن تفرض غرامة، أو تأخذ ضريبة مثلاً غير مشرّعة، وليس لها أن تنزل عقوبة غير مشرعةً، أما في الأول فلأنه اجتهاد في مقابل النص، وهذا لا حق لأحد فيه حتى للفقيه، وأما الثاني فلاشتراط الاجتهاد فيه.

 والمفروض أن الدولة خاضعة للفقيه أو لشورى الفقهاء، فلا يمكن أن يكون القرار الصادر من الحكومة الا عن اجتهاد صحيح، وإنما تنفّذ الإدارة القوانين والتعليمات المشرّعة بالفعل من قبل الجهة الصالحة لذلك في الدولة، وهي عادة على صنفين:

أحدهما: ما له حكم ثابت في أصل الشرع، أو فيه للفقهاء وأهل الخبرة المعتمدين اجتهاد معتمد حدد الحكم الشرعي له، أما أهل الخبرة فمهمتهم فيه تشخيص الموضوع، وأما الفقيه فمهمته فيه تطبيق الكبرى على موضوعها.

 ثانيهما: ما لم يكن كذلك، وإنما هو من الأمور الحادثة الطارئة التي نصّت عليها الرواية الشريفة عنه (عليه السلام): الحوادث الواقعة[3]، وهي التي لم يرد لها حكم في أصل الشرع، ولم يسبق فيها اجتهاد معتمد، ففي القسم الأول تنفذ الإدارة الحكم الشرعي الثابت في أصل الشريعة، أو بحسب النصوص الخاصة، أو بحسب الاجتهاد المعتبر من الأدلة التفصيلية.

وفي القسم الثاني يدخل المورد في باب لزوم تشخيص الموضوع لتطبيق الحكم عليه، وهذا ما ينبغي تحديده بواسطة المجتهدين وأهل الخبرة والاختصاص في المجال الذي تنتمي إليه الحادثة الواقعة. هذا إذا لم يكن المسؤول الإداري مجتهداً، وأما إذا كان من المجتهدين جامعي الشرائط فهل يجوز له أن ينفّذ في القضية المعروضة عليه رأيه بمقتضى اجتهاده أم عليه أن يلتزم بالتنظيم الإداري المجعول من قبل الدولة العادلة؟.

قد يقال: إن له ذلك؛ لأنه مجتهد جامع للشرائط، وقادر على معرفة حكم الشرع في القضية، فتكون من الحوادث الواقعة التي جعلها الإمام (عليه السلام) من مهمات الفقيه، وحيث إنه مسؤول عن تنفيذها بمقتضى منصبه إلاداري، وكونه مجتهدا جامعا للشرائط له الولاية المطلقة بناء على الولاية العامة للفقيه، فيعمل ولايته من جهة التنفيذ أيضاً بعد أن يكون قد أعمل رأيه الاجتهادي واستنبط حكمها.

 ولكن ربما يقال بغير ذلك؛ لأن طبيعة المسألة وأدلتها لا تساعد عليه؛ لإمكان القول بأنه لا يجوز للفقيه أن يعمل باجتهاده دائماً، وذلك ليس لأنه لا حق له في الاجتهاد، ولا لأنه لا سلطة له في تطبيق اجتهاده والعمل بمقتضاه لتمامية الأدلة في مثله بالعناوين الأولية كما عرفته في بحث ولاية الفقيه، وإنما لا يجوز من جانب آخر وهو العنوان الثانوي القاضي بأن حيثية سلطته الإدارية تختلف عن حيثية أهليته وسلطته الاجتهادية؛ ولذا عليه ــ ولو بحسب العناوين الثانوية ــ أن يتصرّف في منصبه على وفق القواعد والأنظمة الخاصة به التي يحكم النظام العام بمراعاتها، ويضمن مطابقة الواقع مهما أمكن، وتمييز الإجراء الأهم من غيره؛ ولذا قد يقال بلزوم الرجوع في مثل هذه الأمور في تقنينها أو تطبيقها ومعالجة ملابساتها إلى الجهة التي أعطيت صلاحية الإدارة من قبل الفقيه أو شورى الفقهاء، وهي الجهة التشريعية في الدولة، ثم التنفيذية، وليس إلى اجتهاد هذا المجتهد أو ذاك بما هم مجتهدون من دون لحاظ علاقتهم بالهيكل العام لأجهزة السلطة في الدولة.

وقلنا: هذا لا يعني عدم شرعية حكم الفقيه غير المتصدي، بل للزوم رعاية الضبط والنظام ومنع الإخلال بوحدة المجتمع، فضلاً عن لزوم الالتزام بما ارتضاه الناس واختاروه في سلطته كما فصّلناه في بحث السلطات، فإن من الواضح أنه قد لا يمكن إعمال سلطة الفقيه الاجتهادية مطلقاً مع وجود دولة شرعية عادلة جامعة للشرائط يحكمها فقيه أو شورى فقهاء؛ وذلك لحصول التضارب والهرج والمرج واختلال النظام؛ لأنه إذا جاز لمجتهدٍ ذلك فإنه يجوز لكل المجتهدين، خصوصاً مع كون الجميع أولياء وعدم رجحان نفوذ ولاية أحدهم على غيره، سواء أكانوا في الإدارة أو في الحكومة أو خارجهما في الحياة العامة، وهذا يعود على الدولة والشعب بالفتنة وبالفساد الكبير، فلابد من القول إذاً بأن حيثية سلطة الفقيه وأهليته الاجتهادية بما هو فقيه جامع للشرائط معلّقة على التأثير والفعلية فيما يتصل بقضايا الإدارة والنظام العام، ما دام مقيداً بحيثية سلطته الإدارية، وكانت الدولة شرعية وجامعة للشرائط، فتامل.

المسألة الرابعة: في التعامل مع أخطاء السلطة ودوائرها

لا شك أن أجهزة الدولة ترتكب أخطاء في كثير من الأحيان، فإذا تسببت هذه الدوائر في إبطال عمل محترم للمسلم، أو في إتلاف ماله، أو في إصابته بأضرار جسدية،أو سببت وفاته مثلاً، أو حرمان أهله أو أولاده وما أشبه ذلك، فهل يكون ما وقع مضموناً، فيستحق المتضرر أو ورثته التعويض عليه أم لا؟

قد يقال: أن مقتضى أدلة الضمان والأدلة الدالة على حرمة عمل المسلم وماله وجسده [4] هو وجوب ضمان الخسارة والضرر الواقعين عليه عدواناً أو خطأً، ومقتضى إطلاق هذه الأدلة وعمومها هو شمولها للإتلاف والضرر الحاصلين من قبل أجهزة الدولة وإداراتها وإن اختلفت جهة الضمان بين الخطأ الفردي والحكومي، فإن الأول ضمانه على الفرد المخطئ لعدم اتسامه بشخصية حقوقية، وأما خطؤه فيما إذا اتسم بذلك ــ وبما أنه يمثّل الدولة والحكومة ــ فضمانه على الجهة الخاطئة وهي الحكومة، ويدلّ على ذلك وحدة الملاك المستفادة مما ورد في باب القضاء؛ لقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن ما أخطأت القضاة من دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين».[5]

والرواية معتبرة السند، رويت في الوسائل عن الباقر (عليه السلام)، ورواها الصدوق في من لا يحضره الفقيه، والشيخ الطوسي عن الأصبغ بن نباتة، وفي النهاية قال الشيخ: ومن أخطأ عليه الحاكم بشيء من الأشياء فقتله أو جرحه كان ذلك على بيت المال.[6]

وكيف كان، فإن القضاة هنا لم يلحظوا من جهة حيثيتهم الشخصية حتى باعتبارهم فقهاء، وإنما لوحظوا باعتبارهم جزءاً من جهاز الدولة، ومنها الإدارة،وبضميمة وحدة الملاك أو بفهم عدم الخصوصية أو عدم فهم الخصوصية او عدم القول بالفصل يمكن تعميم ذلك إلى كل موظفٍ حكومي، ولكن الضامن هل هو الموظف المسؤول الذي سبّب عمله وقوع الضرر بالناس أو الجهة الإدارية أو بيت المال؟ احتمالات في المسألة، وربما يقال: بالتفصيل بين الخطأ في حالي العمد و التقصير، فيقع الضمان على الموظف نفسه دون الإدارة أو الحكومة، وذلك لأمور:

 أحدها: انصراف الأدلة عن مثله.

 ثانيها: شمول أدلة الضمان له، بل هو من أجلى مصاديقها؛ بداهة صدق الإتلاف والإضرار عليه، فيده هي التي عليها الضمان؛ لأنها هي التي أتلفت مال الناس، فيكون له ضامنا. نعم إلاّ إذا كان هناك التزام في عقد التوظيف والتولي بالبراءة من الأخطاء مطلقاً، أو ضمان الدولة مطلقاً، فحينئذ ينبغي التمسك بمثل قولهم (عليهم السلام): «المؤمنون عند شروطهم»[7] ولكن هذا كلام آخر غير ما نحن فيه؛ لأن عدم الضمان هنا نشأ من الشرط ولم ينشأ من الحكم الأولي.

هذا ولا يخفى أن للمضمون له الرجوع إلى الحكومة، كما يمكنه الرجوع إلى الفرد مباشرةً، لكن لا يبعد القول بالأول مطلقاً ضمانا للحقوق وقطعاً للمنازعة والمخاصمة، ولأن الحكومة عرفاً هي السبب فتضمن له ما فاته، أو ما وقع عليه من التلف والإضرار، ويمكنها الرجوع إلى موظفها حينئذٍ جمعاً بين الأدلة.

والحاصل: أن الموظف الإداري إن كان متعمداً في خطئه رجعت عليه إدارته بالضمان،وكان مستحقاً للعقوبة، وكذا إن كان مقصراً، بناءً على عدم شمول أدلة الرفع لمثله، وأما إذا كان مخطئاً عن قصور فالظاهر أنه لا عقوبة عليه ولا ضمان لأدلة الرفع الدالة بإطلاقها على عدم الحرمة والضمان على ما اختاره جمع من الأصوليين[8]؛ لقوله (صلى الله عليه وآله):«رفع عن أمتي تسع»[9] وعدّ منها الخطأ، مضافاً إلى ما دلّ على عدم ضمان الأجير والوكيل إلاّ في حالة التعدي أو التفريط أو الاشتراط عليه، والظاهر أن هذا يصدق على الموظف الحكومي أيضاً، فلا يكون ضامناً للمستأجر الموكل الذي هو الجهة الإدارية أو الحكومية فيما نحن فيه.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

..................................................................

[1] انظر مناقب آل ابي طالب: ج2 ص131 ــ 132وص134؛ نهج البلاغة: ص410 الكتاب38؛ وص426، الكتاب53 ؛ تاريخ التمدن الاسلامي: ج1 ص79.

[2] انظر تاريخ التمدن الاسلامي: ج1 ص150-155 ؛ مروج الذهب: ج3 ص39-42.

[3] اكمال الدين: ص484 ح4؛ الوسائل: ج27 ص140 ح33424 باب 11 من ابواب صفات القاضي.

[4] عوالي اللآلي : ج3 ص473 ح2وح4.

[5] الفقيه: ج3 ص5 ح 16؛ التهذيب: ج6 ص315 ح872؛ الوسائل:ج27 ص226ح33651 باب 10 من ابواب اد اب القاضي.

[6] النهاية :ص755.

[7] عوالي اللآلي : ج1 ص218 ح84.

[8] انظر نهاية الافكار: ج3 ص199 ــ 226؛ منتهى الاصول: ج2 ص167 ــ 189؛ اجود التقريرات: ج3 ص291-301 ؛ منتقى الاصول : ج4 ص382-420.

[9] عوالي اللآلي: ج1 ص232 ح131؛ الكافي: ج2 ص463ح2؛ الوسائل: ج7 ص293 ح 9380 باب 37 من ابواب عدم بطلان الصلاة بالوسوسة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 3/آذار/2013 - 21/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م