دول اليد العليا.. دول اليد السفلى

عريب الرنتاوي

تتعامل بعض دول الخليج العربي (وليبيا زمن القذافي) مع العمالة العربية الوافدة، بوصفها أداة من أدوات سياساتها الخارجية، تستخدمها لمكافأة الدول الصديقة أو لمعاقبة الدول المناهضة لها.. ولقد تطور استخدام هذه "الأداة" مع الوقت، فصار لها وظيفة جديدة، تتمثل في محاولة فرض قيود على حرية الرأي والتعبير في "الدول المصدرة للعمالة".. إذ يكفي أن يصدر تصريح هنا أو مقال هناك، أن يلتئم اعتصام هنا أو تُنظم تظاهرة هناك، حتى تخرج "الدولة المستوردة للعمالة" إلى الملأ، ملوّحة بتسفير العمال أو إغلاق الباب في وجه المزيد منهم.

رأينا هجوماً على العمالة الأردنية، وإغلاقاً لأبواب الدوحة في وجهها زمن التوتر في العلاقات الأردنية – القطرية.. ورأينا حملة على العمالة المصرية، لمجرد تنظيم اعتصام احتجاجي أمام السفارة السعودية.. ورأينا حملة على اللبنانيين الشيعة والفلسطينيين من قطاع غزة في دولة الإمارات، ثأراً من حماس وحزب الله.. ولعل أوسع حملة استهدفت العمالة العربية في الخليج تلك التي أعقبت حرب الخليج الثانية، وتحديداً من الكويت، التي لم يبق فيها سوى بضعة ألوف من الفلسطينيين، بعد أن ناهز تعدادهم النصف مليون مقيم.

مناسبة هذا الحديث، ما أثارته ولوّحت به دول مجلس التعاون الخليجي أمس ضد لبنان، رداً على تصريحات للعماد ميشيل عون ساند فيها "الثورة البحرينية".. دول المجلس هددت بعدم استقدام المزيد من العمالة اللبنانية، وهي التي أمرت رعاياها بعدم التوجه إلى لبنان، وفي خطوة قد تُمهد لحملات تسفير وإنهاء عقود العديد من اللبنانيين.

العماد عون، شخصياً، ليس في أي موقع رسمي، وهو أدلى برأي في مجريات الأزمة البحرينية يتداوله كثيرون، فأين المنطق في معاقبة لبنان، كل لبنان، لمجرد أن سياسياً مهما بلغ وزنه، أدلى بموقف هنا أو تصريح هناك وبصرف النظر عن مضمون التصريح ومدى صحته أو وجهاته، وما الذي يتبقى من علاقات "الأخوة العربية" إن كانت "العقوبات الجماعية"، هي السياسة المعتمدة في العلاقات العربية البينية؟.

هي سياسة فعّالة بلاشك، وأداة ضغط نجحت في لي أذرع وأعناق كثير من السياسيين والقادة في عدد من الدول العربية، الذين رفعوا دول الخليج، سياسات وقادة ورموز، إلى مستوى الخطوط الحمراء التي لا يجوز تناولها في صحف بلدانهم ووسائل إعلامها إلا بالمديح والتملق والتزلف... وفي الأردن على سبيل المثال، كما في عدد من الدول العربية، يمكنك أن تنتقد رئيس الوزراء وحكومته، لكن هيهات أن تنجح في توجيه الانتقاد لرئيس بلدية في مدن الرمل والملح، بالقوة ذاتها.

هي حقبة البترودولار، وقد أجبرت خيرة أبناء دول الحواضر العربية، على الخضوع لنظام الكفيل، بحثاً عن لقمة العيش المرة.. وأدرجت ثقافة "طال عمرك" في قاموسنا الاجتماعي والسلوكي، وفتّحت أبوابنا لـ"قراءة بدوية" للإسلام، هي الأكثر تخلفاً وتشدداً من بين جميع قراءاته، خصوصاً المدينية المعتدلة منها، والتي طالما ميّزت التديّن المشرقي والمصري والمغاربي.

هي حقبة البترودولار التي تجعلنا نهرع زرافات ووحدانا لتقديم آيات التعزية والتبريك، في كل أمير ولد أو رحل، وما أكثرهم، لكأنه لا توجد وظيفة للمراسم والتشريفات في دولنا، سوى اجترار عبارات الحزن والأسى على كل راحل، نجهد في تذكر اسمه، مع أنه قضى حياته في خدمة الأمتين العربية والإسلامية؟!

هي حقبة البترودولار وقد ألقت بظلالها على الإعلام وصناعة الكتاب والسينما والدراما، ولوّثت وعينا وذائقتنا بموروث ثقافي، تجاوزتها حواضرنا منذ عقود وقرون.. حتى أننا بتنا بحاجة لرقيب ذاتي، لشرطي خليجي في داخلنا، قبل أن نفكر في إصدار موقف أو إنتاج فيلم أو طباعة كتاب.. كيف لا وقد تسللت معايير البترودولار حتى إلى تشريعاتنا المحلية، فباتت "الإساءة لدولة شقيقة" هي التعبير الملطف عن حظر تناول سياسات وقيادات الدولة المصدرة للبترول والمستوردة للعمالة، بأي نقد، ومهما تواضع.

لقد تابعنا الجدل الخليجي المصري بعد انتصار ثورة يناير وصعود مرسي وإخوان مصر.. ومن موقع اختلافنا مع مرسي وإخوانه، كنّا نشعر بأعمق مشاعر الإهانة الشخصية والقومية، ونحن نرى كل هذا التطاول على مصر والمصريين، وعبارات "الزحف على الركب والبطون" وما شابهها، وهي تستخدم في إدارة الخلاف أو بالأحرى، حفلات الردح ضد أول رئيس مصري منتخب، ودائما تحت سيف التهديد بورقة العمالة المصرية الوافدة و"حفنة دولارات مغمّسة بالذل والأجندات إياها".

والمؤسف حقاً، أننا لا نجد في علاقتنا مع "الغرب الكافر" تعاملاً مماثلاً.. فلم نسمع عن مصري أو أردني أو لبناني تم تسفيره من بريطانيا أو أوروبا أو الولايات المتحدة، لمجرد أن تظاهرة حرقت صورة أوباما أو هولاند أو براون، ولم نسمع عن دولة غربية أوقفت مساعداتها لنا لمجرد أن ساساتها وقادتها تعرضوا للنقد والتشهير في صحافتنا وتظاهرات شوارعنا، من دون أن نجد أنفسنا مضطرين لا للكفيل ولا للتذلل على الأبواب والأعتاب، ومن دون أن يذكرك أي منهم، بأنهم أصحاب "اليد العليا"، واليد العليا في ثقافتنا خير من اليد السفلى.

والمؤسف أيضاً أن البعض في "دول اليد السفلى" قد استمرأ عملية الخضوع والخنوع، فنراه ينتصر "لليد العليا"، على حساب كرامته الوطنية، كما يحصل الآن في لبنان، حيث يُخرج كثيرٌ من السياسيين ألسنتهم شماتة بالعماد عون، لأنه بتصريحه الأحمق ذاك، يعرّض مصالح مئات ألوف اللبنانيين في الخليج للخطر، وقد يعرض حملاته الانتخابية المقبلة للمخاطر.. فأي تشوه وانحطاط أكثر من هذا، سيما وأنه يترافق مع غياب أي صوت نقدي للموقف الخليجي، الذي أقل ما يمكن أن يقال في وصفه بأنه غير أخوي وغير إنساني، وينتمي إلى أكثر مدراس العقوبات الجماعية تخلفاً: مدرسة "الثأر القبلي".

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 23/شباط/2013 - 13/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م