أنا في اربيل.. فهل أنا في العراق..؟

نبيل ياسين

وصلت اربيل بعد أربع وثلاثين سنة حين زرتها آخر مرة. تلك المحافظة الصغيرة لم تعد كذلك. والطابع الكردي للمدينة التي كانت تحرص على زيها الكردي الذي كان يملأ الشوارع، اقتنعت أخيرا ان هويتها لم تكن تقتصر على الزي القومي وانما في الحصول على حقوق تلك القومية وتشكيل مقومات فدرالية قادرة على ان تكون هوية لقومية عانت كثيرا وكافحت طويلا من اجل ان يكون لها موطئ قدم على الأرض وإقامة دائمة في الحياة.

وصلت اربيل على رأس وفد اللجنة الدولية لدعم الديمقراطية في العراق، بدعوة من رئاسة برلمان إقليم كردستان. حرص الفدراليون الكرد على سماع أفكار وآراء الآخرين.. مساء يوم وصولنا كان العراق يلعب لعبته الكروية مع البحرين. وحين تأكد الفوز العراقي هبت أصوات كردية تهتف وأصوات أخرى تبكي فرحا فعلق السكرتير العام للجنة ضرغام كاظم متسائلا بابتسامته المعتادة: هل مثل هؤلاء يريدون الانفصال..؟

لكن السياسة تخرب ما تصنعه العواطف وما تحققه الرياضة. في عالم اليوم تحولت الرياضة الى اكبر مقياس للشعور الوطني والقومي. وحين كان الفريق العراقي يلعب أيام صدام وعدي كان الكثير من العراقيين يعانون من اضطراب مشاعرهم. فلا يفرحون لفوز فريقـ(هم) العراقي ولا يحزنون لهزيمته. كان الأمر كله متعلقا بالنكاية من نظام صدام ومن ابن النظام الأهوج عدي.

اليوم يملك العراقيون فريقا يوحد مشاعرهم الوطنية. لكن إذا انتقلنا من الوجدان الرياضي الى الوجدان السياسي سنجد ان الأمر يختلف، وان الأزمات تشق وحدة الفريق السياسي العراقي، وتلحق به الهزائم وتسجل في مرماه عشرات الأهداف خاصة مع غياب حكم عادل وحكيم، وصناعة مشاعر هوجاء تشغّل ماكينة الانحياز الحاد دون توقف.

بدأنا باجتماع مع رئاسة برلمان الإقليم شرحنا فيه أهداف اللجنة الدولية وأسلوب عملها مع إشارات مقتضبة من الطرفين بضرورة ان يكون الدستور معيار الحوار السياسي وحل الخلافات. لكن لقاءات من هذا النوع ليست للقرار وانما لصناعة رأي قد يكون مشتركا في زاوية النظر الحادة. انتقلنا الى لقاء اللجنة القانونية التي تتشكل من ثلاثة عشر عضوا. حين عرّفنا أنفسنا وعرّفوا أنفسهم واحدا واحدا كانت ملاحظتي الأولى هو إنني لم أتذكر جميع أسماء التنوع والتعدد السياسي والقومي الذي يتواجد في البرلمان. إذا كانت الديمقراطية تقوم على ثلاث قوائم، فالتعددية قائمتها الأولى. لان الديمقراطية لا تقوم بدون التعددية السياسية. بينما يشكل حكم القانون قائمتها الثانية. لذلك قدم أعضاء اللجنة أفكارا محددة واضحة مست الخلاف بين الحكومة الاتحادية والإقليم. وإذا كانت الديمقراطية تحتاج الى قائم ثالث فهو الدستور. وهنا تكمن أزمة تفسير الدستور. لان الفكرة السائدة عن الدساتير هي ان تطبيق الدساتير يختلف غالبا عن تفسير أحكامها. فالدساتير هي: غالبا ما لا تتفق مع تطلعات كل فرد ساهم بوضعها، وغالبا ما تكون تسوية لتوازنات متغيرة ومساومات تاريخية ومرحلية في وقت واحد. وعلى الأكثر يتضمن كل دستور تنازلات من كل طرف تكون أثناء تطبيق الدستور وتفسيره حية ترزق فتشكل خلافات جديدة ولا يستثنى الدستور العراقي من تلك الأعراض.

لا يمكن لأي حوار سياسي وطني في ظل نظام دستوري، ان يقوم على وجهات نظر سياسية فقط. فهذا يعني الدوران في حلقة مفرغة تماما يسميها كثير من السياسيين والصحفيين العراقيين (المربع الأول) واسميها أنا نقطة الصفر. أي إلغاء التراكم من اجل الوصول الى نهاية للازمة. وها نحن نكاد ننهي العام العاشر دون ان نحقق التحول الديمقراطي ودون ان ندعم ركائز الدولة ودون ان ننتج المواطنة اللازمة للدولة الديمقراطية. عشر سنوات نعيد خلالها إنتاج الاديولوجيات الشمولية التي لا ترضى بالآخرين ولا تقتنع بمشاركتهم ولا تحقق الفرص العادلة للعيش المشترك.

الحوار الوطني الحقيقي لا يقوم على التصورات الإيديولوجية، لان الايدولوجيا لا تعطي حلولا، وانما تكرس عقائد وقناعات ثابتة مثل إلغاء الآخر ونفيه من المكان. لدينا دستور ديمقراطي حقيقي. وهناك نواقص في هذا الدستور كما وجدت نواقص في كل دساتير العالم. ولذلك يتم النص على إجراء التعديلات أما بالثلثين او باستفتاء عام او بطرق أخرى كثيرة. لكن دستورنا ديمقراطي. غير ان المشكلة أنني لم اسمع منذ عام 2006 حتى اليوم حوارا وطنيا جرى استنادا الى الدستور. ولو كنا استمعنا الى الدستور وحملنا تفسيراتنا وانتقائيتنا وغوغائية بعض المحللين السياسيين والقياديين في الكتل البرلمانية الذين يتمتعون بعقلية شمولية او عشائرية قديمة ويصفون كل مطلب مشروع بأنه (غير دستوري) الى الحوار الوطني ثم الى المحكمة الاتحادية، او الى الرأي العام، لكنا عبرنا الأزمات وكرسنا حلولا دستورية لها.

الدستور والعلم وتاريخ القمع

أعطى الدستور وحدد في نفس الوقت وظائف رئيس الوزراء. أي ان الدستور يجبر رئيس الوزراء على (تنفيذ) واجباته وليس هناك منطق في الاعتراض على تنفيذ هذه الواجبات. فالشخص الذي يشغل منصب رئيس الوزراء في الديمقراطيات الأوربية يعرف بأنه موظف بدرجة رئيس وزراء. وبعض الاعتراضات التي بدأت ضد رئيس الوزراء لم تكن تحمل وجاهة لأنها ترفض المنصب وصلاحيات المنصب. ومن جهة أخرى نص الدستور على ضرورة ان تكون جميع الإجراءات التي يقوم بها رئيس الوزراء مطابقة للقانون. وهناك عدد من الإجراءات لم تكن مطابقة للقانون. لكن وجهة النظر السياسية أقوى من الاحتجاج بالقانون. وهذه مشكلة يعاني منها الفكر السياسي العراقي وتخضع للدستور نفسه للتسييس والتعامل معه انطلاقا من المواقف والمصالح السياسية وليس انطلاقا من روح وجوهر النص التي تتحول الى (وظيفة) فالدستور العراقي لم يتحول الى وظيفة بعد.

هناك نفوذ هائل للسياسة على القانون. ولذلك يختص البعض بالقول بان هذا الإجراء او ذاك مسيس. لكن المشكلة ان تسييس الإجراءات او الاتهام بتسييسها أمر يكاد الجميع ان يمارسوه.

يوصف الدستور بأنه نص قانوني ينظم الحياة السياسية. ولكن هذا الوصف لا يحمله كثير من السياسيين العراقيين في عقليتهم. لذلك يتصرف الديمقراطيون بناء على ترسخ المفهوم في عقلهم ولهذا السبب لا نرى رئيس وزراء او رئيس جمهورية في دولة ديمقراطية أوروبية يخلو عقله من (مفهوم) الدستور، فإذا فكر باجراء او قرار فكر بالدستور أيضا ومن هنا لا نشهد في الحياة الديمقراطية الأوربية اتهامات بانتهاك الدستور إلا في حالات نادرة جدا

تجولنا في اربيل وأعجب بعض أفراد الوفد بالتمدن الظاهر في المدينة، كما لاحظ غياب العلم العراقي وصورة رئيس الجمهورية في كثير من المؤسسات. نفهم تماما ان العلم العراقي لم يكن يخفق على الحرية والعدالة والحقوق القومية والسياسية والمدنية للعراقيين جميعا، وانه خفق بشكل خاص، على دبابات الجيش وكتائب منظمات البعث والجيش الشعبي التي كانت تقتحم منازل وقرى ومدن الأكراد. لكن النظام اليوم نظام أسهم فيه الأكراد بشكل وافر، فهم يشركون فيه بشكل فعال سواء رئاسة الجمهورية او البرلمان او الحكومة فضلا عن الإقليم الذي يمثل أماني وتطلعات الاكراد.

في اللقاءات الكبيرة التي عقدت سواء من قبل البرلمان او نقابة الصحفيين وحضرها عشرات المثقفين والأكاديميين والمستشارين والنواب كان النقاش يسمو في اغلب الأحيان ليصل الى اتفاق على الطريق الذي اختاره العراق: الديمقراطية والدستور. وما نحن بحاجة إليه هو الوقت لكن لكي يكون هناك وقت يجب ان تكون هناك بداية.

من الواضح ان الخيار الأخير للأكراد هو تقرير المصير. أما وان الاكراد اختاروا الفدرالية في العراق مضطرين او كارهين او راضين، فان هذا الاختيار رهن بالطرفين العربي والكردي وليس بطرف واحد.

النخبة المقصية

منذ عشر سنوات تتقدم العشائر والأديان والمذاهب الصورة السياسية بحيث أصبح من النادر ان يكون هناك حضور للنخب الحاملة للمشروع الديمقراطي. وقد توفرت في اربيل مناسبتان لحوار النخب الثقافية والسياسية مما يعزز الحضور الثقافي للسياسة، وهو أمر تطلبه الديمقراطية وثقافتها التي يعرفها منظر الديمقراطية الفرنسي الآن تورين بأنها الوعي باستحالة عودة الديكتاتورية. ولا يتحقق هذا الوعي بالثقافة الديمقراطية إلا من خلال النخب الاجتماعية باعتبارها الفاعل الاجتماعي للديمقراطية التي يعتقد تورين نفسه ان الديمقراطية لا تحقق الفوز حين يتغلب الفعل السياسي على الكفاح الاجتماعي، بحيث يجتاح الفعل السياسي مجال الدولة ومجال المجتمع المدني في نفس الوقت. فالديمقراطية نظام أنشأته الجماعة بمعزل عن النظام العلوي لتكون تعبيرا عن كل فرد. لذلك كنا نقول في لقاءاتنا في اربيل ان الدستور العراقي، باعتباره التعبير القانوني عن النظام الذي أنشأته الجماعة العراقية، ضمن حقوق الأفراد باعتبارهم عربا وكردا وتركمانا وآخرين وباعتبارهم سنة وشيعة ومسيحيين وايزديين وصابئة وبالتالي فان الدفاع عن الدستور هو دفاع عن كل العراقيين.

ما يحتاجه العراق الديمقراطي اليوم هو عودة النخب الى مجال عملها المدني لتكوين سلطة الرأي العام الحامية والفاعلة الاجتماعية في نفس الوقت للديمقراطية. وذلك يعني ان السلطة المدنية للنخبة الثقافية والأكاديمية والتجارية والصناعية والتكنوقراطية هي ضمانة الديمقراطية وعمل الدستور أكثر مما هي الطبقة السياسية ذلك ما نشهده في الدول الديمقراطية.

خلال وجودنا في اربيل واجتماعاتنا التي ندرك أنها مثمرة قمنا بزيارة الأستاذ فاضل ميراني سكرتير الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي تعرض لحادث سير للاطمئنان على صحته. كان ممثلون عن قبائل طي وشمر وقبائل عربية أخرى يفدون مثلما كانت قبائل ونخب كردية تفد بحيث تجد صعوبة في عزل ما هو كردي عما هو عربي. وأنا هناك فكرت طويلا في موضوعة المناطق المتنازع عليها وتذكرت قصة من قصص ترسيم الحدود بين دول أوروبا فقد قامت لجان بتحديد حدود سويسرا وفرنسا ووقع بيت امرأة فرنسية ضمن الحدود السويسرية الجديدة فرفضت ان تنتقل من تاريخها الفرنسي الى موقع جديد، فما كان من اللجنة المكلفة ترسيم الحدود الا وان أعادت ترسيم الحدود فأدارت الحدود السويسرية الى ما وراء بيت المرأة الفرنسية لتحتفظ بقوميتها. هل المناطق المتنازع عليها بين بغداد واربيل (هذا ما صار الناس يفهمونه من التنازع) هي مناطق بلا إحساس قومي او أنساني؟

كانت المادة 140 والمواد110و110 جزء من النقاشات التي اتسعت بفعل تعدد الأفكار والرؤى. إذا كانت المادة 140 التي شارك حقوقيون أكراد في صياغتها قد انتهت صلاحيتها دستوريا بتحديد انتهاء نفاذها بتاريخ 31كانون الأول عام 2007 فان الحق الذي تضمنته المادة لم يسقط، فالحق حسب فلسفة الحق عند علي بن أبي طالب لا يبطله شيء، أي ان التقادم لا يسقط الحق. فماذا لو أخذنا واحدا من ثلاثة حلول ؟ الأول هو تقديم مشروع قانون بتمديد صلاحية العمل بالمادة ثلاث او خمس سنوات، والثاني اعتبار المادة منتهية والتقدم بمشروع قانون بديل يتضمن روح المادة، أما الثالث فهو تحكيم أطراف دولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي والمنظمات الدولية.

ما تزال فكرة الايدولوجيا مسيطرة على عدد من العرب والأكراد. وهذه الايدولوجيا تسعى لجعل الدستور جزءا من العقل الوجداني المتعصب الذي يلغي حقوق الآخرين، وهذا ينطبق على الأطراف المتنازعة لان بليخانوف الذي كان أكثر السياسيين الروس موضوعية يقول ان الصراع الإيديولوجي يبقى في أذهان من يخوضونه حتى بعد انتهاء مرحلته الأيدلوجية.

كانت أيام اربيل مثمرة ولن يلغي ثمرتها إساءة التصرف في اليوم الأخير حين وجدنا أنفسنا بدون توديع وبدون موظف البروتوكول الذي لم يأت رغم اتصالنا به مما جعلنا نضع أكثر من تفسير. ولذلك كان مرورنا من البوابة 105 في مطار اربيل الذاهبة الى بغداد محبطا. لكن هذا الإحباط لم يغير الود الذي أبدته الوجوه والكلمات والأيدي الكردية التي استقبلتنا وضمتنا الى حوارات الكرم الكردي او الحفاوة التي استقبلنا بها. فالعراق يحتاج الى التسامح والتعايش والفهم المشترك والى فهم ردود الأفعال العاطفية وإذا كانت اربيل ما تزال في العراق فان هناك من يذهب إليها من بغداد او المدن الأخرى ليعمل ويعيش في مدينة أصبحت متميزة حتى بالحضور العربي فيها.

www.almowatennews.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 17/شباط/2013 - 7/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م