شبكة النبأ: "ليس من الضروري قبول أي
شيء باعتباره حقيقياً أو زائفاً.. يتعيّن على المرء أن يقبله ويسلّم به
فحسب كشيء ضروري". من مسرحية (المحاكمة) لكافكا.
في علم الاجتماع ونظرياته، ان ما يمر به العراق الان هو مرحلة
انتقالية.. وهي مرحلة انتقالية في كل شيء، في السياسة والاقتصاد
والثقافة والاجتماع.. لكنه ايضا انتقال بطيء، لا يمكن تسريع وتائره
بحكم عدة معوقات موجودة في المجتمع.
ما يعيشه العراقيون موروث من الحقبة السابقة، سياسة واقتصاد وثقافة
واجتماع، وهو موروث طاغي الحضور، سواءا بتمظهراته المادية عبر الاشخاص
او المؤسسات او عبر الافكار واللغة المعبرة عن هذه الافكار.
لازلت استعيد صورة ظافر العاني وهدى النعيمي، وهما يرتديان الزيتوني،
على سطح احد فنادق العاصمة بغداد، ايام الحرب الامريكية على العراق،
وهما يتحدثان الى الجزيرة عن الصمود والقتال واجتماعات (السيد الرئيس
القائد حفظه الله ورعاه) وتعليماته الإستراتيجية لصد العدوان.. بعد
العام 2003 ظهرت هدى النعيمي متظلمة من النظام السابق. واستطاعت الحصول
على بعض المكاسب السياسية، من هنا وهناك، حتى احتضنتها القائمة
العراقية، كعضوة في جبهة صالح المطلق.
ظافر العاني، بدوره خلع الزيتوني، وارتدى القاط السياسي للحقبة
الجديدة، وايضا في نفس القائمة، واصبح له جريدة يومية باسم (المستقبل)
تمارس دورها المرسوم في التحشيد والتعبئة.
المجتمع العراقي في الكثير من حراكه وتجلياته ورث مساحة واسعة من
تلك الثقافة عن النظام السابق، ولعل ابرز عنوان لتلك الموروثات هو
التسافل السياسي، والذي كنا نلمسه عبر المظاهرات التي يقودها الرفاق
البعثيون ورجال الامن، من تجميع المتظاهرين من المدارس والكليات
والمصانع والدوائر الى مقرات الشعب والفروع وساحات الاحتفالات تحت شعار
(بالروح بالدم نفديك يا صدام)، وهو تسافل امتد الى الغناء والشعر
والقصة والمسرح والفن التشكيلي.
وسادت في التسعينات من القرن المنصرم في المسرح العراقي، ثقافة
التسافل والسوقية والشوارعية والالفاظ النابية والمفاهيم الخرقاء
والسخرية الفجة الفظة في الكثير من المقاطع المسرحية بدافع الزيادة في
الترويج. مثل استخدام الاشارة الفاحشة باليد بدلا عن العبارة..
وبالحركات الايمائية الجسدية بدلا من حالات التشاتم المعروفة في الوسط
المسرحي العراقي.. ولم يعد منافيا للذوق ان تشاهد في مسرحية عراقية
اصيلة ان يسب احدهم اخاه في التمثيل ب (ابن الحولي) و(ابن الركعة)
و(ابن الزمال) وكل هذا كان برعاية عدي صدام حسين.
منذ العام 2003 لم يتوقف (التسافل) عن الدخول الى مجالات اخرى، فهو
اضافة الى صبغه للسياسة بالكثير من مفرداته دخل الى الاعلام العراقي
صحافة ورقية او الكترونية او فضائيات او اذاعات.. واقترن هذا التسافل
(المجيد) بالعبثية الطاغية على السياسة والاعلام، وهي عبثية تذكر بمسرح
العبث الشهير، والكلمة في اصولها اللاتينية تعني ما هو نشاز ويخرج عن
المنطق العام، وتستخدم في علم المنطق للدلالة على التناقض الذي يؤدي
إلى نتائج خاطئة.
ومن ميزات هذا المسرح، أنه يهدف الى تخريب المنطق ويتطلع الى غير
المتوقع والى المستحيل منطقيا.
في مسرح العبث تتعدد العقد، لكنه لا يقدم لها حلا. فالصراع بلا
بداية ولا نهاية وسط فراغ زمني، فلا يوجد إحساس بالزمن، وتتسم اللغة في
مسرح العبث بأنها تعطي للمشاهد حافزا للدهشة أو الاعجاب، والحوار أقرب
إلي المونولوج الداخلي، وهو مبتور وغامض ومبهم، حيث لا تواصل بين
شخصياته، ويمكن القول إن اللغة في مسرح العبث هي تأكيد علي الفشل
والعجز عن التواصل الإنساني.
الا تنطبق تلك الميزات على المسرح السياسي العراقي ومثله على
الاعلام العراقي، بطيف واسع منه؟، ربما بعض الامثلة تستطيع تقديم عدد
من المسرحيات العبثية التي يمكن ان يطالعها كل متابع للاعلام العراقي.
جميعنا شاهدنا وسمعنا ما قاله عدد من النواب الذين شكلوا لجنة تقصي
حقائق عن حادثة اطلاق النار على المتظاهرين بالفلوجة، ولم نسمع او
نشاهد ما قراته على الصفحة الاولى لجريدة (المستقبل) التابعة لظافر
العاني، فهي بعددها 635 والصادر يوم الاحد 27 كانون الثاني 2013 ، حيث
جاء العنوان: الجيش رد على قنينة ماء باطلاق الرصاص الحي ضد
المتظاهرين.
في اليوم التالي وفي العدد 636 ، جاء العنوان على الصفحة الاولى
ايضا بالشكل التالي: الفلوجة: الجيش يطلق النار على مواطن يجري مكالمة
هاتفية، واذا انتقلنا الى العبث والتسافل الذي يحدث في الكثير من
المواقع الالكترونية نقرأ العجب العجاب.
فأحد المواقع والذي ينشر مواد اقل ما يقال عنها انها (خرابيط) او
(خريط) يعنون احد اخباره بالشكل التالي:
وفاة مدير مكتب المالكي سابقاً.. طارق نجم يفارق الحياة على خلفية
مرضه بالسرطان
وهو لا يكتفي بالتلفيق في العنوان او صياغة الخبر، بل يسبغ عليه
مسحة من التصديق من خلال ذكر صحيفة لندنية وهي التايمز، وهو تلفيق لو
صح عن الجريدة اللندنية لكبدها خسائر مادية جسيمة.. وليس مثل ما يحدث
عندنا تحت شعارات حرية الراي والتعبير.
وقد علق على الخبر احد القراء بالقول:
قبل دقائق من كتابة هذا التعليق كان هناك اتصال هاتفي بيني وبين
الاخ الدكتور طارق نجم العبد الله، و تحدثنا عن خبر وفاته، ولأول مرة
في التأريخ البشري يتم الاتصال بين الاحياء و الاموات، هذا ما تداولناه
بالحديث عن الخبر وضحكنا، وكما يقال (شر البلية ما يُضحك) فعلا انها
بلية حينما يتعامل الاعلام مع ما ينقله من اخبار او اي نشاط إعلامي
بدون تحقق و تمعن وكأن المتلقي مجرد مستهلك للخبر. وهذا يضر المصدر
الإعلامي اكثر مما يضر المعني لأن العالم اصبح قرية، لا يمكن اخفاء
الحقيقة فيها الّا لبضع دقائق.
ارجو من المعنيين في الموقع نشر الخبر مباشرة من صحيفة (التايمز
اللندنية) حتى يعتبر ما نشره الموقع غير مفبرك.
وخبر اخر جاء تحت هذا العنوان الغرائبي:
مظاهرات الانبار كشفت زيف وزارة التجارة.. شحنة معلبات اجبان مغشوشة
تكفي لقتل 5 ملايين عراقي!!، هل سمع قاريء يوما ما بان مادة سامة في
الغذاء يمكن ان تقتل خمسة ملايين شخص؟. |