فقه الدولة: في إدارة الأمور الحسبية

الشيخ فاضل الصفار

إن الاستقراء الخارجي يدلنا على عدّة آليات لممارسة السلطة قامت عليها أنظمة الحكم في مختلف دول العالم، وهي قد تتفق مع موازين الإسلام في الأصل وإن كان للشرع في تفاصيلها وجزئياتها رأي توسعةً أو تضييقاً، كما أن هناك آليات أخرى انفرد بها النظام الإسلامي على ما يستفاد من مجمل أدلته اللفظية واللبية يمكن جعلها فيما نحن فيه قواعد أساسية لممارسة السلطة، ومن أهمها ثلاث:

1- الأحزاب السياسية.

2- القوى الاجتماعية.

3- الأمور الحسبية.

وقم تم الحديث في الفصل الاول والفصل الثاني،  وفيما يلي سيكون الحديث عن الفصل الثالث:

الأمور الحسبية

وهي من خصوصيات الحكومة الإسلامية، وهي في الأصل إما تعد من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من شؤون ولاية الحاكم وعدول المؤمنين للتصدي لمهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما عرفت، والظاهر أنها من أبرز وظائف السلطة التنفيذية في الدولة، وقد عرف الإصطلاح عليها بالأمور الحسبية؛ لأن القائم بأمرها يتولى أمرها حسبة إلى الله سبحانه على بعض المعاني، كما اصطلح على المؤسسة المفوضة لها بإدارة الحسبة والأشخاص المتصدين لها بالمحتسبين، وتفصيل الكلام في هذا يستدعي التعرض إلى مسائل:

المسألة الأولى: في الأمور الحسبية ووجوب القيام بها

 قد عرفت أن الحسبة مأخوذة من الاحتساب، كعدة من الاعتداد، وهو إما بمعنى ما يؤتى به حسبة، أي قربة إلى الله تعالى، أو بمعنى الأجر، أي ما يرجى من إتيانه الأجر والثواب عند الله تعالى[1]، ومنه الحديث: «من أذن عشر سنين محتسبا يغفر الله له مد بصره»[2] أي طلباً للثواب من الله تعالى، وفي الحديث أيضاً: «من صام من رجب يوماً إيماناً واحتساباً»[3] وعلى هذا فالأمور الحسبية هي ما يصح أن يطلب في إتيانها الأجر والثواب من الباري عز وجل، سواء كانت من الأمور النوعية العامة كالقضاء والحكومة بين الناس، أو من الأمور الشخصية كتجهيز المسلم الذي لا ولي له، أو تولي شؤون الأيتام والقصّر، أو القيام بشؤون المقدسات الدينية، وربما يمكن الجمع بينهما؛ لأن المساق واحد، سوى أن التعريف الأول ناظر إلى نية المحتسب، والثاني ناظر إلى المحتسب له وهو الباري عز وجل، وبذلك يظهر رجوع ما احتمله البعض من إرجاع الحسبة إلى المحاسبة بمعنى الرقابة، مستظهراً ذلك من قولهم الحسيب أي المحاسب[4]، كما في قوله تعالى: {وكفى بالله حسيباً}[5].

ومنه يعلم أن موضوع الأمور الحسبية لابد وأن يكون مما فيه رضا الشارع وإذنه، فما هو المرجوح سواء كان مكروهاً أو محرماً لا يقع بنفسه من موارد الحسبة؛ لأنه لا يطاع الله من حيث يعصى، ولا يصح التقرب بالمبغوض عند المولى عز وجل، ومن هنا قال جمع: بل ولعل المجمع عليه أن موردها يكون من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بما فيه مرضاة الله عز وجل إيجاباً أو ندباً[6]. نعم النسبة بينها وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي العموم المطلق[7] على بعض الوجوه كما عرفت.

وكيف كان، فشأن المحتسب أمور ثلاثة:

1. بيان الأحكام والموضوعات المستنبطة، بل غير المستنبطة لمن لا يعرفها.

2. الشهادة على الناس فيما إذا شهد المحتسب تعاطيهم وتنازعهم أو خروجهم عن الضوابط والحدود الشرعية أو العرفية أو الأخلاقية.

3. الإلزام والردع للعصاة والمجرمين مع تخويل الحاكم للمحتسب إذا لم يكن من الفقهاء إجراء الحدود والتعزيرات والتأديب وما أشبه ذلك.

ومن الواضح أن هذه الشؤون الثلاثة تدخل في نشر المعروف وبسطه في المجتمع ودفع المنكر والمكروه عنه، والظاهر أن المراد بالمعروف في هذا الباب هو مطلق ما يستحسنه العقل أو الشرع من الواجب والمندوب، بل وبعض المباحات الراجحة لجهة من الجهات الراجعة إلى مصالح المجتمع الدينية أو الدنيوية.

ولا يبعد إمكان تعميمه للواجبات الأخلاقية والفضائل والرذائل، خصوصاً ما يرتبط بالعفة العامة والحقوق، كما أن المراد بالمنكر هو مطلق ما يستنكره العقل أو الشرع محرماً كان أو مكروهاً أو مباحاً له حزازة عرفية لجهة من الجهات؛ إذ رب أمر لا يكون بالذات من المحرمات، لكن يمكن للحاكم أن يأذن في الردع عنه، وفقا لمصالح المجتمع بحسب قانون الأهم والمهم، أو الضرورات التي تبيح المحظورات، لكن ينبغي أن يكون هذا الردع مؤقتاً؛ لأن النهي الحكومي في مثله ناشئ من الضرورة، وهي تقدر بقدرها، ويدل على ذلك الأدلة الأربعة، فمن الكتاب آيات:

منها: قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}[8] بضميمة أن القوّام فعال من القيام وهو المبالغة فيه، ويعني من يكون عادته القيام، والقسط هو العدل[9].

وفي مفردات الراغب: قيام للشيء هو المراعاة للشيء والحفظ له، والقوام اسم لما يقوم به الشيء أي يثبت، كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به، كما في قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما}[10]

وعليه فالمراد من الآية كما في مجمع البيان: لتكن عادتكم القيام بالعدل في القول والفعل[11]، وفي هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسلوك طريقة العدل في النفس والغير، وهو المنقول عن ابن عباس[12] أيضاً.

ولا يخفى أن قوله سبحانه: {شهداء لله} أمر من الله سبحانه لعباده بالثبات والدوام على قول الحق والشهادة بالصدق تقرباً إليه، وطلباً إلى مرضاته، ودلالاتها على وجوب القيام بالأمور الحسبية إما من جهة الدلالة التضمنية لكونها من مصاديق قول الحق والشهادة بالصدق، أو من جهة الأولوية لشمول الأمور الحسبية إلى جانب التنفيذ والإجراء، مضافاً إلى القول والشهادة.

ومنها: عموم مثل قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات}[13] وقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}[14] بحمل الأمر فيهما على الوجوب، ودلالاتها على المستحبات ناشئة من مادة الخير والمغفرة وليس الهيئة، ولا مانع من كون تعلّق التكليف الوجوبي بالشؤون الخيرية والإحسانية، مع أنها في أصلها من المستحبات.

وأما الروايات فهي متواترة في مثل فعله (صلى الله عليه وآله) بنفسه في قضايا متعددة، وفعل مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة، مما لعلهما يربوان على العشرات[15]، كما ربما يمكن الاستدلال لها بمثل قوله (عليه السلام): «عونك الضعيف من أفضل الصدقة»[16] وقوله (عليه السلام): «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه»[17] لكن الظاهر دلالة مثل هذه الروايات على الاستحباب لا الوجوب، لكنه لا يضر في أصل الكبرى؛ لما عرفت من أن الأمور الحسبية تتصدى لكل ما هو معروف عقلاً أو شرعاً، وهو أعم من الواجبات والمندوبات.

وأما الإجماع فالقولي والعملي منه قام على ذلك، وقد تضافر النقل عن قيام الفقهاء بالأمور الحسبية وتخويلهم للمؤمنين القيام بها[18].

وأما العقل فيدل على وجوب التصدي لها؛ لأنها توجب جعل الأمور في نصابها، فيقوم النظام، ويدفع الهرج والمرج وغيره من المفاسد العظيمة.

وعليه فموارد جواز تصرف المتصدي للأمور المذكورة ونفوذ أمره فيها هو عموم الحسبيات، مما علم بعدم رضا الشارع بتعطيلها؛ لاستلزام تعطيلها اختلال النظام أو العسر والحرج، مع عدم التمكن من الرجوع إلى الفقيه أو عدم إمكان تصديه، أو عدم المصلحة فيه، ونحوها من المحاذير الداخلة في باب الأهم والمهم.

هذا وقد وقع النزاع بينهم في كفاية الواحد من المحتسبين؛ لكونه من الاستبانة عرفاً كما في رواية مسعدة، حيث ورد فيها «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة»[19]، مضافاً إلى قيام سيرة العقلاء على الاعتماد على الثقة، أو يلزم شهادة اثنين منهم، أو واحد مع غيره، احتمالان في المسألة. وهل المستفاد من هذه الأدلة مأذونية التصدي شرعاً من دون توقف على إذن الفقيه الجامع للشرائط أم لا؟ احتمالان، بل قولان:

الأول: ذهب إليه جمع من الفقهاء ومنهم السيد السبزواري (قدس سره) حيث قال بعد ذكر الأدلة: وكل ذلك إذن في التصدي، ولا يحتاج مع ذلك إلى الإذن من الحاكم الشرعي. نعم إذنه طريق للإثبات ولتشخيص الموضوع الذي يراد التصدي له، وإنه بالنتيجة من الأمور الحسبية حتى يتصدى له أو لا [20].

الثاني: ذهب إليه جمع، ومنهم السيد الشيرازي (قدس سره) في الفقه البيع[21]، وتظهر الثمرة في أنه لو أتى بالعمل جامعاً للشرائط يصح؛ بناء على عدم شرطية الإذن إلا في مقام الإثبات.

المسألة الثانية: في تصدي الرسول وعلي عليهما السلام للأمور الحسبية

 تدلنا الأخبار المتضافرة الواردة بطرق الفريقين على ذلك:

 منها: ما تضافر نقله في الاحتكار: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّ بالمحتكرين، فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق، وحيث تنظر الأبصار إليها[22].

ومنها: ما عن الكافي في رواية حذيفة بن منصور أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «يا فلان، إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلاّ شيئا عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولاتحبسه»[23] بضميمة أن هذا الأمر مخالف لقانون السلطنة القاضي بأن الناس مسلطون على أموالهم، إلا أنه حيث كانت هنالك ضرورة أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيعه حسبة حفاظاً على الناس.

ومنها: ما عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، إني سألت رجلاً بوجه الله فضربني خمسة أسواط، فضربه النبي (صلى الله عليه وآله) خمسة أسواط أخرى، وقال: «سل بوجهك اللئيم»[24] والرواية ظاهرة في النهي عن هذا التصرف غير الأخلاقي مع الباري عز وجل، إذ إن العبد لا يسأل بوجه الله الحاجة، وإنما يسأل بماء وجهه، أما السؤال بوجه الله فهو يوجب الانتقاص والمهانة.

ومنها: ما عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «مر النبي (صلى الله عليه وآله) في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيباً، وسأله عن سعره، فأوحى الله عز وجل إليه أن يدس يديه في الطعام ففعل، فأخرج طعاماً رديئاً، فقال لصاحبه: ما أراك إلاّ وقد جمعت خيانة وغشاً للمسلمين»[25].

ومنها: ما في مصادر العامة عن أبي هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّ على سفرة من طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: «يا صاحب الطعام، ما هذا؟» قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله): «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس» ثم قال: «من غش فليس منا»[26] وقريب منه مارواه أبو داود في سننه بسنده عن أبي هريرة أيضاً[27]. وكذا في كنز العمال عن بن عمر[28].

 وفي صحيح البخاري بسنده عن بن عمر: أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروا حتى ينقلوه حيث يباع الطعام [29]، وعن ابن حجر العسقلاني في الاصابة: استعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة[30].

وفي بعض المصادر سمراء بنت نهيك الأسدية أدركت النبي (صلى الله عليه وآله) وعمّرت، وكانت تمرّ في الأسواق وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتضرب الناس على ذلك بسوط معها[31]، وهذا ما ربما يكشف عن سيرة أهل الشرع، أو تلقي الصحابة ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو إحراز موافقته.

وفي كنز العمال عن كليب بن وائل الأسدي قال: رأيت علي بن أبي طالب مر بالقصابين فقال: «يا معشر القصابين، لا تنفخوا، فمن نفخ اللحم فليس منا»[32] وأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكاً بمنع التجار من الاحتكار، ومعاقبة من قارف الحكرة بعد نهيه[33]، وأمر (عليه السلام) رفاعة قاضيه على الأهواز بالنهي عن الاحتكار، وأنه من ركبه فأوجعه وعاقبه بإظهار ما احتكر[34].

وفي خبر حبابة الوالبية قالت: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس ومعه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار[35]، وهي أنواع من الأسماك محرمة.

وفي خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتي برجل عبث بذكره، فضرب يده حتى احمرّت، ثم زوّجه من بيت المال[36].

وفي صحيفة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) رأى قاصاً في المسجد فضربه بالدرّة وطرده[37].

وفي خبر السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أن أمير المؤمنين (عليه السلام) ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: أما إنها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتص منه»[38].

 وعن الكليني والشيخ قدس سرهما بسندهما عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدرّة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمّى السبيبة، فيقف على أهل كل سوق فينادي: يا معشر التجار، اتقوا الله عزوجل، فإذا سمعوا صوته (عليه السلام) ألقوا ما بأيديهم، وأرعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول (عليه السلام): قدّموا الاستخارة، وتبرّكوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف في جميع أسواق الكوفة، ثم يرجع فيقعد للناس»[39] أي يقعد للحكومة والقضاء.

وعن الصدوق (قدس سره) بسنده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) نحوه أيضاً[40].

وفي دعائم الإسلام عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه كان يمشي في الأسواق وبيده درة يضرب بها من وجد من مطفف أو غاش في تجارة المسلمين. قال الأصبغ: قلت له يوماً: أنا أكفيك هذا يا أمير المؤمنين، واجلس في بيتك. قال: «ما نصحتني يا أصبغ» وكان يركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهباء، ويطوف في الأسواق سوقاً سوقاً، فأتى يوماً طاق اللحامين فقال: «يا معشر القصابين، لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق، وإياكم والنفخ في اللحم» ثم أتى إلى التمّارين فقال: «أظهروا من رديء بيعكم ما تظهرون من جيده»، ثم أتى السماكين: فقال: «لا تبيعوا إلاّ طيباً، وإيّاكم وما طفا» ثم أتى الكناسة وفيها من أنواع التجارة من نخّاس وقمّاط وبائع إبل وصيرفي وبزاز وخياط، فنادى بأعلى صوت: «يا معشر التجار، إن أسواقكم هذه تحضرها الأيمان، فشوبوا أيمانكم بالصدقة، وكفوا عن الحلف، فإن الله تبارك وتعالى لا يقدس من حلف باسمه كاذباً»[41].

وعن الصدوق قدس سره بإسناده أن رجلا جاء برجل إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا زعم أنه احتلم بأمي، فقال (عليه السلام): «إن الحلم بمنزلة الظل، فإن شئت جلدت لك ظله» ثم قال (عليه السلام): «لكني أؤدبه لئلا يعود يؤذي المسلمين»[42].

وفي صحيحة الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد الله (عليه السلام) نحوه، وقال: فضربه ضرباً وجيعاً[43].

وعن عبد بن حميد في مسنده عن أبي مطر قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي: «ارفع إزارك فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لك، وخذ من رأسك إن كنت مسلما» فمشيت خلفه وهو بين يدي مؤتزر بإزار، مرتدٍ برداء، ومعه الدرة كأنه أعرابي بدوي، فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: أراك غريبا بهذا البلد ؟ فقلت: اجل، رجل من أهل البصرة، فقال: هذا علي أمير المؤمنين حتى انتهى إلى دار بني أبي معيط، وهو سوق الإبل، فقال: «بيعوا ولا تحلفوا، فإن اليمين تنفق السلعة، وتمحق البركة» ثم أتى أصحاب التمر فإذا خادم تبكي فقال: «ما يبكيك؟» فقالت: باعني هذا الرجل تمراً بدرهم، فرده مواليّ فأبى أن يقبله، فقال له علي (عليه السلام): «خذ تمرك وأعطها درهمها، فإنها ليس لها أمر» فدفعه[44].

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال، مما يجده المتتبع في مختلف كتب الأخبار والتاريخ، والمستفاد من مجموعها تصدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لما يتعلق بالأمور الحسبية المحفزة للناس على الاستقامة وملازمة التقوى والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واحتمال البعض أن بعض التصديات كانت بما هم حكام والحاكم مسؤول أو أول مسؤول في القضاء وحفظ الحقوق لا يضر بالمطلب، بل يؤكده؛ لعدم المانع في انطباق عنوانين أو ثلاثة على مورد واحد، فلا مانع من أن يكون تصديهما عليهما السلام من باب كونهم حاكمين، وكذا من باب التصدي للأمور الحسبية لأولوية التصدي لهما، أو أنها من شؤون الحاكم، كما ينطبق عليه عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا فضلا عن صراحة بعضها فيما ذكرنا، ولا يخفى إمكان المناقشة السندية في بعضها، إلا أن المجموع من حيث المجموع ربما يفيد الاطمئنان بصدور بعضها، بل ربما مع الالتفات إلى وجود الصحاح من الأخبار فيها يقطع بذلك.

 وكيف كان، فإنه بضميمة وجوب الاقتداء والتأسي يستفاد منها وجوب الأخذ بها، وذلك يكفينا دليلاً على شرعية التصدي للأمور الحسبية.

المسألة الثالثة: في وجوب تصدي عدول المؤمنين للحسبة

قد عرفت مما تقدم أن التصدي للأمور الحسبية من الواجبات الكفائية، وحيث إنها من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يجب على عموم المكلفين التصدي لها كفاية، وهذا مما لا كلام فيه، وإنما الكلام في أن جواز التصدي لعموم المؤمنين متأخر رتبة عن ولاية الحاكم، بمعنى أنه لا تصل النوبة إلى الحسبة مع وجود الحاكم الشرعي، أو هو في عرضه، والفرق بينهما أنه على الأول لا يجوز لغير الفقيه التصدي لها إلا بإذنه، أو عند فقده، أو تعذر الوصول إليه، بخلافه على الثاني، والظاهر أن مدار كلمات القوم لا ينحصر بمثل أموال الأيتام وشبههم وإن كان أكثر الكلام والتفاصيل دارت حوله، لكونه من باب المصداق؛ وذلك لأن موضوع البحث عام ويشمل جميع الأمور الحسبية والوظائف التي هي بيد الحاكم، والأمور التي لا يمكن تعطيلها بحكم الشرع لما يترتب عليها من المفاسد العظيمة، كإحقاق الحقوق وإجراء الحدود والقضاء والقصاص والدفاع عن حوزة المسلمين، وغير ذلك من شؤون الحكومة والنظام.

وكيف كان، إذا لم يمكن الوصول إلى الفقيه أو كان هناك فقيه غير نافذ الكلمة، فإنه يجب على عدول المؤمنين القيام بما ذكر من الشؤون العامة، والتصدي لها، وهذا ما عليه المشهور من أصحابنا كما هو الظاهر من كلماتهم.

ففي مفتاح الكرامة قال: ويستفاد من بعض الأخبار ثبوت الولاية للحاكم مع فقد الوصي، وللمؤمنين مع فقده[45]، وفي الحدائق نسبته إلى الأصحاب[46]، وفي مجمع الفائدة والبرهان الظاهر ثبوت ذلك لمن يوثق بدينه وأمانته بعد تعذر ذلك كلّه[47]، وفي كتاب البيع نسبه إلى عدم الخلاف[48]، وفي وصايا الحدائق قال: لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو مات ولم يوص إلى أحدٍ وكان له تركة وأموال وأطفال فإن النظر في تركته للحاكم الشرعي، وإنما الخلاف في أنه لو لم يكن ثمة حاكم فهل لعدول المؤمنين تولي ذلك أم لا؟ الذي قد صرح به الشيخ وتبعه الأكثر الأول[49].

وفي المسالك في عداد بحث الأولياء قال رضوان الله عليه: فإن فقد الجميع فهل يجوز أن يتولى النظر في تركة الميت من المؤمنين من يوثق به؟ قولان: أحدهما: المنع، ذهب إليه ابن إدريس؛ لان ذلك أمر موقوف على الإذن الشرعي وهو منتف، والثاني: وهو مختار الأكثر تبعاً للشيخ الجواز؛ لما فيه من المعاونة على البر والتقوى المأمور بها[50]، وهذا مختار جمع من المعاصرين أيضاً كما يظهر من تقريرات الميرزا النائيني[51]، ومهذب السيد السبزواري[52]، وفقه السيد الشيرازي[53] قدست أسرارهم وغيرهم من الأعلام[54].

ومورد جواز تصرفهم ونفوذه هو عموم الحسبيات، مما علم بعدم رضا الشارع بتعطيلها؛ لاستلزام تعطيلها اختلال النظام أو العسر والحرج مع عدم التمكن من الرجوع فيها إلى الفقيه، وهل المقصود من ثبوتها لعدول المؤمنين الحكم الوضعي فتكون من سنخ ولاية الفقيه أو مجرد الحكم التكليفي من الوجوب والندب؟ احتمالان، وقد رجح بعضهم الثاني؛ لأنه المتيقن من الأدلة، وغيره يحتاج إلى عناية وهي مفقودة[55]، لكن الظاهر إمكان الجمع لتوقف جملة من التصرفات على السلطنة كبيع أموال القصر ونحوه، فحينئذ تكون منتزعه من التكليف، ولعل اطلاق كلماتهم ينصرف إليه، فتأمل.

وكيف كان، فإنه يمكن الاستدلال لذلك بالأدلة العقلية، كإقامة النظام ودفع الفساد والهرج والمرج، وكذلك بالأدلة النقلية، وهي فيما نحن فيه متضافرة نذكر منها ما يلي:

الأول: قوله تبارك وتعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن}[56] فإن ظاهر الاستثناء جواز القرب إذا كان حسناً، وهنا كذلك، والظاهر أن الخطاب لا ينحصر بالحكام خاصة، بل ظاهره العموم، وخصوصية المورد لا تخصص الوارد، وإذا ثبت ذلك في مال اليتيم ثبت في غيره بالأولوية وبعدم القول بالفصل.

الثاني: عموم قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}[57] وأقل مراتب رجحان المعاونة هو الاستحباب فضلاً عن الجواز، ومن أجلى مصاديقه أمور الحسبة.

الثالث: خصوص الروايات الواردة في باب الوصية، كالخبر فيمن مات ولم يعيّن وصياً. قال (عليه السلام): «إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس فيه»[58] وإذا ثبت في هذا الباب فلا قائل بالفرق بين الوصية وغيرها، ولا يرد الإشكال في أن ذلك إذن من الإمام، والكلام فيما إذا لم يكن هناك حاكم؛ لأن الظاهر من الرواية أنها في مقام بيان الحكم الشرعي، وليس في مقام بيان الإذن في واقعة خاصة، ونظائره كثيرة في الفقه.

منها: قوله (صلى الله عليه وآله): «من أحيا أرضاً مواتا فهي له»[59] فإن الفقهاء استفادوا منها الحكم وليس الإذن في الإحياء، خصوصاً وأن وظيفة الإمام هو بيان الأحكام.

ومنها: صحيحة ابن بزيع. قال: مات رجل من أصحابنا ولم يوص فوقع أمره إلى قاضي الكوفة، فصيّر عبد الحميد القيم بماله، وكان الرجل خلّف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن؛ إذ لم يكن الميت صيّر إليه وصيته، وكان قيامه فيها بأمر القاضي؛ لأنهنّ فروج. قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام) وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصي إلى أحد، ويخلف جواري، فيقيم القاضي رجلاً منّا، فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: «إذا كان القيم مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس»[60] ودلالة الخبر مبنية على كون المراد من قوله (عليه السلام): «مثلك» المماثلة في العدالة والوثاقة، ومع احتمال كون المماثلة في الفقاهة يسقط عن الدلالة لانحصاره حينئذٍ بالفقيه.

 ومنها: ما رواه إسماعيل بن سعد الأشعري قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل مات بغير وصية، وترك أولاداً ذكراناً غلماناً صغاراً، وترك جواري ومماليك، هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال: «نعم» وعن الرجل يموت بغير وصية وله ولد صغار وكبار أيحل شراء شيء من خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولاه قاض قد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: «إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع، وقام عدل في ذلك»[61] ودلالته على المطلوب ظاهرة، كما أن وجه اعتبار رضا الأكابر من ولده السلطنة على أنفسهم؛ لأنه ليس للولي ولاية عليهم.

الرابع: ظهور إجماع الأصحاب على الجواز من دون نكير، كما يظهر بالتتبع[62]، وقد عرفت أن سيرتهم قامت على تولي مثل هذه المسائل.

ويتحصل مما تقدم: أن لعدول المؤمنين التصدي في الأمور التي لا يرضى الشارع بتعطيلها، وهذا أمر ثابت معلوم من الأدلة العقلية والنقلية، ولا نحتاج في إثبات هذا المعنى إلى أكثر من الالتفات إلى ما يترتب على تركه من إخلال النظام والفوضى والفساد والعسر والحرج ونحوها.

ومن هنا يعلم أنه إذا لم يتمكن الفقيه من تأسيس الحكومة الإسلامية إما لعدم تهيئة الظروف أو لعدم الخبرة فيها أو لضغوطات الظلمة وما أشبه ذلك من موانع فاللازم إقدام غيره ممن يوثق بعدالته وكفاءته وحسن تدبيره وتدينه على تأسيس الحكومة بإذنه، فإن ذلك أمر لا يجوز تعطيله بحال؛ إذ لابد للناس من أمير برٍّ أو فاجر كما عرفته من النص[63]، وإذا دار الأمر بين الفوضى أو الحاكم الفاجر قدم الفاجر، وإذا دار الأمر بين تصدي الفاجر والعادل وجب على العادل ذلك لأولويته ولشرطية العدالة في مثل الحاكم، ولكونه مكلفاً بحفظ النظام ودفع الهرج والمرج وصيانة الدين وتطبيق أحكامه وإقامته في المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من العناوين.

نعم، في صورة فقدان العادل أو في صورة أكفئية غير العادل فهل يجوز تصدي غيره مع الوثاقة أم لا؟ قولان، واللابدية العقلية قاضية بالكفاءة للأهم والمهم وغير ذلك من ضرورات الأحكام العقلية والشرعية.

المسألة الرابعة: في صيغ التصدي للأمور الحسبية

قد عرفت أن الشؤون الحسبية من أهم مهام الفقيه والأمة، والتي بها يمارسان السلطة وحفظ النظام والأمن وبسط العدل وضمان الحقوق، وسواء قلنا بأنها من مهمة الفقيه أولاً وبالذات ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الأمة أو قلنا بأنها مهمة الأمة في عرض الفقيه، بل ومن الواجبات الكفائية، فإن للقيام بهذه المهام الكبيرة صيغا متعددة.

الأولى: أن يتصدى لها فرد أو أفراد متفرقون كل يلتزم بتكليفه

الثانية: أن يتصدى لها جماعة خاصة تبرعاً.

الثالثة: أن يعيّن الفقيه أو شورى الفقهاء من يتصدى لها بصورة مخططة ومبرمجة وخاضعة لضبط ونظام.

الرابعة: أن تعيّن الأمة من تراه كفوءا لذلك.

ولا دليل يمنع من أي صيغة فيها، فيتمسك فيها بالأصل الأولي الجاري في الأشياء عند عدم الدليل، وهو أصالة الحل والإباحة، لكن في مقام الترجيح والتفاضل في امتثال التكليف أو أداء المهمة بأكملها فالظاهر أن الصيغة الأولى ناقصة لنقصان العمل الفردي عن الجماعي بمراتب كثيرة، وقد عرفت بعض الشيء عنها في بحث المؤسسات[64].

والثانية من هذه الصيغ كذلك، خصوصاً مع تصدي غير الخبراء، مضافاً إلى ما ربما تسببه من الفوضى واختلال النظام إما مع الجماعات الأخرى أو مع الحكومة، ومثله يقال في الرابعة؛ بداهة لزوم تعيين الأمة لجماعة من ذوي الخبرة والوجاهة لتعيين المتصدين لتعذر ذلك عليها بنحو المجموع، ولا إشكال في أن الفقهاء هم أفضل من تختارهم لذلك لقوتهم وأمانتهم وكفاءتهم، فيتعين حينئذٍ الأخذ بالثالثة، وهي أفضل الصيغ لو أمكن ذلك، وإلا فالرابعة ثم الثانية، ولعل السيرة العقلائية والمتشرعية قديماً وحديثاً قائمة على التصدي لمثل هذه الأمور بأحد الطرق الثلاثة حتى في مثل الدول التي لا يحكمها الفقهاء؛ إذ توزّع مهمات الحكومة والشؤون العامة المذكورة على الوزارات والإدارات والمؤسسات المختلفة لتنهض كل واحدة منها بمهمة من مهامها، بل ولا يبعد القول بوجوبه؛ وذلك لكونه مصداقاً لحفظ النظام والحقوق وتطبيق الأحكام الشرعية بطرق الطاعة وعدم الخروج عن الحدود والضوابط، وإلا كان واجباً تخييرياً كفائياً لتعدد البدائل الصحيحة شرعاً.

وكيف كان، فإن الأمور الحسبية كما يمكن أن تمارس بطريقة عامة ولا تخضع إلى نظام معين كذلك يمكن إخضاعها إلى مؤسسات قائمة ودوائر منتظمة تعمل تحت إشراف الفقهاء، أو الفقيه، أو الأمة، ومن هنا قلنا: إنها من أهم الوسائل التي تمارس بها السلطة من الجهتين المتقابلتين، أي من الحاكم إلى الأمة ومن الأمة إلى الحاكم.

المسألة الخامسة: هل التصدي للمستحبات مستحب أم واجب؟

لا إشكال في أن تولي الأمور الواجبة واجب، فهل تولّي الأمور المستحبّة مستحب أم واجب؟ وكذا الكلام في النهي عن الحرام والمكروه، فإن النهي عن الأول واجب لكونه نهياً عن المنكر، فهل النهي عن المكروه كذلك أم مستحب؟ احتمالان في المسألة، بل قولان:

الأول: الاستحباب، وهو المشهور بين الفقهاء[65]، بل حكي عن المفاتيح الإجماع عليه[66].

الثاني: الوجوب، وهو الذي احتمله في الجواهر[67]، ويظهر من السيد الأستاذ أعلى الله مقامه الشريف الميل إليه [68].

 واستدل المشهور بأمور:

الأول: السيرة، بل والإجماع المدّعى كما عرفت.

الثاني: العقل القاضي بأنه مع كون الفعل مستحباً أو مكروهاً لا يعقل أن يكون الأمر بالأول والنهي عن الثاني واجباً؛ لأنه يستلزم زيادة الفرع على الأصل.

الثالث: العقل أيضاً القاضي بأن الحكم بوجوب الأمر بالمستحب والنهي عن المكروه يستلزم التناقض؛ وذلك لأن العمل المستحب والمكروه يجوز تركهما، فلو كان الأمر بالأول والنهي عن الثاني واجباً لكان التارك لذلك مستحقاً للعن الظاهر في الحرمة؛ لقوله (عليه السلام): «لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له»[69] وغيره[70]، وهذا يستلزم التناقض في التشريع؛ لكون الشارع أجاز ترك فعلهما ولعن تاركهما.

 وأما غير المشهور فاستدلّوا بأمور أيضاً:

الأول: إطلاق ما دل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأدلة[71] تشمل في عمومها وإطلاقها المستحبات والمكروهات؛ لكونهما من مصاديق المعروف.

الثاني: ما دل على وجوب إقامة الدين كما في مثل قوله سبحانه: {أن أقيموا الدين}[72] ومن المعلوم أن إقامة الدين في المظاهر العامة تتم بالمستحبات وترك المكروهات؛ لأن أغلب المظاهر الدينية هي المستحبات، كزيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والحج المستحب والعمرة المستحبة، وزيارة الأئمة (عليهم السلام)، وبناء المساجد والحسينيات، وإقامة صلوات الجماعة والأعياد ومجالس الذكر وتلاوة القرآن والمآتم والاحتفالات، ورفع الآذان في المساجد والمآذن ونحو ذلك، مما إذا لم تكن لم يكن للدين مظهر ولا شعار، وهي كلها من المستحبات.

وعليه فإنه إذا لم تكن هذه المستحبات لم يكن الدين قائماً، فإقامة الدين إنما هي بإقامة هذه الأمور، وذلك ما لا يمكن إلا بالأمر بالمستحبات والنهي عن المكروهات، ويؤيّده أن أهل الشرع من العلماء والوعّاظ والصلحاء يتعاملون مع المستحبات والمكروهات معاملة الواجب في الأمر والنهي.

الثالث: بأن الأمر بالمستحب من مصاديق الدعوة إلى الخير المأمور بها في مثل قوله سبحانه وتعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير}[73] ولهذين الدليلين ترفع اليد عن أصالة عدم الوجوب لو احتملها بعض؛ وذلك لعدم وصول النوبة إلى الأصل بعد قيام الدليل على الوجوب.

 والظاهر إمكان المناقشة في أدلة المشهور من وجوه:

أما الإجماع فالظاهر أنه مخدوش صغرى وكبرى، أما الصغرى فلعدم قيام إجماع على أن الأمر بالمستحب مستحب مطلقاً؛ لما عرفت من أن الذاهبين إلى الاستحباب هو المشهور وليس الإجماع، وأما الكبرى فلاحتمال استناده إلى الأدلة التي ذكرها المشهور على الاستحباب، وقد اتفقوا على أن الإجماع محتمل الاستناد ليس بحجة، وأما السيرة فيمكن إنكارها، بل ادعاء قيامها على عكس ما ذهبوا إليه، وذلك لما نرى من استمرار أهل الشرع من العلماء والخطباء والصالحين بالأمر بالمستحبات والنهي عن المكروهات لفظاً وكتابة وتشجيعاً وحثا وما أشبه ذلك.

وأما عدم معقولية زيادة الفرع على الأصل فهذه ليست بقاعدة كلية؛ لأن المحال منها ما يستلزم أن يكون الجزء أعظم من الكل، وهذا إنما يصح في الحقائق التكوينية والانتزاعية العقلية، ولا يجري في الأمور الاعتبارية، وما نحن فيه من قبيل الثالث؛ ولذا فكك الشارع بين اللوازم والملزومات، وزاد في الفرع على الأصل في جملة من الموارد؛ لوجود حكمة ومصلحة فيها، مثل: حكم الشارع باستحباب السلام وحكمه بوجوب رده، وحكم الشارع بوجوب الوفاء بالعقود الجائزة، كما إذا وهب الإنسان شيئاً لزيدٍ فإنه بعدها لا يجوز له التصرف فيه وإن كان له الرجوع في الهبة، بل وفي بعض الموارد لا يجوز له الرجوع حتى في الهبة، كالهبة إلى ذي الرحم[74]، أو بين الزوجين على قول[75]، ونحو ذلك من الشواهد المتعددة المنتشرة في أبواب الفقه كاللقطة[76] والوقف[77] وغيرها[78].

وكيف كان، فإن الأمور الاعتبارية خفيفة المؤونة، فترجع في ثبوتها وعدمها إلى اعتبارات المعتبرين، وليست لضوابط عقلية دقيقة، وأما التناقض فالظاهر أنه غير ثابت لعدم المانع في أن يجيز الشارع لكل مكلف ترك المستحب والمكروه فعلاً، ولا يجيز لمجموع المكلفين تركهما؛ لأن الأول مجعول شرعاً على نحو العموم الاستغراقي، والثاني على نحو العموم المجموعي، كما لا مانع من أن يجيز الشارع لمكلّفٍ ترك المستحب والمكروه في الفعل، ولكن لا يجيز له ترك الحث على القيام بهما حكماً في المجتمع، فإن الفعل يعود إلى العمل في الخارج، وأما الحكم فيرجع إلى الأحكام.

ومن الواضح وجوب الحث على الالتزام بالأحكام الإلهية الشاملة للمستحبات والمكروهات في المجتمع العام؛ بداهة أنه لا يجوز تركهما على الجميع وإن جاز تركهما على الأفراد، ولذا اتفقت كلمتهم على وجوب تعليم الأحكام الشرعية مطلقاً الشاملة للواجبات والمستحبات والمحرّمات والمكروهات[79]، بل والمباحات على بعض الوجوه. هذا مضافاً إلى إمكان المناقشة في كلية ظهور اللعن في الحرمة، فقد ورد التعبير باللعن في الكثير من الموارد المقطوع بعدم حرمتها كقوله (عليه السلام): «لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثة: الآكل زاده وحده، والنائم في بيت وحده، والراكب في الفلاة وحده»[80] وما أشبه ذلك[81]، وقد حملها الفقهاء على الكراهة، وليكن هذا منه.

هذا من حيث أدلة المشهور، كما ربما يمكن المناقشة في أدلة غير المشهور من جهة عدم فهم الفقهاء وجوب الأمر بالمستحب والنهي عن المكروه من الأدلة؛ ولذا يصرّحون بأن الأمر بالواجب واجب وبالمندوب مندوب، بضميمة أن فهم الفقهاء حجة؛ لأنه كاشف عن ارتكازاتهم عن ملاكات الشرع، لأنهم من أجود الناس فهماً للأدلة وحدود انطباقها على مواردها.

ولعل من هنا يمكن الجمع بين القولين بالقول بالتفصيل بين الموارد التي علمنا من سياق أدلة الشريعة أهمية ملاكها وخطورتها على دين الناس ودنياهم من قبيل حفظ العفة العامة، ورعاية الآداب الاجتماعية، والالتزام بالمظاهر الدينية ونحوها من الشؤون التي يقوم عليها الدين والنظام من المستحبات والمكروهات فضلاً عن الواجبات والمحرمات، والأخرى التي لا تصل إلى تلك الدرجة، فيحكم بوجوب الأول منهما للأدلة العقلية والنقلية المتضافرة على الوجوب، وقد عرفت بعضها مما تقدم من المسائل وإن كانت من قبيل المستحبات والمكروهات دون الثانية.

وربما يمكن حمل كلام المشهور على ذلك؛ لمكان انصراف أدلة الاستحباب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه ذلك عن الموارد التي يقوم عليها حفظ الدين والنظام للنصوص الخاصة الدالة على وجوبها على أي تقدير، وقد عرفت من سياق الكلام المتقدم بعض ذلك.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

................................................

[1] النهاية في غريب الحديث: ج1 ص3 حسب ؛ لسان العرب: ج1 ص315 حسب.

[2] التهذيب: ج2 ص284 ح1131؛ الوسائل: ج4 ص615 ح6825 باب 2 من ابواب الاذان والاقامة.

[3] الامالي للشيخ الصدوق»: ص430؛ الوسائل: ج10 ص478 ح13889 باب 26 من ابواب الصوم المندوب.

[4] تفسير تقريب القران الى الاذهان: ج4 ص101 ؛ مجمع البحرين: ج2 ص41 حسب.

[5] سورة النساء: الآية6.

[6] مجمع البحرين: ج2 ص41 حسب.

[7] الفقه كتاب البيع: ج4 ص277.

[8] سورة النساء: الآية 135.

[9] انظر مجمع البيان: ج3 ص168.

[10] مفردات الفاظ القران الكريم: ص690 قوم».

[11] مجمع البيان: ج3 ص123 ذيل الآية 135 من سورة النساء.

[12] مجمع البيان: ج3 ص124 ذيل الآية 135 من سورة النساء.

[13] سورة البقرة: الآية 148.

[14] سورة آل عمران: الآية 133.

[15] الفقه كتاب البيع: ج4 ص277.

[16] الكافي: ج5 ص55 ح2.

[17] عوالي اللآلي: ج1 ص107 ح1؛ مستدرك الوسائل ج12 ص429 ح14526 باب 34 من ابواب فعل المعروف.

[18] انظر الفقه كتاب البيع: ج5 ص11؛ اعيان الشيعة: ج9 ص159 ــ 167 ترجمة الشيخ نصير الدين الطوسي.

[19] الكافي: ج5 ص313 – 314 ح40 ؛ التهذيب: ج7 ص226 ح989.

[20] مهذب الاحكام: ج27 ص17 بتصرف ؛ المصدر نفسه: ج15 ص369.

[21] الفقه كتاب البيع: ج4 ص277 ؛ وانظر كشف الغطاء: ج4 ص211.

[22] الفقيه: ج3 ص168 ــ 169 ح745 ؛ الاستبصار: ج3 ص115 ح408؛ الوسائل: ج17 ص430 ح22917 باب 30 من ابواب اداب التجارة.

[23] الكافي: ج5 ص164 ح2 ؛ الاستبصار: ج3 ص114 ح407.

[24] الكافي: ج7 ص263 ح18 ؛ الوسائل: ج28 ص366 ح34982 باب 2 من ابواب بقية الحدود.

[25] الكافي: ج5 ص160 ح7 ؛ الوسائل: ج17 ص281 ح22526 باب 86 من ابواب مايكتسب به.

[26] صحيح الترمذي: ج3 ص606 ح1315.

[27] سنن ابي داود: ج3 ص1498 ح3452.

[28] كنز العمال: ج4 ص158 ح9970.

[29] صحيح البخاري: ج2 ص957 ح2058.

[30] الاصابة: ج2 ص8 الهامش.

[31] الاصابة: ج4 ص335 الهامش.

[32] كنز العمال: ج4 ص158 ح9969.

[33] نهج البلاغة: ص438 الكتاب 53.

[34] دعائم الاسلام: ج2 ص36 ح80.

[35] الكافي: ج1 ص346 ح3 ؛ الوسائل: ج1 ص423 ح1661 باب 67 من ابواب اداب الحمام.

[36] الكافي: ج7 ص265 ح25.

[37] الكافي: ج7 ص263 ح20.

[38] الكافي: ج7 ص268 ح38.

[39] الكافي: ج5 ص151 ح3 ؛ التهذيب ج7 ص6 ح17.

[40] الفقيه: ج3 ص 120 ح514 ؛ الوسائل: ج17 ص383 ح22798 باب 2 من ابواب اداب التجارة.

[41] دعائم الاسلام: ج2 ص538- 539 ح1913.

[42] الفقيه: ج4 ص51 ح180.

[43] التهذيب: ج10 ص80 ح313.

[44] منتخب مسند عبد بن حميد: ص62.

[45] مفتاح الكرامة: ج12 ص452.

[46] الحدائق الناضرة: ج20 ص378.

[47] مجمع الفائدة والبرهان: ج9 ص232.

[48] المصدر نفسه: ج8 ص157.

[49] انظر الحدائق الناضرة: ج22 ص589.

[50] مسالك الافهام: ج6 ص264-265.

[51] المكاسب والبيع: ج2 ص339.

[52] مهذب الاحكام: ج16 ص380-382.

[53] الفقه كتاب البيع: ج5 ص64.

[54] حاشية المكاسب للهمداني: ص283 ؛ حاشية المكاسب للاصفهاني: ج2 ص402-403 ؛ حاشية المكاسب للايرواني: ج2 ص381 ؛ نهج الفقاهة: ص500.

[55] انظر مهذب الاحكام: ج16 ص381.

[56] سورة الاسراء: الآية 34.

[57] سورة المائدة: الآية 2.

[58] التهذيب: ج9 ص240 ح929.

[59] الوسائل: ج25 ص412 ح32240 باب1 من ابواب احياء الموات.

[60] التهذيب: ج9 ص241 ح932.

[61] المصدر نفسه: ص239 ح927.

[62] انظر العناوين: ج2 ص581.

[63] نهج البلاغة: ص82 الخطبة 40.

[64] انظر ادارة المؤسسات: ص5-6 وص234

[65] انظر الفقه كتاب الجهاد: ج48 ص173 ؛ مهذب الاحكام: ج15 ص215.

[66] الجواهر: ج21 ص363.

[67] الجواهر: ج21 ص363.

[68] الفقه كتاب الجهاد: ج48 ص174.

[69] نهج البلاغة: ص188 الخطبة 129.

[70] نهج البلاغة: ص299 الخطبة 192.

[71] انظر سورة آل عمران: الآية 104 ؛ الوسائل: ج16 ص125 ح21148 وح21150 باب1 من ابواب الامر والنهي.

[72] سورة الشورى: الآية13.

[73] سورة آل عمران: الآية 104.

[74] انظر الفقه كتاب الهبة: ج60 ص239.

[75] ايضاح الفوائد: ج2 ص416-417 ؛ الدروس: ج2 ص287.

[76] انظر ايضاح الفوائد: ج2 ص136.

[77] الدروس: ج2 ص277.

[78] المصدر نفسه: ص247.

[79] انظر مهذب الاحكام: ج15 ص205وص261.

[80] الفقيه: ج2 ص181 ح810.

[81] انظر عوالي اللآلي: ج4 ص8 ح12.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 7/شباط/2013 - 26/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م