لا أظن أنه ستكون هناك مرحلةً أسوأ ولا أشد قسوة من هذه المرحلة،
التي نعاني أحداثها أشد المعاناة، وذلك نظراً لما يلف معظم دول العالم
العربي من أحداثٍ سياسية وعسكرية داخلية وخارجية مؤلمة ومواقف ورؤى أشد
إيلاماً.
نرى ونكابد تلك الأحداث في كل يوم ولحظة، ونستشعر تداعياتها
وانعكاساتها العميقة، والتي ليس من السهل نسخها أو محوها من التاريخ
مهما تقادم عليها الدهر. كبوات وانتكاسات ومهازل كثيرة متراكمة بعضها
فوق بعض، كلما داهمتنا واحدة ازدادت رؤوسنا سقوطاً للأسفل. وزاغت
الأفئدة انحداراً، وبدا الواحد منّا كمالك الحزين الذي غالبته الريح من
كل جانب.
شعارات حِيكت وعبارات حُبِكت منذ الأزل، (قومية، وطنية)، ثورية
وحماسية، لهجت بها ألسنة الأحرار، وصدحت بها حناجر الوطنيين. غدت مجرد
كلمات وحروف متفرقة ومبعثرة لا تدل على مفهوم، وتخلو من أي معنى، وباتت
كما لم تُقرأ بعد، ولم تُسمع قط.
وبالرغم من علمنا بذاك تمام العلم ومن زيادة اليقين، بأن ما درجنا
عليه طيلة العقود الستة الفائتة هو في غير الاتجاه الصحيح، بل هو في
صميم الخطأ. مهما تعددت المصالح وبلغت المبررات، بشهادة الذي يعلم
والذي لا يعلم من صغار الأمة وكبرائها. فإننا في مثل هذه المواقف لن
نكرر ما ورثناه واعتدنا عليه، من التفوًه ما استطعنا بعبارات الشجب
والاستنكار والإدانة فحسب، بل طبقنا الذي بدأنا التعوّد عليه من علامات
السكوت واللامبالاة أو الرضا كلّما أمكن.
إن العدوان الإسرائيلي على سوريا بلا شك،- بغض النظر على الأحداث
الداخلية الدامية- يُشكل جريمة صهيونية، تضاف إلى الجرائم التي ترتكبها
إسرائيل على مدى تاريخها الإرهابي، ضد الشعب السوري والأمّة العربية
جمعاء، ويمثل تحدياً صارخاً ليس لقرارات الشرعية الدولية ومبادئ
القانون الدولي فقط، وإنما يُعبر عن الاستخفاف والتسفيه اللامتناهي لكل
ما هو عربي وما يمتُّ للعروبة بصلة.
ولعل السوء في هذا الأمر، هو التاريخ الإسرائيلي العدواني الطويل،
المتخم بالتعديات المعربدة شرقاً وغرباً وعلى طول البلاد العربية
وعرضها، وتعيث خراباً وإفساداٌ وتقتيلاً، لكن الأسوأ هو الحاصل في عدم
الرد المقابل عسكري كان أو سياسي (مُعبّر) وإلى الآن.
إن إسرائيل لا تضرب بعرض الحائط القوانين الدولية جزافاً، ولا
تستهين بقدرات الأمة العربية من فراغ، فهناك من يؤيدها في اعتداءاتها
ويكافؤها أيضاً. إذ لم تقم إسرائيل بما قامت به قبل أخذها الضوء الأخضر
والمباركة من الولايات المتحدة، أيضاً روسيا التي كانت تلعب في المتوسط
قرب الحدود البحرية السورية لم تغضب لحظة ولا يبدوا أنها ستفعل. كما أن
مواقف المؤسسات الشرعية الدولية تبدو منحازة بغالبيتها مع إسرائيل
وتجدد لها الدواعي والأعذار.
إسرائيل وأمام هجومها على سوريا، تكاد لا تُعير ما قامت به
اهتماماً، وهي ماضية في تكرار تعدياتها، وتزيد إصراراً في الإقدام على
ما هو أبعد من ذلك، والذي يتمثل في إقامة منطقة أمنية داخل الحدود
السورية. فبعد أن كاد العالم في حالة نسيان مصطلح المناطق العازلة
(الأمنية) التي كانت إسرائيل قد أقامتها داخل الأراضي اللبنانية وأقامت
عليها دويلة الجنوب "سعد حداد" وانتهت منذ العام 2000، عندما اضطرت
إسرائيل إلى الاندحار عنها بفضل المقاومة اللبنانية المتمثلة في (حزب
الله). وكذلك المناطق الأمنيّة المقفلة عل طول الحدود المصرية-
الفلسطينية (فيلادلفي) التي أجلتها إسرائيل منذ العام 2005، في إطار
خطة رئيس وزراء السابق "أريئيل شارون" القاضية بفك الارتباط مع قطاع
غزة، والتي تنازلت إسرائيل عنها تحت وطأة المقاومة الفلسطينية، وأيضاً
المناطق العازلة التي فرضتها إسرائيل على طول الشريط الحدودي لقطاع غزة
(براً وبحراً) وحظرت تجاوزه أو التواجد داخله، وأُرغمت كذلك على التخلي
عنه في إطار اتفاق الهدنة مع المقاومة الفلسطينية أيضاً، فبالرغم من
العلم الإسرائيلي من عدم جدواها، وإن كان لوقتٍ قصير، نراها تُريد
إعادة الكرّة وتجديد عملية العزل الأمني. وهذه المرة في عمق الأراضي
السورية، فقد ذكرت صحيفة الصنداي تايمز اللندنية، أن إسرائيل سوف تقوم
بإدخال كتيبة مشاة ودبابات وعتاد عسكري إلى الأراضي السورية، بحجة
الحفاظ على حدود آمنة، بما يعني قطع الطريق أمام أية محاولات يتم فيها
السعي إلى تزويد منظمة (حزب الله اللبناني) بالأسلحة وخاصةً الصاروخية
والكيميائية الأخرى. وكان الجيش الإسرائيلي قد قدم خطة لرئيس الوزراء
"نتانياهو" في هذا الشأن، تهدف إلى حماية أمن إسرائيل (قبل وبعد) سقوط
"بشار الأسد" حسب ادعاءاته.
وقد حثّ الجيش ضمن خطته على إقامة منطقة أمنية تبتعد حوالي 16
كيلومتر داخل مرتفعات الجولان (القسم السوري)، وحتى الحدود مع لبنان.
وتم بحث تلك الخطة مع مسؤولين في وزارة الدفاع الإسرائيلي من خلال
تقديم نماذج وسيناريوهات عسكرية وأمنيّة، ومنها اعتماد نموذج التشغيل
المماثل لذلك النموذج الذي أقامته قوات الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان
بين عامي 1985-2000.
ما تقدم يُمهد لاعتداء آخر من سلسلة طويلة من جملة الاعتداءات
الإسرائيلية المُعدّة والمتواصلة، من الآن فصاعداً ضد العرب بعمومهم
وسوريا أرضاً وشعباً بوجهٍ خاص. بما يجعل من الضروري والمهم الرد
الفوري على تلك الاعتداءات (بطريقة أو بأخرى) بهدف ردعها وتلقينها
درساً آخر لا تجرؤ من بعده على تكرار أعمالها الإجرامية، ورد الكرامة
العربية من ناحيةٍ أخرى.
* خان يونس/فلسطين |