الجذور الثقافية والتاريخية لأفكار ما بعد الحداثة

حاتم حميد محسن

يؤكد بعض علماء السوسيولوجيا ان لا وجود لما يسمى بـ " ما بعد الحداثة "، وهم لكي يثبتوا ذلك يستعينون باقتباسات مباشرة من كتابات (بودريلارد) و(ليوتارد) رائدي ما بعد الحداثة ومن كتّاب الحركة الدادية. الموضوع هنا هو ليس مهاجمة منطق ما بعد الحداثة او مدى انسجامه الفكري وانما مناقشة حقيقة الادعاءات حول الطبيعة الاصلية والمتميزة لفكر ما بعد الحداثة ذاته. عدم وجود هذه الاصالة سيتبعه سؤال اكبر حول صحة وجود مثل هذا العصر.

ان المؤسسين الآباء لما بعد الحداثة في مجال العلوم الاجتماعية (بودريلارد) و(ليوتارد) لم ينقلا المجتمع الى عالم جديد من الفكر حول الحياة والواقع، بل هما ببساطة كانا يتصرفان بردود افعال مضطربة تجاه التغيرات التي حدثت في المجتمعات الغربية في الستين سنة الاخيرة. ما عُرض من افكار ما بعد الحداثة هو من حيث الجوهر ليس الا امتداداً او نسخة مشابهة تماماً للدادية - الحركة التي حدثت في بداية القرن العشرين.

ان آراء هذا الفريق من علماء الاجتماع تستند على الحجج التالية:

اولاً: ان جميع المسائل الجوهرية التي أثارها بودريلارد وليوتارد حول عصر " ما بعد الحداثة" كانت سُرقت مباشرة من أعضاء الحركة الدادية التي سادت في اوج عصر الحداثة (بين 1919 – 1925).

ثانياً: هذا يبطل فكرياً ادعاءات بودريلارد و ليوتارد بكونهما مفكريَن ثوريَين.

ثالثاً: وهو ايضا يفند تاريخيا فكرة ان هناك عصر لما بعد الحداثة يختلف جوهريا عن عصر الحداثة الذي سبقه. فاذا كان المفكرون في فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى لاحظوا نفس المزايا الثقافية المُحدِدة لعصر ما بعد الحداثة، عندئذ لا يوجد هناك انفصال رئيسي بين العصرين. ما يسمى بعصر ما بعد الحداثة لا يختلف كثيراً في جوهره عن العصر الذي سبقه.

رابعاً: هما لم يعترفا بالحركة الدادية كأساس فكري لهما لأن هذا يستلزم الاعتراف بان افكارهما قديمة ولا تحمل طابعاً ثورياً.

كل ذلك يستلزم ايضا الاعتراف بان الافكار اذا لم تكن جديدة، فسوف لن تكون جديدة ايضا الظروف الثقافية التي عكستها تلك الافكار. اذا كانت العشرينات من القرن الماضي لها من حيث الجوهر نفس خصائص السبعينات او الثمانينات او التسعينات، فلا شيء سوف يميز عصر ما (كحداثة) عن آخر (ما بعد حداثة).

ما بعد الحداثة

ان ما بعد الحداثة عُرضت ضمن العلوم الاجتماعية كمدرسة جديدة للفكر، وطريقة ثورية جديدة في النظر الى الاشياء. بودريلارد و ليوتارد يدّعيان ان نظرية ما بعد الحداثة هي نسيج جديد كلياً وان جميع النظريات السابقة هي ميتة.

يُعتبر بودريلارد و ليوتارد مؤسسان لما بعد الحداثة بنفس المقدار الذي يمثله كارل ماركس كاساس للماركسيين الجدد. هذان الرجلان هما من الكتّاب النشطين الذين اصبحت كتاباتهما تشكل الاساس في الكثير من النقاشات الفلسفية في مجال العلوم الاجتماعية. يعرّف بودريلارد ما بعد الحداثة بـ " فاجعة الحداثة ". هو يعني بذلك ان هناك " تغييراً راديكالياً ثورياً في كامل النظام" لا يعيه الكثير منّا. ويستمر في القول " في المجتمع المشبع اعلامياً، لا يمتلك اي حدث اي اهمية تاريخية تتجاوز اللحظة الراهنة، لأن التغيير مكثّف وسريع جداً ولأن المجتمع أُغرق بالمعلومات التي بلغت نقطة الارتخاء. الصور الرمزية تفرض منطقها السريع الزوال وغير الاخلاقي. كلما زادت المعلومات التي بحوزتنا كلما اصبحت كل قطعة منها اكثر تفاهة. كلما اصبح التغيير سريعاً كلما اصبحنا اقل قدرة على مجاراة ذلك التغيير واقل اهتماماً به. اما ليوتارد فقد ركز خصيصاً على المعرفة. ليوتارد يعرّف ما بعد الحداثة كعملية تطوير ابستمولوجيا جديدة تستجيب للظروف الجديدة للمعرفة. وهذا ينطوي على الشك باي علم بما في ذلك السوسيولوجيا. هو يرى اننا يجب ان نرفض الكلية لأجل النسبية، وان التمثلات والمطابقات والاشارات تعتمد على اطار من المفاهيم، واننا يجب دائما ان لا نثق بالفلسفة.

ويؤكد الرجلان اننا تجاوزنا كليا عصر الحداثة المقترن بالتصنيع، اننا نعيش في عصر ما بعد الحداثة حيث المعلومات هي كل شيء. هذا العصر الجديد يستدعي إنهاء الفلسفات والنظريات الكلية وتحجيم سطوة المؤلف. النص ببساطة هو كينونة، لا يمكن ان يمسك بحقيقتها اي فرد او مجموعة.

هذه الادعاءات هي في الواقع تكرار لإفكار الدادية كما سنرى.

ما بعد الحداثة كـ دادية جديدة

في جوهر ما بعد الحداثة يكمن الافتراض بان معظم الاشياء التي نؤمن بها كمسلمات هي في الواقع ليست الا اوهاماً. الواقع لا ينعكس ضمن النص، ولا توجد هناك حقيقة وراء تجربة النص، المعنى يُخلق في كل مرة يُمارس فيها النص. ان المؤلف لا يضع معنى في النص، وتكراره للنص ليس اكثر صحة من اي مؤلف آخر. وبكلمة اخرى، المعنى هو عشوائي ونسبي وموضوعي. ان اللغة بذاتها هي الواقع، وما نشير اليه كواقع هو غير معروف، نحن نعيش في وهم الاتصال به. فالعصر الذي ترتبط فيه الافكار بالواقع قد انقضى وان المعرفة تصح فقط عندما يُشار اليها بخطاب المستوى الثاني.

هذه المقولات – مع اختلاف بسيط في المصطلحات- هي بالضبط تشكل الاساس ذاته الذي قامت عليه الحركة الدادية في اوربا قبل ثمانين عاما. كانت الدادية حركة فنية انطلقت من اوربا ومن زيورخ تحديداً. هي بدأت عام 1915 واستمرت حتى عام 1925 حيث التحق معظم الداديين بالحركة السريالية. ورغم ان الحركة الدادية ارتبطت بالفن المرئي، الا انها ضمّت بين صفوفها ايضا الكتّاب والنقاد والفلاسفة.

اعتقد الداديون ان المعنى اعتباطي، نسبي، موضوعي. هم ادركوا ان اللغة لا تشير الى شيء وبالتالي يمكن استغلالها بالطريقة التي نشاء. كانت الدادية قوة رئيسية في اوربا (فرنسا خاصة) حيث اُنتج تحت اسمها كماً هائلاً من الفن المرئي التحريضي المزعج وكذلك الادب والموسيقى.

كان للدائيين تأثيراً عميقاً في الثقافة الاوربية ككل، والعديد منهم بقي محط انظار الجمهور طوال الستينات والسبعينات. معظم الفرنسيين الداديين كانوا كتاباً ونقاد ادب، وكان التركيز الرئيسي للحركة الدادية على الادب والمشاكل الفلسفية. وتماماً كما في ما بعد الحداثة، نشأت الدادية كحركة رد فعل تجاه جميع التقاليد العقلية للفكر الغربي. فهي كما يذكر (تزارا) " تشك بكل شيء". وهي سعت الى تجاوز المفاهيم البرجوازية للمجتمع والتاريخ. اما الحركة الدادية في باريس خصيصا من عام 1919 الى العشرينات تعاملت بالذات مع اللغة، فكانت فلسفة الفن ضد الفن، فلسفة ضد الفلسفة. ما بعد الحداثة كانت نظرية ضد النظرية وفلسفة ضد الفلسفة.

لقد تلاشت الحركة الدادية بسرعة نتيجة الانقسامات الداخلية والخلافات بين أعضائها، وبما انه لا يستطيع احد تأسيس فلسفة مضادة للفلسفة فلن يبقى ما يقال وليس امامها سوى الرحيل، وهو الشيء ذاته الذي حدث لاحقاً لما بعد الحداثة المتطرفة.

ان اوجه التشابه بين الدادية وما بعد الحداثة تتلخص في انهما كلتاهما عارضتا الثقافة، وكلتاهما ادّعتا الالتحام مع الجماهير والعمال، لكنهما فشلتا تماماً في الحصول على هذا التحالف، كلتاهما ابتدئتا من رفض وتجاهل الفلسفة والجمال والاخلاق والنظام. لقد نجحت الحركة الدادية في تحطيم المقاييس المعيارية في عالم الفن والادب والفلسفة وتمكنت من الاندماج في النسيج الاجتماعي والعادات في المجتمع الغربي. هذا النجاح هو الذي قاد الدادية في نهاية المطاف الى موتها. ففي عالم لا يوجد فيه ما يثير ويحرض، اصبحت اي محاولة للاثارة بلا معنى. الاهداف الاولى لما بعد الحداثة هي ان تهز وتحرض، وكان مؤسسوها يرغبون الظهور بمظهر الناس الخطرين. اما في عصرنا الحديث ـ ثقافة ما بعد الدادية ـ فان اي شيء يعد مقبولاً وصالحاً من جانب المثقفين. هذه المواقف الثقافية في التساهل والقبول كانت الهدف النهائي للدادية. فهم نجحوا في النهاية. ومن المفارقة ان يصبح" ما بعد الحداثيون" بلا اية قيمة فكرية بفعل نجاح الحركة التي قلّدوها.

............................

انظر: المجلة الفصلية للسوسيولوجيا، Electronic Journal of Sociology

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 4/شباط/2013 - 23/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م