ذكرى ولادة الامام جعفر الصادق(ع)

مجاهد منعثر منشد

قال أبو العلاءِ المعرّيّ:

لـقد عجِبُوا لآل البيتِ لمّا...أتـاهم علمُهم في جلْدِ جَفْرِ

ومرآةُ المُنجِّمِ وهْي صُغرى...تُـريهم كـلَّ عامرةٍ وقَفْرِ!

 قال الامام الباقر (عليه السلام) مشيرا الى الامام الصادق (عليه السلام):ـ هذا خير البريّة (1).

 وقال عم الامام الصادق (عليه السلام) زيد بن علي:ـ في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج الله به على خلقه وحجة زماننا ابن أخي جعفر لايضلّ من تبعه ولا يهتدي من خالفه (2).

 تحتفل الأمة الإسلامية بمولد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)... وفي مظاهر السرور والبهجة ولد الامام ابو عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) بالمدينة المنورة يوم17 من شهر ربيع الأول عام 80 هـ (3)، وهو السادس من أئمة أهل البيت (عليه السلام)، ودامت فترة إمامته ثلاث وأربعون سنة، وقد نسب إليه الشيعة الاثنى عشرية، فيقال لهم ايضا (الجعفرية).

 وكانَتْ ولادَتُه (عليه السلام) في زمن الأموي عبد الملك بن مَرْوان، وتربَّى في أحضان أبيه الإمام الباقر وجَدِّه الإمام السجَّاد (عليهما السلام)، وعنهما أخذَ (عليه السلام) علوم الشريعةِ ومعارِفَ الإسلام.

 أمّه السيدة المهذبة الزكية أم فروة بنت الفقيه قاسم بن عمر بن أبي بكر، والقاسم ابوها من ثقاة الامام زين العابدين واحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وجدها محمد بن ابي بكر كان بمثابة ولد من اولاد الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) (4).

 كان يُكنَّى بأبي عبد اللّه، وأبي إِسماعيل، وأبي موسى، وأوّلها أشهرها، ويُلقَّب بالصادق (5)، والفاضل (6)، والقائم (7)، والكافل (8)، والمنجي (9)، الصابر (10)، الطاهر (11)، ولقَّبه بالصادق أبوه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلم)، كما في كفاية الأثر لعلي بن محمّد بن علي الخزاز عند ترجمة الصادق (عليه السلام) مسنداً عن أبي هريرة عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) في حديث طويل، ومنه أنه قال (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم): ويخرج اللّه من صُلبه ـ أي صُلب محمّد الباقر ـ كلمة الحق، ولسان الصدق، فقال له ابن مسعود: فما اسمه يا نبيّ اللّه ؟ قال: يقال له جعفر، صادق في قوله وفعله، الطاعن عليه كالطاعن عليّ، والرادّ عليه كالرادّ عليَّ، (12).

 وأبلغت القابلة جده الامام زين العابدين له عينين زرقاوين جميلتين فتبسم الإمام (عليه السلام) وقال: إنه يشبه عيني والدتي (13)، فعيناه تشبهان عيني جدنه السيدة شهربانو بنت يزدجرد الثالث آخر ملوك الامبراطورية الساسانية، وهي والدة الإمام زين العابدين، عينان زرقاوان، وها هو جعفر الصادق يرث حسب قانون مندل (14)، لون عينيه من جدّته.

 وهناك رواية تقول أن كيهان بانو، وهي شقيقة شهر بانو بنت يزدجرد، وقعت في الأسر في فتح عاصمة الأكاسرة (المدائن)، حيث أتوا بها مع بقية الأسرى إلى المدينة وكانت لها بدورها عينان زرقاوان، فإن صحت هذه الرواية، فالإمام الصادق قد ورث عينيه من أميرتين فارسيتين، لأن كيهان بانو بنت يزدجرد كانت جدة الإمام الصادق من ناحية الأم أيضاً.

 وكان الإمام علي (عليه السلام) قد عطف على الأسرى من الأسرة المالكة، وزوج شهر بانو بنت يزدجرد لابنه الحسين (عليه السلام)، وكذلك زوج كيهان بانو لمحمد ابن أبي بكر، والذي كان يحبه ويرعاه كأحد أبنائه، وقد ولاّه في ما بعد مصر، ولكنه قُتل في أثناء ولايته بتواطؤ من معاوية بن أبي سفيان.

 وقد ولد لمحمد بن أبي بكر وكيهان بانو ولد سمي (القاسم)، وولدت للقاسم بنت سميت (أم فروة) تزوجها الامام محمد الباقر (عليه السلام)، فأنجبت له جعفراً الصادق (عليه السلام)، وبهذا ارتبط جعفر الصادق (عليه السلام) من ناحيتي الأب والأم بأميرتين فارسيتين كما ارتبط بالخليفة أبي بكر من ناحيتين أيضاً.

 وأن والد الصادق وجده (عليهما السلام) اهتما برعايته وتعليمه وتربيته من السنة الثانية، ويعترف علماء التربية في هذا العصر بأن أفضل سني تعليم الطفل هي ما بين الثانية والخامسة، لأن قوة الذاكرة لدى الطفل تكون في هذه الفترة أقوى منها في غيرها.

 كان الإمام الباقر (عليه السلام) والد الصادق (عليه السلام) باعتراف الجميع، أعظم العلماء في عصره، وكان جدُّه زين العابدين (عليه السلام) أيضاً من أكابر العلماء والزّهاد (15).

 حيث كانت حياة الامام ما بين عام 83 و148 هـ فقد قارنت شطراً من حياة الامام السجاد وأيام امامته، حيث كانت امامته ما بين عام 61 و95 هـ، فقد عاش معه أثنى عشر سنة، ثم عايش إمامة أبيه الباقر (عليه السلام)التي شرعت عام 95 هـ وامتدت إلى عام 114هـ.

 وقد تميزت امامة الباقر (عليه السلام) بتصديه لنشر العلم، ولذا يقول الشيخ المفيد: ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام) من علم الدين والاثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الادب ما ظهر عن أبي جعفر.

 و قام جعفر بن محمَّد الصادق (عليه السلام) بإمامة الأمّة في سنة 114هجرية، عاصر في مجمل فترة إمامته عدّة حكّام من بني أميّة وبني العباس، فمن الأمويين: هشام بن عبد الملك بن مروان، ووليد بن يزيد بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وإبراهيم بن وليد بن عبد الملك، ومروان بن محمَّد، ومن العباسيين: أبي عبد اللّه بن محمَّد السفاح وأبي جعفر منصور الدوانيقي.

 وعاصر من المجازر المروعة في عهد بني أميّة ما لحق بزيد بن عليّ الذي صلب وعلق على المشنقة في سنة 122هـ، ناهيك عما لحق به من تمثيل، ولـم يكتفِ الأمويون بذلك فقتلوا ولده يحيى بشكل مروع.

 وعايش الامام الصادق (عليه السلام) حقائق ثلاثة في تاريخ الامة الاسلامية وهي قدرة الإسلام على التجديد والابداع والعطاء في كافة المجالات.

 وانحراف الحكام وحدوث هوة سحيقة بين المبادئ الإسلامية وبين السلطة الحاكمة.

 وحيوية الامة الإسلامية وقدرتها على التحرك ضد الحكام المنحرفين عن الإسلام.

 فكان الامام الصادق (عليه السلام) منصرفا عن الصراع السياسي المكشوف الى بناء المقاومة بناءً علميا وفكريا وسلوكيا يحمل روح الثورة، ويتضمن بذورها لتنمو بعيدة عن الانظار وتولد قوية راسخة، وبهذه الطريقة راح يربّي العلماء والدعاة وجماهير الامة على مقاطعة الحكام الظلمة، ومقاومتهم عن طريق نشر الوعي العقائدي والسياسي والتفقه في احكام الشريعة ومفاهيمها، ويثبت لهم المعالم والاسس الشرعية الواضحة، كقوله (عليه السلام): (من عذر ظالما بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه، فان دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته)، (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم)، واستفاد الإمام الصادق (عليه السلام) من حالة الارتباك والفوضى التي سادت أوضاع الدولة الإسلامية ما بين نهايات الحكم الأموي وبدايات الحكم العباسي، وسمحت الظروف السياسية والاجتماعية في هذه الفترة للإمام، لأن يقوم بواجبه عن طريق نشر العلوم والآثار الإسلامية وتربية التلاميذ، وأن يستكمل بناء تلك الجامعة الكبرى التي وضع والده الكريـم أساسها.

 واحد اهل الخلاف ابن أبي العوجاء قال فيه: ولقد سمع جعفرُ بنُ محمّدٍ كلامَنا أكثرَ ممّا سمعت، فما أفحشَ في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا، وإنّه الحليمُ الرزين، العاقلُ الرصين، لا يعتريه خرْق، ولا طيشٌ ولا نزْق، يسمع كلامنا ويُصغي إلينا، ويتعرّف حجّتَنا، حتّى إذا استفرَغْنا ما عندنا، وظننّا أنّا قد قطعناه... دحض حجّتَنا بكلامٍ يسير، وخطابٍ قصير، يُلزِمُنا به الحُجّة، ويقطع العُذْر، فلا نستطيع لجوابه ردّا، و أن الامام الصادق (عليه السلام) هو استاذ العلماء وامام الفقهاء وهو امام عصره كما هو امام العصور واستاذ الاجيال، و قد انصرف هو وابوه الباقر (عليه السلام) لإنشاء مدرسة أهل البيت العلمية في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة، ثم استمر في تنمية هذه الجامعة العلمية ومواصلة حماية الشريعة، وحرية الرأي والبحث ما تميزت به مدرسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) على المذاهب الأخرى...

 أن المذهب الكاثوليكي بقي طوال ألف سنة في حالة من الركود والافتقار إلى النشاط الفكري، والمذهب الأرثوذكسي لا يختلف اليوم عما كان عليه في القرن الثاني الميلادي في أنطاكية.

 وقبل نهاية القرن الثاني الهجري أرسى الثقافة والمعارف الشيعية الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، فأصبحت هذه الثقافة نموذجاً لحرية الرأي والبحث، فاقتدت الفرق الإسلامية الأخرى بالشيعة في المباحث الكلامية والعلمية، وحرية البحث في أمور الدين، فقد بدأت في الإسلام بعصر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وبعد انتشار المذهب الجعفري.

 وقد تولى الإمام الصادق (عليه السلام) بنفسه تدريس هذه العلوم، ولم يستبعد منها الفلسفة أو الحكمة أو العرفان، لأن هذه العلوم كانت تمثل المبادئ والمجادلات التي يستعان بها في إثبات حقيقة الله والكون، وهي علوم كانت قد وصلت فعلاً إلى المدينة.

 وقد ابتدأ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بتدريس مبادئ الفلسفة أو أسلوب الاستدلال والجدل المنطقي، وكانت مباحث الفلسفة في مدرسته تتناول في بادئ الأمر آراء سقراط وأفلاطون وأرسطو ونظريتهم.

 وأن مجلس الإمام الصادق (عليه السلام) ومدرسته كانا يمثلان منبراً حراً لتلامذته ومريديه، لهم أن يسألوا، ولهم أن يعترضوا، ولهم أن يعبروا عن آرائهم وإحساساتهم بحرية تامة، كما أن من حقهم أن ينتقدوا آراء أساتذتهم، ولم يكن الإمام يفرض على تلامذته رأياً معيناً، ولا كان يطلب منهم الإذعان لرأيه، ومع ذلك، فقد كان الأمر ينتهي دائماً بإذعانهم، بالنظر إلى الأسلوب العلمي الذي كان الإمام يتوسل به للتدليل على رأيه بالحجة الناصعة والمنطق السليم والبيان الرائق.

 وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يؤمن بما يقول، ويأخذ بالواقع لا بالمثاليات، ولهذا لم يتوسل أبداً في دروسه باسلوب (اليوتوبيا)، الذي سيطر على تفكير المجتمع الأوروبي منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، ومن هنا انتفت من دروس الإمام الصادق (عليه السلام) أي دعوة إلى قيام حكومة مثالية لا تتفق مع واقع الحياة في المجتمع البشري.

 وقد اغتذت الثقافة الشيعية من هذه الحرية التي هيأت لهذه الثقافة أسباب الذيوع والانتشار الواسعين، وأقبل عليها الراغبون في حرية البحث والاستدلال، كما أقبل عليها الموالون للشيعة مدفوعين إلى ذلك برغبة باطنية، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقاة على اختلافهم في الآراء والمقالات، وكانوا أربعة آلاف رجل (16).

 ومن يتصفح التاريخ قبل قيام الدولة الصفوية، يلاحظ أن الحكومات الشيعية التي قامت في البلاد الشرقية كانت معدودة، وأشهرها حكومة البويهيين، كما يلاحظ أن هذه الدول لم تتوسل بالقوة أو النفوذ السياسي لنشر المذهب الشيعي، وإنما اقتصرت على التمسك بالتقاليد والأعراف والمبادئ الشيعية، وفي مقدمتها الاحتفالات الدينية في أيام التعزية، وبصورة خاصة يوم عاشوراء عام 61 للهجرة الذي استشهد فيه الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) في كربلاء، ولم يكتب لدولة شيعية أن تستقر طويلاً في بلاد الشرق بعد البويهيين، باستثناء دولة الفاطميين في غرب العالم الإسلامي، إلى أن قامت الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري (1502 ـ 1736م).

 ومع ذلك، أخذ التشيع ينتشر في ربوع الشرق بثقافته العلمية المنطقية المبسطة، بإصرار وثبات في مقاومة التيار الحكومي المعادي له، وإن لم ينجح في إنشاء مركز سياسي أو نظام حكومي يستند إليه، أي أنه نجح بالفكر لا بالسلطان، وبالروح لا بالقدرة المادية.

 ان الامام كان يستهدف بعمله ومدرسته الاهداف الاتية:

 اولاً: حماية العقيدة من التيارات العقائدية والفلسفية والالحادية والمقولات التي لا تنسجم وعقيدة التوحيد التي نشأت كتيار كونته الفرق الكلامية والمدارس الفلسفية الشاذة، لذا انصبت جهود الامام (عليه السلام) على الحفاظ على اصالة عقيدة التوحيد ونقاء مفهومها، وايضاح جزئياتها وتفسير مضامينها وتصحيح الافكار والمعتقدات في ضوئها ولذا فقد درب تلامذته امثال هشام بن الحكم على الكلام والجدل والمناظرة والفلسفة ليقوموا بالدفاع عن عقيدة التوحيد وحمايتها من المعتقدات الضالة، كما الجبر والتفويض والتجسيم والغلو وامثالها من الآراء والمعتقدات الشاذة عن عقيدة التوحيد.

 ثانياً: نشر الإسلام اما الهدف الثاني لمدرسة الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) وجهوده, فهي نشر الإسلام وتوسيع دائرة الفقه والتشريع، وتثبيت معالمها وحفظ اصالتها، إذ لم يُرو عن احدٍ من الحديث ولم يُؤخذ عن امام من الفقه والاحكام ما أًخذا عنه، اساسا وقاعدة لاستنباط الاحكام لدى العلماء والفقهاء والسائرين على نهجه والملتزمين بمدرسته والمنتسبين الى مذهبه الذي سُمي باسمه (المذهب الجعفري).

 فتميز عصر الامام الصادق (عليه السلام) بأنه عصر النمو والتفاعل العلمي والحضاري بين الثقافة والتفكير الاسلامي من جهة، وبين ثقافات الشعوب ومعارف الامم وعقائدها من جهة اخرى، ففي عصره نمت الترجمة، ونقلت كثير من العلوم والمعارف والفلسفات من لغات أجنبية الى اللغة العربية.

 أن المنهل العلمي للمذاهب الأربعة السنية مصدره الامام الصادق (عليه السلام) وسنقرأ أقوالهم في وصف الامام (عليه السلام) من الاحترام والتوقير، ولابد من ايضاح مسألة قبل الحديث في هذا الموضوع... وهي في القرن السادس الهجري أصدر الخليفة العباسي المنتصر بالله امرا بإغلاق باب الاجتهاد وحصر التقليد في المذاهب الفقهية الأربعة لدى السنة (17).

 وكان من تلاميذ الامام جعفر الصادق (عليه السلام) التالي ذكرهم:

 1 ـ أبو حنيفة (18) النعمان بن ثابت بن زوطي... وهو أحد المذاهب الأربعة عند أبناء السنّة، وحاله أشهر من أن يُذكر، يقول أبو حنيفة: (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد... ثم قال أبو حنيفة: أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس).

 ويقول: لما أقدمه المنصور بعث اليَّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين مسألة ثم بعث إليّ أبو جعفر المنصور وهو بالحيرة، فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر مالم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلمت وأومأ فجلست، ثم التفت إليه قائلاً: يا أبا عبدالله هذا أبو حنيفة، فقال: نعم أعرفه، ثم التفت المنصور فقال: يا أبا حنيفة الق على أبي عبدالله مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا وهم يقولون كذا ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا حتى أتيت على الأربعين مسألة، ما أخلّ منها مسألة واحدة، ثم قال أبو حنيفة: أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس) (19)، وكان أبو حنيفة يستنبط فقهه من القرآن الكريم وما صح عنده من الحديث مع توسع في استعمال الرأي والقياس، وقد تلقى الدرس لمدة سنتين عند الإمام جعفر الصادق حيث اشتهر عنه قوله في مدح الإمام: (لولا السنتان لهلك النعمان).

 2 ـ أحمد بن حنبل وهو آخر المذاهب الأربعة وأقلها أتباعا وقال فيه ابن خلدون: فأما أحمد بن حنبل فمقلدوه قليلون لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية بعضها ببعض (20)، وقد كان ابن حنبل في رأي العلماء القدماء ـ كابن جرير وابن قتيبة والمقدسي وابن عبد البر ـ من رجال الحديث لا من الفقهاء (21)، وما يشهد على ذلك أنه لم يكتب أي كتاب في الفقه، وإنما اشتهر بكتابه المعروف بمسند أحمد والذي يحوي على أربعين ألف حديث، وله أيضا كتب أخرى كطاعة الرسول، الناسخ والمنسوخ، والعلل.

 3 ـ محمد بن إدريس الشافعي المولود في غزة وهو يتميز من بين المذاهب الأربعة بتنظيمه على أصول موضوعة وقواعد ثابتة ومضبوطة ضبطا (دقيقا)، والمذهب بجملته وسط بين أهل الرأي وأهل الحديث (22)، وقد كان للدولة الأيوبية في مصر بقيادة صلاح الدين العامل الأقوى في نشر مذهبه هناك حيث منع تدريس المذهب الشيعي في الجامع الأزهر الذي أسسه الفاطميون، واستبدل بتدريس مذاهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وبنى لهم المدارس ورغب الناس فيها (23).

 4 ـ مالك بن أنس المدني أحد المذاهب الأربعة وهو يمني الأصل، يقول مالك بن أنس: (ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً)، (24)، وكذلك يقول مالك (25): (إنه كان من العلماء العبّاد الزهّاد، ولم يمنعه زهده وتبتله عن الكسب وطلب المعاش من وجوهه المشروعة مع الإجمال في الطلب والاعتدال في الإنفاق وأداء الحقوق، كما أنه ينهى عن الكسل والبطالة)، يقول مالك بن أنس: (اختلفت الى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إما مصلّياً وإما صائماً وإما يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدث عن رسول الله إلاّ على الطهارة، ولا يتكلم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العبّاد والزهاد الذين يخشون الله (26)، وكان انتشار مذهبه على أيدي القضاة والأمراء في الأندلس وشمال إفريقيا حيث حل مذهبي الأوزاعي والظاهري اللذين كانا سائدين هناك، ولا زال المذهب المالكي المذهب الرئيسي في بلاد المغرب العربي.

 وأهم دعاة المذهب هم: القاضي أبو بكر العربي وابن عبد البر القرطبي والقاضي عياض السبتي وأبو الوليد الباجي وابن القطان الفاسي (27).

 5 ـ سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي وكان أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وله مذهب لم يدم العمل به لقلة أتباعه، وأراد الخليفة أبو جعفر المنصور قتله، فهرب، وبقي مذهبه معمولا به لغاية القرن الرابع، وقد لقب بأمير المؤمنين في الحديث وسيد الحفاظ، وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ كان سفيان الثوري أفضلهم، وقال القطان: الثوري أحب إلي من مالك (28).

 6 ـ يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري من بني النجّار تابعي، كان قاضياً للمنصور في المدينة، ثمّ قاضي القضاة، مات بالهاشميّة عام 143، ذكر ذلك الرجاليّون من الشيعة.

 7 ـ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح المكّي، وقال ابن خلكان: عبد الملك أحد العلماء المشهورين، وكانت ولادته سنة 80 للهجرة، و ذكرته رجال الشيعة.

 8 ـ أيوب بن أبي تميمة السجستاني البصري، وقيل السختياني، والأول أشهر، مولى عمّار بن ياسر وعدُّوه في كبار الفقهاء التابعين (29).

 9 ـ شعبة بن الحجّاج الأزدي كان من أئمة السنّة وأعلامهم وكان يفتي بالخروج مع إِبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن، وقيل كان ممّن خرج من أصحاب الحديث مع إبراهيم بن عبد اللّه، (30)... قال ابن الحجاج وهو الشاعر المشهور:

 يا سيداً أروي أحاديثه رواية المستبصر الحادق كأنني أروي حديث النبي محمد عن جعفر الصادق.

 10 ـ محمّد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي والسير، مدنيّ سكن مكّة، أثنى عليه ابن خلكان كثيراً، (31).

 11 ـ سفيان بن عيينة بن أبي عمران الكوفي المكّي ولد بالكوفة عام 107 ومات بمكّة عام 198، ودخل الكوفة وهو شاب على عهد أبي حنيفة (32).

 12 ـ أبو سعيد يحيى بن سعيد القطّان البصري، كان من أئمة الحديث واحتجّ به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم (33).

 13 ـ جابر بن حيان المعلم الرياضي الشهير الذي لا يزال العالم يعرف له فضلاً كبيراً على هذه العلوم وأيادي طويلة على أهلها.

 ألّف زهاء خمسمائة رسالة في الرياضيات كلها من إملاء الإمام الصادق (عليه السلام) (34).

 وقد قال علماء ابناء السنة في الامام الصادق (عليه السلام):

 1 ـ ابن حجر العسقلاني (جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فقيه صدوق) (35).

 2 ـ أبو بحر الجاحظ (جعفر بن محمد، الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال: أن أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب) (36).

 3 ـ عبدالرحمن بن الجوزي (جعفر بن محمد بن علي بن الحسين كان مشغولاً بالعبادة عن حب الرئاسة) (37).

 4 ـ أبو المظفر يوسف شمس الدين (جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب وكنيته أبو إسماعيل ويلقّب بالصادق والفاضل، وأشهر ألقابه الصادق... (38).

 5 ـ أحمد بن حجر الهيثمي (جعفر الصادق روى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السجستاني) (39).

 6 ـ محمد بن طاهر بن علي المقدسي (جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكنيته أبو عبدالله وقيل: أبو إسماعيل وألقابه الصادق والفاضل والطاهر وأشهرها الأول، نقل اُناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الكبار كيحيى ومالك وأبي حنيفة) (40).

 7 ـ وقال البخاري في فصل الخطاب (756 ـ 822 هـ): اتفقوا على جلالة الصادق (عليه السلام) وسيادته (41).

 وقال المنصور الدوانيقي مؤبّناً الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ جعفر بن محمّد كان ممّن قال الله فيه: (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) وكان ممن اصطفى الله وكان من السابقين بالخيرات (42).

 وقد قال المؤرخ الشهير أبو نعيم الأصفهاني: (روى عن جعفر عدة من التابعين منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السختياني، وأبان بن تغلب، وأبو عمـرو بن العلاء، ويزيد بن عبد اللـه بن هاد، وحدث عنه الأئمة الأعلام: مالك بن أنس، وشعبة الحجـــــاج، وسفيان الثوري، وابن جريح، وعبد اللـه بن عمر، وروح بن القاسم، وسفيان بن عيينه، وسليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، وحاتم بن إسماعيل، وعبد العزيز بن المختار، ووهب بن خالد، وإبراهيم بن طهمان، في آخرين، وأخرج عنه مسلم بن الحجاج في صحيحه محتجاً بحديثه (43).

 ومن حكم الامام الصادق (عليه السلام):

 ـ كثرة النظر في العلم يفتح العقل (44).

 ـ من هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه (45).

 ـ إِن هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة (46).

 فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.

.............................................

المصادر

 1 ـ الكافي: 1/307.

 2 ـ الكافي: 1/306

 3 ـ تأريخ ابن الوردي: 1/266، الاتحاف بحب الإشراف: 54، سر السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري: 34، ينابيع المودة: 457، تذكرة الحفاظ: 1/157، نور الأبصار للشبلنجي: 132، وفيات الأعيان: 1/191

وقيل إنه وُلد سنة (83 هـ) يوم الجمعة أو يوم الإثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول[6]. أصول الكافي: 1/472، مناقب آل أبي طالب: 4/280، أعلام الورى: 271 وجاء فيه أنه ولد بالمدينة لثلاث عشر ليلة بقيت من شهر ربيع الأول.

 4 ـ صفة الصفوة: 2/249، المعارف: 175.

 5 ـ قال السمعاني في أنسابه: 3/507، الصادق لقب لجعفر الصادق لصدقه في مقاله

 6 ـ مرآة الزمان: 5/ورقة 166 من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

 7 ـ مناقب آل أبي طالب: 4/281.

 8 ـ مناقب آل أبي طالب: 4/281.

 9 ـ مناقب آل أبي طالب: 4/281.

 10 ـ مرآة الزمان: 5/ورقة 166 من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

 11 ـ مرآة الزمان: 5/ورقة 166 من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

 12 ـ الخرائج والجرائح، وكما في البحار ج 11 في أحواله عليه السلام عن علل الشرائع.

 13 ـ الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب: 72.

 14 ـ يوحنا مندل (MENDEL) ولد عام 1822 وتوفي عام 1884، وهو راهب وعالم نباتي نمسوي، قام بإجراء تجارب على الصفات المتوارثة في النيات والحيوان، واستنبط ناموس الوراثة المعروف باسمه (المترجم).

 15 ـ ذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) بعض مؤلفاته

يقول محمد بن أبي رندفة، وهو من مؤرخي المغرب الإسلامي (ولد 451هـ وتوفي 520هـ) في كتابه (الاختصار): أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان يحضر درس والده محمد الباقر وهو في سن العاشرة.

 16 ـ المناقب ج4 |ص247. وأورد أبو نعيم في (الحلية) أسماء أعلام الأئمة الذين أخذوا عن الصادق (عليه السلام).

 17 ـ مفيد الفقيه، الفعل في أصول الدين، ص 32. شريف الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص 104.

 18 ـ أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ولد سنة 80 هـ في نسا، وتوفي سنة150 هـ في بغداد، وأصله فارسي.

 19 ـ مناقب أبي حنيفة للموفق: 1/173، وجامع أسانيد أبي حنيفة: 1/252، وتذكرة الحفاظ للذهبي: 1/157.

 20 ـ أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1 ص 169.

 21 ـ أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1 ص 169.

 22 ـ محمد إبراهيم، أئمة المذاهب الأربعة، ص 40.

 23 ـ أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1 ص 168.

 24 ـ تهذيب: 2/104.

 25 ـ مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبعي ولد سنة 93 بالمدينة وتوفي سنة 179.

 26 ـ مالك بن أنس، للخولي: 94، كتاب مالك لمحمد أبو زهرة: 28، نقلاً عن المدارك للقاضي عياض: 212، وأيضاً الى هنا عبارة التهذيب وما بعدها زيادة في كتاب المجالس السنية: ج5 وقد ذكر ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة: 52 ط2 هذه العبارة في جملة طويلة في ضمنها هذه الجملة.

 27 ـ مفيد الفقيه، الفعل في أصول الدين، ص 32. شريف الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص 104.

 28 ـ أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1 ص 160.

 29 ـ عدَّه في رجال الصادق عليه السلام في نور الأبصار، والتذكرة، والمطالب، والصواعق، والحلية، والفصول، وغيرها، وذكرته كتب رجال الشيعة في أصحابه.

 30 ـ وعَدَّه في أصحاب الصادق عليه السلام جماعة من السنّة منهم صاحب التهذيب، والصواعق، والحلية، والينابيع، والفصول، والتذكرة وغيرها، وذكرته كتب الشيعة في رجاله أيضاً.

 31 ـ ذكر أخذه عن الصادق في التهذيب، والينابيع، وغيرهما من السنّة، والشيخ في رجاله، والعلامة في الخلاصة، والكشي في رجاله، وغيرهم من الشيعة.

 32 ـ ذكر أخذه عن الصادق عليه السلام في التهذيب، ونور الأبصار، والمطالب، والصواعق، والينابيع، والحلية، والفصول، وما سواها، وذكر ذلك الرجاليّون من الشيعة أيضاً.

 33 ـ ذكره في رجال الصادق (عليه السلام) التهذيب، والينابيع، وغيرهما من السنّة، والشيخ، وابن داود، والنجاشي، وغيرهم من الشيعة.

 34 ـ وروى عنه محمد بن مسلم ستة عشر ألف حديث في مختلف العلوم، وآخرون من هؤلاء الأفذاذ، حتى قال قائلهم رأيت في هذا المسجد ـ أي مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كل يقول: (قال: جعفر بن محمد). حتى أن أبا حنيفة كان يقول:

(لولا السَّنتان لهلك النُّعمان).

 35 ـ تقريب التهذيب: 68.

 36 ـ رسائل الجاحظ للسندوبي: 106.

 37 ـ صفوة الصفوة: 2/94.

 38 ـ تذكرة الخواص: 351.

 39 ـ الصواعق المحرقة: 120.

 40 ـ جواهر الكلام: 13.

 41 ـ ينابيع المودّة: 380 ط اسلامبول

 42 ـ تاريخ اليعقوبي: 3/17.

 43 ـ حلية الأولياء: (3/199).

 44 ـ بحار الأنوار: 1/159/32.

 45 ـ الكافي، باب العقل.

 46 ـ الكافي، باب سؤال العلم وتذاكره.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 29/كانون الثاني/2013 - 17/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م