تعلُّم تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» من أخطاء الجهاديين
في العراق وأفغانستان وأصبح أكثر حنكة وخبرة في عقد مواءمات مع الحركات
السياسية المحلية، وبناء دعم شعبي في اليمن. وبقيامه بذلك، تحول إلى
حركة تمرد في حين احتفظ بجذوره كجماعة ارهابية. ومن أجل مواجهة الجهود
السياسية والقانونية والرعاية الاجتماعية التي توفرها الجماعة في مناطق
خارج العاصمة، يجب على الحكومتين اليمنية والأمريكية تدعيم حملتهما
لمكافحة الإرهاب من خلال توسيع الخدمات المقدمة إلى المحافظات بطريقة
غير مركزية.
الخلفية
منذ تأسيسه في كانون الثاني/يناير 2009، دأب تنظيم «القاعدة في شبه
الجزيرة العربية» على مهاجمة الولايات المتحدة ومصالحها. وقد ردت
واشنطن بتوسيعها بشكل كبير هجمات الطائرات بدون طيار في اليمن وتدعيم
قدرة الحكومة على محاربة هذا «التنظيم» بنفسها من خلال توفير التدريب
وتقديم المساعدات العسكرية الإضافية.
ومع بدء رياح "الربيع العربي" في اجتياح المنطقة في عام 2011، ظهرت
أزمة سياسية في اليمن بين الرئيس آنذاك علي عبد الله صالح الذي حكم
أكثر من ثلاثين عاماً، والمعارضين الذين انتقدوا فساد النظام وانعدام
الخدمات. ومع انكشاف الأزمة أصبحت قوات الأمن اليمنية متورطة في صراعات
سياسية في صنعاء، حيث انتقلت وحدات عديدة من الجنوب إلى العاصمة.
وباستشعار تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» بوجود فراغ أمني،
قام بشن سلسلة من الغارات في جميع أنحاء الجنوب في ذلك العام، مستخدماً
الأساليب التقليدية لاجتياح مساحات شاسعة من الأراضي، شملت العديد من
المناطق فضلاً عن عاصمة إحدى المقاطعات.
حملة قلوب وعقول
بعد سيطرته على مناطق عديدة في المدن والمناطق اليمنية الجنوبية،
انتقل تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» إلى ما وراء هدفه
الإرهابي، باعتماده على خصائص التمرد واستحواذه على أراضٍ من أجل تأسيس
حكومة وليدة. ولم تستند قدرته على القيام بذلك إلى إمكانياته العسكرية
المعززة ورحيل قوات الأمن الحكومية فحسب، بل أيضاً على استراتيجيته
للمشاركة المجتمعية الفعالة.
وقد سعى تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» إلى استنساخ وظائف
الحكومة المركزية في جميع أنحاء المنطقة مستغلاً الشكاوى الأزلية لسكان
الجنوب بشأن عدم كفاية التعليم، والرعاية الصحية، والأمن، وسيادة
القانون، والتمثيل السياسي، والتنمية الاقتصادية. كما قام عملاء الـ «تنظيم»
السياسيون بإرساء شكل من أشكال الاستقرار وفقاً للقانون الإسلامي،
بعقدهم اجتماعات منتظمة مع قادة المجتمعات المحلية، وحل المشاكل
المحلية، ومحاولة استبدال النزاعات القبلية الفوضوية بنظام عدالة أكثر
تنظيمياً ومستوحى من الدين. وقد شملت تلك المساعي تخفيف الصراعات
القبلية، وحماية أضعف القبائل من أقوى المنافسين، وإتاحة الفرص لبعض
السكان المحليين الطموحين -- من بينهم الفصائل القبلية الأضعف --
للارتقاء بأوضاعهم الاجتماعية والاستيلاء على السلطة في مجتمعاتهم. كما
قدم تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» المساعدات الإنسانية مثل
توفير المياه العذبة والمواد الغذائية للمعوزين، والرعاية الصحية
الأساسية، وفرص التعليم (ولو التعاليم القرآنية فقط).
وقد لاقى الكثير من تلك الجهود قبولاً لدى السكان، ليس فقط لأنها
كانت أفضل مما وفرته الحكومة المحلية، بل أيضاً لأن العديد من شيوخ
العشائر قد فقدوا مصداقيتهم لعدم ارتقائهم إلى مستوى مسؤولياتهم.
بالإضافة إلى ذلك، لاقت المشاركة المستندة إلى القرآن الكريم استحساناً
كبيراً لدى المجتمعات التي كان يمثل فيها هذا الكتاب النص الوحيد الذي
يعرفه السكان.
وتعكس استراتيجية «القاعدة» في اليمن العديد من الدروس المستفادة في
العراق وأفغانستان، عندما أدت كثيراً إلى تنفير السكان المحليين من
خلال وحشية حكم «التنظيم». أضف إلى ذلك، أن بنية الهياكل القبلية
اليمنية هي أقوى بكثير من بنيتها في هذين البلدين، كما أن زعماء
القبائل هم أكثر حنكة وخبرة في إدارة مناطق سيطرتهم التقليدية. ومن ثم
اتبع تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» منهجاً أكثر رخاوة ليس
فقط لأنه يريد ذلك، وإنما لأن ذلك ضرورة، كون القبائل تحظى بنفوذ أكبر
بكثير مما يتمتع به تنظيم «القاعدة» حالياً.
كما أن تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» كان فعالاً في توحيد
قضيته مع الحركات السياسية المحلية في اليمن، كما فعل في العراق مع
القوميين العرب السنة. وحتى الآن، واءم مصالحه مع مصالح عناصر من
الجنوب تسعى إلى الحصول على المزيد من الحكم الذاتي من الحكومة
المركزية أو تحقيق استقلال تام عن اليمن (رغم أن «التنظيم» لا يتعاون
على الأرجح مع "حركة الحراك الجنوبي" القائمة منذ فترة طويلة).
وأخيراً، لم يعد تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» يتسم بطابع
أجنبي قوي في اليمن مثلما كان عليه الحال في الصراعات السابقة. إن ذلك
يحد من قدرة واشنطن وصنعاء على فصل السكان عن الجماعة الإرهابية من
خلال استخدام الكرامة الوطنية، والاختلافات العرقية / القبلية، أو مجرد
الخوف من الأجانب لصد تقدم تنظيم «القاعدة».
منبوذاً وليس مرفوضاً
قام الجيش اليمني العام الماضي بشن عمليات واسعة ضد قوات تنظيم «القاعدة
في شبه الجزيرة العربية» في جنوب البلاد رداً على ما حققته تلك القوات
من مكاسب. ورغم أن هذه الجهود حققت نجاحاً كبيراً في طرد «التنظيم» من
المناطق التي اجتاحها في عام 2011، إلا أن الجماعة لا تزال تشكل تهديداً.
وحيث تراجع إلى ملاذاته الآمنة التقليدية في المناطق الداخلية، فقد شن
«التنظيم» منذ ذلك الحين حملة اغتيالات منسقة ضد مسؤولي الأمن والجيش
والاستخبارات اليمنيين مع إعادة بناء قواته.
وبالإضافة إلى ذلك، لا تزال «القاعدة» تحظى بالتعاطف والنفوذ في
الجنوب. ويقيناً، ففي النهاية عاد تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة
العربية» إلى منهجه القاسي في العديد من المجتمعات بمجرد قيامه بتوحيد
سلطته هناك، مما أدى إلى نفور العديد من السكان المحليين وتحفيز هجرة
الآلاف من المناطق الخاضعة لنفوذه. بيد أنه لا يزال هناك الكثيرون من
المتعاطفين مع «التنظيم»، وليس فقط لأسباب دينية أو ثقافية محافظة،
ولكن أيضاً استناداً إلى شعور عام بأن «القاعدة»، مع كل عيوبها، لا
تزال تمثل بديل أفضل من الحكومة اليمنية.
وعلى الرغم من أن جهود الإغاثة للاجئي الحرب قطعت شوطاً كبيراً في
تحسين صورة صنعاء بين الجنوبيين، إلا أن الحوكمة المستدامة ومبادرة
التنمية وحدهما -- المتزامنة بشكل جيد للغاية مع عمليات التطهير
والاستحواذ التي يقوم بها الجيش ضد تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة
العربية» -- سوف تدعم الحكومة المركزية. إلا أن هذا النوع من المبادرات
لن يتحقق بصورة طبيعية لصنعاء أو واشنطن. فغياب مثل هذه الجهود بعد
عمليات التطهير في العام الماضي يعمل بالفعل على تقويض الدعم الشعبي،
مما يخلق فرصة أخرى لـ «القاعدة» المنبوذة التي لا تزال تتمتع بالمرونة
الكافية لتحقيق النفوذ في الجنوب ضد الحكومة المركزية. وبالفعل تعمل
الجماعة على تعديل استراتيجيتها للمشاركة المجتمعية من خلال الاعتذار
عن تجاوزات حكمها في الآونة الأخيرة، وتقديم اقتراحات لزعماء محليين
رئيسيين من شأنها أن تضع الأساس لإحكام سيطرتها على المنطقة.
خيارات الولايات المتحدة
اقتصرت معظم جهود الولايات المتحدة ضد تنظيم «القاعدة في شبه
الجزيرة العربية» حتى الآن على عمليات مكافحة الإرهاب، حيث إنها غير
قادرة على معالجة القضايا الأساسية، مما دفع اليمنيين إما إلى تحمل
وجود الحركة أو دعم أهدافها بنشاط. وفي الواقع، إن الاعتماد الكثيف على
الهجمات غير الدقيقة أحياناً للطائرات بدون طيار سمح لـ «القاعدة»
باستغلال الأخطاء الأمريكية واليمنية وتعضيض مكانتها بين السكان بصورة
أكثر.
وبناءً على ما تقدم، يجب على واشنطن أن تكمل جهودها لمكافحة الإرهاب
بحملة تهدف إلى هزيمة استراتيجية القوة الناعمة لـ تنظيم «القاعدة»،
وتسهيل التوسع في خدمات الحكومة المركزية في المناطق التي يكون فيها
نفوذ تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» أكثر تطوراً ونمواً. وعلى
وجه الخصوص، ينبغي على الولايات المتحدة أن توفر:
· التنمية في المناطق النائية ومبادرات الحكم الرشيد. ينبغي على
واشنطن أن تعمل على توزيع جهودها بشكل غير مركزي على طول هذه الخطوط،
ونقل بعض البرامج من العاصمة إلى الريف بشراكة مع مسؤولي المحافظات.
وهذا النهج من شأنه أن يحد من بعض المظالم التي يستغلها تنظيم «القاعدة
في شبه الجزيرة العربية»، ويحسن فهم الولايات المتحدة للديناميات
القبلية خارج العاصمة، ويشجع صنعاء على مواءمة جهود الولايات المتحدة
وتلبية الاحتياجات المحلية.
· إقامة قنصلية أمريكية في محافظة أبين. لقد كان تنظيم «القاعدة في
شبه الجزيرة العربية» يسيطر على هذه المحافظة سابقاً، لذا فإن إقامة
قنصلية في العاصمة المحلية لزنجبار قد يمثل رفضاً رمزياً لنفوذ الجماعة
ومثالاً مرئياً لاهتمام الولايات المتحدة في تعزيز جهود الحكم القوية
والتنمية في المحافظات. ويمكن أيضاً أن يحفز صنعاء على بذل المزيد من
الجهود في جنوب ووسط اليمن.
· إقامة برنامج "أيدي اليمن". من أجل تعزيز علاقاتها الشخصية مع
الزعماء المحليين ومسؤولي الحكومة المركزية ينبغي على واشنطن أن تنظر
في تطبيق مبادرة يمنية تكون على غرار برنامج "أيدي الأفغان". وسوف يشمل
هذا البرنامج تعيين مجموعة منتقاة من المسؤولين الأمريكيين المقيمين في
البلاد لفترات مناوبة أكثر من المعتاد، مما يسمح لهم بالتركيز على بناء
علاقات أعمق مع الشعب اليمني وفهم أفضل لمشاكل البلاد.
* دانيال غرين هو زميل سوريف في معهد واشنطن
ومحارب قديم في الجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق.
http://www.washingtoninstitute.org |