إعمار العراق أم خراب العراق

زاهر الزبيدي

كشفت التحقيقات الخاصة بالمشروع الأمريكي لإعادة إعمار العراق بعد عام 2003، نشرتها الواشنطن بوست قبل أيام، عن إتهام 81 شخصاً بينهم 47 عسكرياً وإستعادة 189 مليون دولار فقط، مع إتهام آخر لـ 22 شخصا واستعادة 67 مليون دولار أخرى في قضية تسمى بقضية " جورج ــــ غلوريا " التي تمت بين مقاول، مازال فاراً، وضابطة عسكرية انتحرت بعد اعترافها بالإختلاس!

تلك التحقيقات ستنتهي في آذار 2013 القادم على الرغم من أن هناك 91 تحقيقاً جنائياً غير مكتمل.. حيث وصف مدير الوكالة، ستيوارت بوين، رئيس الوكالة، التي كشفت الفساد في مشروع إعادة الإعمار، بأنه على الرغم من أن الفاسدين أقلية، لكنهم " أقلية فاضحة" !!

نعم لقد أحسن الكثير من العسكريين الأمريكيين استغلال مواقعهم في العراق والاستفادة القصوى من الكميات الهائلة من العملة الأمريكية التي كانت تحمل على طائرات B52، والتي حملت يوماً مئات الآلاف من أطنان المتفجرات التي ألقيت على بغداد، عادت بعدما تحققت "حرب التحرير" لتنقل ما يقارب من الـ 281 مليون ورقة نقدية من فئة مائة دولار تزن 336 طناً من الاموال العراقية المجمدة إلى العراق وهو غارق في الظلام، حيث كتبت صحيفة لوس انجلوس تايمز تقريرا كشفت فيه أنها "اكبر سرقة للاموال في التاريخ الاميركي ".. واتهم (المحققون الأمريكيون في إختفاء 6.6 مليار دولار من اموال إعادة الاعمار في العراق)، جهات بسرقتها من دون ان يحددها ولم يتكهن عمن سرق تلك الاموال لكنه قال "إلا ان هذه الاموال سلمت للعراقيين وكانت لدينا في الماضي حالات حول أعضاء في مجلس الحكم الانتقالي ارتكبوا سرقات".

توقعات الواشنطن بوست خلصت الى أن التحقيق في النهاية سيتمخض عن أكبر عملية فساد في المؤسسة العسكرية الأمريكية في أكبر خطة إعمار بعد "مشروع مارشال" الإقتصادي، الذي وضع لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية ووزير الخارجية الأميركي منذ يناير 1947 والذي اعلنه بنفسه في خطاب امام جامعة هارفارد وكانت الهيئة التي اقامتها حكومات غرب أوروبا للإشراف على إنفاق 13 مليار دولار أميركي قد سميت " منظمة التعاون والاقتصادي الاوربي" وقد ساهمت هذه الأموال في إعادة اعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الاوربية.

إلا إننا بعكس ما جاءت به نتائج مشروع مارشال، على الرغم مما حدث فيه من فساد، والذي ساهم في تشغيل أوربا وإعادة إعمارها فقد كان مشروع إعادة إعمار العراق وبالاً على العراقيين حين فقدت فيه كتل نقدية هائلة من الأموال المخصصة لإعماره وأصبحت اليوم من أكبر صفقات الفساد في التأريخ بعدما ضاعت كل الآمال التي عقدت على التمكن من إيجاد الأوجه التي صرفت فيها تلك المبالغ والتي استدعت تدخل البرلمان العراقي للبحث عن أرقام مهولة كانت قد ضاعت ولا أحد بقادر على أن يتتبع طرق الصرف التي تبخرت بها، ليست مئات الملايين التي تم استعادتها بقريبة منها أبداً.. لقد ضاعت ملياراتنا تحت دخان القنابل والظلام الذي غط مدننا حيث لا نور إلا في المناطق التي يتقاسم بها الناهبون الأمريكيون من المقاولين الذين دخلوا على صهوة الدبابات الأمريكية ليشبعوا نهمهم منها بمساعدة الكثيرون من المقاولين العراقيين من تجار الحروب وإنتهازيو الفرص الذين جربوا سابقاً، عدة مرات، كيفية إستغلال الفرص الكبيرة التي تتاح في العراق نتيجة للحروب الطاحنة التي يدخلها البلد بين الحين والآخر.

لقد عقدت في حينها آلاف من المناقصات الوهمية وصرفت لها الملايين من الدولارات والتي لم نرى حتى يومنا هذا أي معلم يدل على أن هناك شيئاً قد تحقق على أرض الواقع.. فكل تلك الملايين كانت تصرف لدعم وجود القوات الأمريكية من بناء الثكنات العسكرية وتدعيمها حيث لم ترتق حملة الأعمار تلك الى أقل اهدافها بل على العكس ليس خطأ أن يطلق عليها حملة خراب العراق.. وبجدارة، فالمليارات التي خطط لها لتدعيم البنية التحيتية المتهالكة كان ضياعها سبباً في بقاء حالنا مترد حتى اليوم، ولم يظهر حتى يومنا مناد يناد بها أو يطالب بجد في البحث عنها باستثناء الخطابات التي تتصاعد، بخجل، هنا وهناك للبحث عنها ومعرفة المصير المحتوم الذي آلت اليه.

كانت قضية (جورج ــــ غلوريا) من أهم القضايا التي توضحت فيها الرشوة بأرقى معانيها فغلوريا ديفيس كانت الضابطة الأمريكية المسؤولة عن منح العقود، أي الدجاجة التي تبيض ذهباً، أما جورج لي فقد كان مقاولاً امريكياً يعيش في الكويت، تمكن من أن يحصل على صفقات ومقاولات منحتها لها غلوريا بملايين الدولارات بصيغة عقود خدمات منها عقود تعبئة المياه وتجهيز حافلات في عام 2004 وبالمقابل كان جورج قد دفع تكاليف منتجعها في الكويت مع تحويل مبلغ 80 مليون دولار فقط الى حسابها في تايلاند، وبعد أن أعترف غلوريا بكل شيء في عام 2006، يوم كنا نتقاسم دماء بعضنا ونغص بها، بأن المبالغ الموجودة في حسابها المصرفي من أموال الرشا، عادت الى غرفتها وانتحرت بإطلاق النار على رأسها !!

فكم هم من على غرار جورج وغلوريا ومن لف لفهم من العراقيين ممن باعوا ضمائرهم ولا زالوا وكم حساب مصرفي في العالم فتح بعد 2003 ليتلقف الملايين بل والمليارات؟ وكم فاسد حزم حقائبه بالورق الأخضر وهرب تحت جنح ظلام الطائفية والموت الى خارج العراق ؟ كثيرون لا نمتلك إحصاءات لهم، ولكن كم وطني شريف يداعي اليوم بأموال العراق ؟.. أموال اليتامى والأرامل من ضحايا الإرهاب والطائفية والموت جوعاً وحسرة.. أموال الوطن المظلوم.. واموال الفقراء الذين مزق الفقر عوائلهم وانتهك أعراضهم... قليلون جداً.. بل لا أحد.. وكأن العم سام أصبح عمنا، شك المنشار، ولا يجوز أن نبحث في الخراب الذي تركه لنا عن مالنا، دمائنا واعراضنا،.. فتعساً لنا من قوم !

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 28/كانون الثاني/2013 - 16/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م