ثبت بالدليل الميداني أنه كلما حققت حكومة نوري المالكي انجازات على
مستوى الإقتصاد والأمن والسياسة الخارجية تنادى سياسيو العملية
السياسية الى المطالبة بتحديد صلاحياته وتحديد ولاية رئاسة الوزراء
بدورتين ومنعه من الترشيح لدورة ثالثة، فيما لا يتوانى المضادون
للعملية السياسية عن تطبيق الأجندات الخارجية وترجمتها على أرض الواقع
عبر تفجير الأماكن العامة ودور العبادة والأسواق وتفخيخ السيارات
وتلغيم الشوارع والإغتيالات المنظمة المدفوعة الثمن، وعندما اصطدم
الشركاء المفترضون ببنود الدستور العراقي، راحوا يزيدون من وضع العصي
في عجلة الحكومة دون أن يلتفتوا الى الشعب العراقي الذي واجه الإرهاب
وذهب الى صناديق الإقتراع مرة للتصويت على الدستور وثانية للتصويت على
المجالس المحلية وأخرى على مجلس النواب حيث وضع في أيدي النواب الأمانة
مقابل ثمن يتقاضونه كأي موظف في دوائر الدولة.
بيد أن المشكلة في العراق تكمن في قلة الثقافة الحزبية وضعفها
وانعدامها عند البعض الآخر الذين عاشوا قبل عام 2003م تحت سلطة
الاستبداد، وحتى الذين عاصروا انتخابات المجلس الوطني العراقي في عهد
الرئيس الأسبق صدام حسين منذ عام 1980م، فإنهم كان لزاما عليهم التصويت
على اشخاص من داخل الحزب الحاكم شاءوا أم أبوا، لأن التعددية الحزبية
بالأساس كانت معدومة، فلم يتعود الناس في عراق صدام حسين على التعددية
الحزبية، فالولاء كل الولاء للحزب الحاكم تحت شعار رفعه النظام "كل
عراقي بعثي وإن لم ينتم"، وعندما حلَّ نظام التعددية الحزبية في عراق
ما بعد صدام حسين، فإن الذين طفح بهم الوضع الجديد الى سطح السياسة لم
يعهدوا العمل في أجواء التعددية الحزبية، ولهذا يصعب عليهم تقبل مفهوم
العمل السياسي القائم على الأغلبية والأقلية داخل قبة مجلس النواب،
ولهذا فهم يدعون الى الشراكة لا رغبة حقيقية في خدمة الشعب العراقي
وإنما جهلاً بالنظام السياسي القائم على التعددية الحزبية وشهوة في
الحكم والتسلط تحت تأثير الثقافة الموروثة، ولهذا يصعب عليهم التعامل
مع وجه يحكم لمرة وثانية وثالثة وربما رابعة ما دام الدستور العراقي نص
على تعدد الولايات، ومادام الناس راضين عن أدائه بشكل عام.
ربما يرى البعض أن تحديد الولاية بدورتين أمر مهم لمنع نشوء المستبد
وهذا جزء من الثقافة الحزبية وهو أمر حسن، ولكن التحديد بحد ذاته
يتعارض مع قانون الأحزاب الذي ظل مسكوت عنه لسنوات عدة وسوف تقفز به
الكتل والتيارات الى الدورة النيابية القادمة وربما التي بعدها، وفوق
هذا وذاك فإن التحديد يتعارض مع النظام النيابي التعددي حتى وإن لم يكن
في مواد الدستور العراقي مادة تبيح تعدد الولايات، لأن العمل الحزبي
والنظام النيابي يفترض في زعيم الحزب أو الكتلة أن يكون رئيس وزراء تحت
الطلب، فالحزب الذي يفوز بالأكثرية يتولى زعيمه رئاسة الوزراء مباشرة
وهذا أمر تسالمت عليه كل الديمقراطيات في العالم، ولما كان رئيس الحزب
أو زعيم الكتلة لا تتحدد ولايته الحزبية بواحدة أو اثنين وإنما هي
مفتوحة مادام الحزب يرتضيه والناخبون يأتون به إلى مجلس النواب، فإن
رئاسة الوزراء هي الأخرى مفتوحة، نعم إذا أقال الحزب زعيمه فإنه يفقد
رئاسة الوزراء بالتبع حتى وإن كان على سدة الحكم، وإذا خسر رئيس
الوزراء الانتخابات في الدورة اللاحقة فللحزب الذي ينتمي اليه خيار
إزاحته من الزعامة أو الإبقاء عليه، ولكن دلت التجارب الحزبية في
الديمقراطيات المتحضرة أن رئيس الوزراء المنتهية صلاحيته بالخسارة
الانتخابية يتخلى من ذاته عن زعامة الحزب دون أن يفقد مكانته داخل
الحزب وله أن يدخل مجلس النواب مرة أخرى إذا رشحه الحزب عن دائرته
الإنتخابية وارتضاه الناخبون.
هذه هي المعادلة الطبيعية في النظام الحزبي النيابي إن كان هناك
قانون أو لم يكن، ووجوده إنما هو من باب التأكيد والتثقيف الحزبي ليس
إلا، كما يكون لزعيم الأقلية النيابية وإن تعددوا ما لزعيم الأكثرية من
ولاية ووزراء ظل كرديف للحزب الحاكم إذا ما وقع طارئ أو جدَّ جديد
إنتخابي، وهذا هو التداول السلمي للسلطة بعينه.
وإذا كان مثل هذا النظام الحزبي والنيابي لا يفصل بين زعامة الحزب
ورئاسة الوزراء في حال الفوز ولا يتوقف على دورة أو أكثر، فإن مثل هذا
النظام يتعارض هو الآخر وبشدة مع نظام الزعامات للتيارات والكتل
والجبهات التي قطعت حبل الإنتخابات الداخلية والترشيح للانتخابات
العامة وثقبت قارب دخول مجلس النواب وتركت الأمر للتشكيل الذي تقوده
بدخول العملية السياسية من عدمه، فهذه الزعامات على خلاف الزعامات
الحزبية غير قابلة للتنافس الحزبي في داخل تكتلها لعدم وجود المنافس
لها أصلاً، وترفض الدخول في العملية السياسية عبر بوابة مجلس النواب
وهي البوابة الطبيعية لنظام سياسي قائم على التعددية الحزبية والنظام
النيابي، وتفضل تولي زعامة الحزب او التيار او الكتلة أو الجبهة مدى
الحياة ويكون أمرها نافذاً في كل القرارات كأنها وحي منزل.
وهنا يقع التناقض في العملية السياسية التي عليها عراق اليوم، فمن
جانب يُطالب زعيم الحزب المنتخب حزبيا وجماهيرياً الذي يتولى رئاسة
الوزراء بعدم الترشيح لدورة ثالثة، ومن جانب آخر تتمتع بعض زعامات
الكتل والتيارات بحصانة حتى الممات حتى وإن تراجع الأداء من دورة
إنتخابية لأخرى وقلّ عندها عدد النواب وانحسرت مساحة الجماهير المؤيدة
لها ولما تمثله.
وهنا يقع الظلم المركب في العملية السياسية، لأنّ هذه الكتل
والتيارات في الوقت الذي تبيح لنفسها زعامة مفتوحة مدى الحياة في نظام
سياسي قائم على تبادل الأدوار والتعددية الحزبية والتداول السلمي
والحكومة للأصلح، تمنع الأحزاب السياسية من ممارسة دورها الطبيعي في
الحياة النيابية من خلال الترشيح لزعيمها لمرة ثالثة ورابعة، لأن
الزعيم الذي يمنع من الترشيح لولاية حكومية ثالثة يسقط حقه بالتبع من
الترشيح لزعامة الحزب حتى وإن كان هو الأقوى داخل الحزب وارتضاه الحزب
لهذا المنصب وفاز بمقعده النيابي.
ففي المعايير الحزبية والنيابية كلها لا يصح تحديد ولاية رئيس
الحكومة مادام زعيم الحزب هو رئيس وزراء بالضرورة إذا ما فاز، نعم يصح
ذلك إذا كان الإنتخاب مباشرا من الجماهير وحينئذ يصح سنَّ قانون يحدد
الولاية بدورتين او ثلاث، أو يعمل بنظام زواج الكوبري حسب مقولة
إخواننا المصريين، حيث يمنع الرئيس أو رئيس الوزراء من ترشيح نفسه
لدورة ثالثة ويُباح له في الرابعة وما بعدها وهناك أكثر من تجربة بشرية
محيطة بالعراق.
من هنا فإن العملية السياسية في العراق ستظل على كف عفريت اذا ما ظل
العمل قائما بنظام الزعامة التاريخية التي تصر على تحديد ولاية الحكومة
بدورتين فتحلل لنفسها ما تحرمه على الآخر رغم توافقه مع الدستور
العراقي وتماهيه مع النظام الحزبي النيابي.
ولدفع مركب العملية السياسية الى الإمام ينبغي دراسة النظام الحزبي
النيابي والوقوف على جزئياته، ويقتضي الى جانب القراءة النظرية القراءة
العملية من خلال عمليتين متزامنتين في آن واحد: أولها: إجراء انتخابات
عامة داخل التيارات والأحزاب والكتل والجبهات ذات الزعامات التاريخية
بحيث يسري نظام الانتخابات من القاعدة حتى القيادة مع تعدد المرشحين
لأعلى منصب قيادي دون خطوط حمر ومقدسات مفترضة سلفاً، وثانيها: ترشيح
رؤساء الأحزاب وزعماء الكتل والتيارات والجبهات الفائزين في الإنتخابات
الحزبية الداخلية في الانتخابات العامة والجلوس على مقاعد مجلس النواب
أسوة بنواب الأمّة الآخرين مع حفظ الشأنية، فإما أن يكون لها الحظ في
تولي الحكومة أو أن تكون شريكة في خدمة الشعب من خلال مراقبة أداء عمل
الحكومة، وعندها سيُكتب للعراق التطور كما تطورت البلدان التي تعيش في
بحبوحة النظام الحزبي النيابي.
فما جرى في مجلس النواب العراقي يوم 26/1/2013م من تمرير مقترح
قانون تحديد الولايات الثلاث لدورتين ينسف النظام الحزبي التعددي
النيابي الذي قامت عليه الدولة العراقية الحديثة، ولذا اعتقد أنَّ ما
يحتاجه العراق اليوم هو قراءة واعية ومتأنية لنظام التعددية السياسية
والحزبية وحدود الرئاسات الثلاث ومفهوم التداول السلمي للسلطة ودراسات
تجارب الآخرين والتعلم منها حتى تتضح لدى ساسة العراق المعاصر معالم
الثقافة الحزبية الغائبة والمغيَّبة، والعاقل من اتعظ بتجارب غيره. |