إفقار العملة أم إفقار الذات؟

محمد عبد الله العريان

إن أكثر الدول اليوم لا تحرص على الاحتفاظ بسعر صرف قوي لعملاتها؛ بل إن قِلة من الدول، بما في ذلك دول ذات أهمية للنظام بالكامل، تعمل بنشاط بالفعل على إضعاف عملاتها. ولكن برغم هذا، ولأن سعر الصرف هو في واقع الأمر سعر نسبي، فمن غير الممكن أن تضعف كل العملات في نفس الوقت. والواقع أن الكيفية التي قد يحل بها العالم هذا التناقض الأساسي على مدى الأعوام القليلة المقبلة سوف تخلف تأثيراً كبيراً على توقعات النمو، وتشغيل العمالة، وتوزيع الدخول، وأداء الاقتصاد العالمي.

كانت اليابان آخر دولة تعلن أن الكيل فاض بها. فبعد أن شهدت عملة بلادها وهي ترتفع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، قررت حكومة رئيس الوزراء شينزو آبي الجديدة اتخاذ خطوات تهدف إلى تغيير ديناميكية سعر الصرف التي تتبناها البلاد ــ وكان النجاح حليفها في هذا الصدد. ففي غضون فترة لا تتجاوز الشهرين إلا قليلا، هبطت قيمة الين بنسبة تتجاوز 10% في مقابل الدولار، وتقترب من 20% في مقابل اليورو.

وقد أعرب زعماء أوروبيون بالفعل عن تحفظاتهم بشأن تحركات اليابان. واستشاطت صناعة السيارات في الولايات المتحدة غضبا. وقبل بضعة أيام، حذر ينس وايدمان رئيس البنك المركزي الألماني علناً من أن العالم يخاطر بالدخول في جولة ضارة وعقيمة من الخفض التنافسي لأسعار صرف العملات ــ أو بعبارة أكثر وضوحا "حرب عملة" (وهو المصطلح الذي استخدمته البرازيل في وقت سابق للتعبير عن مخاوف مماثلة).

لا شك أن اليابان ليست الدولة الأولى التي تسلك هذا الطريق. فقد سبقتها دول متقدمة وناشئة أخرى، وأظن أن عدداً غير قليل من الدول سوف يتبعها.

فلم يمر سوى ما يزيد على العام قليلاً منذ فاجأت سويسرا العديد من المراقبين عندما أعلنت، ونفذت بصرامة، عتبة لن تسمح بعدها لعملتها بالارتفاع في مقابل اليورو. ولنتذكر أن النموذج الذي تبنته البلاد لقرون من الزمان كان يتلخص في توفير ملاذ آمن لرأس المال الأجنبي.

وليس بالضرورة أن يكون المرء خبيراً اقتصادياً حتى يدرك أن العملات رغم إمكانية انخفاض قيمتها جميعها (وهذا يحدث بالفعل) في مقابل شيء آخر (مثل الذهب، أو الأراضي، أو غير ذلك من الأصول الحقيقية) فإنها بحكم التعريف من غير الممكن أن تضعف جميعها في مقابل بعضها البعض. فلكي تنخفض قيمة بعض العملات، فلابد من ارتفاع قيمة عملات أخرى. وهنا تصبح الأمور مشوقة، ومعقدة، وربما خطيرة.

وفي عالم اليوم، لن نجد مجموعة كبيرة من الدول تتطلع إلى تقوية عملاتها. والبعض يقاومون رفع قيمة العملة بنشاط وعلانية؛ وآخرون يقاومون ذلك بطريقة أقل وضوحا. ويبدو أن منطقة اليورو فقط تقبل موقعها كطرف متلق لتحركات الدول الأخرى.

ولا شيء من هذا غير مسبوق، بل إن العديد من الباحثين يبينون كيف أن مثل هذا النهج القائم على إفقار الجار يفضي إلى نتائج سيئة في مجموعها. بل وهناك اتفاقيات متعددة الأطراف أبرمت من أجل الحد من هذه المخاطر، بما في ذلك اتفاقيات أبرمت في صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

ورغم هذا فإن دولة تلو الأخرى تنجرف عندما يجد الجد إلى استحثاث نتائج ضارة محتملة تؤثر على الاقتصاد العالمي ككل. والأسوأ من هذا هو أن هذه العملية لم يتم تسجيلها جدياً حتى الآن على أجندة السياسات المتعددة الأطراف.

ويرجع هذا إلى أسباب عديدة، تتراوح بين الحالة الواهنة التي تمر بها الإدارة المتعددة الأطراف إلى القضايا الداخلية الملحة التي تستحوذ حالياً على اهتمام صناع القرار السياسي الوطنيين. ولكن هناك أيضاً عاملاً آخر يتدخل في الأمر: فأسباب مأزق اليوم يصعب فهمها والتصدي لها بفعالية.

وخلافاً للماضي، فإن التهديد بنشوب حرب عملة لا يرتبط باختلال التوازن التجاري وأزمات ميزان المدفوعات بشكل مباشر. فهناك بدلاً من هذا محرك آخر مهم يتمثل في لجوء البنوك المركزية الكبرى إلى تدابير تجريبية في محاولة التعويض عن أوجه القصور في السياسات والخلل السياسي في أماكن أخرى.

وإذا كان للعالم أن يتجنب أضراراً جسيمة، فمن الأهمية بمكان أن يفهم الديناميكيات العاملة في هذا السياق. ويتلخص الوصف المبسط للمسألة في التالي: في مواجهة انخفاض النمو وارتفاع البطالة، ومع تشبث صناع القرار السياسي الآخرين بأمور ثانوية، فإن أي بنك مركزي مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يستشعر أنه لا خيار ليده غير تبني سياسة نقدية قائمة على المواءمة إلى حد كبير. ومع انخفاض أسعار الفائدة الرسمية إلى الصفر بالفعل، فإنها تجد نفسها ملزمة بالغوص إلى أعماق أبعد في عالم مجهول من "السياسات غير التقليدية".

والهدف، كما قال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بن برنانكي مرة أخرى في ديسمبر/كانون الأول، يتلخص في "دفع" المستثمرين إلى خوض المزيد من المجازفة. وعلى وجه التحديد، كان الأمل معقوداً على نجاح الارتفاع المصطنع في أسعار الأصول في حمل الناس على الشعور بأنهم أصبحوا أكثر ثراءً وأكثر تفاؤلا، وهو ما من شأنه بالتالي أن يحرك "تأثيرات الثروة" و"الغرائز الحيوانية" التي تحفز الاستهلاك والإنفاق الاستثماري، وأن يدعم خلق فرص العمل، و"يضفي الشرعية" في إطار هذه العملية على تسعير الأصول المصطنع.

في الممارسة العملية، لم تثبت هذه العملية أنها مباشرة وصريحة. وعلاوة على ذلك فإن جزءاً من السيولة التي يضخها بنك الاحتياطي الفيدرالي تجد طريقها إلى الأسواق المالية في دول أخرى. وأستشهد هنا بالارتفاع الحاد الذي طرأ على تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة مع ملاحقة المستثمرين لعائدات مالية أعلى. وما يزيد الأمور تعقيداً أن هذه التدفقات أصبحت وبشكل متزايد أقل ارتباطاً بالأسس الاقتصادية والمالية في الدول المتلقية.

كما يشعر العديد من المستثمرين بالحاجة إلى إيجاد التوازن بين الاستثمارات القائمة على المضاربة بشكل متزايد ("ضبط أوضاع الكيانات التابعة") وبين استثمارات أكثر أمانا ("ضبط أوضاع الكيانات الأساسية"). ولتحقيق الهدف الأخير، يتحول المستثمرون إلى البلدان التي تتمتع بإدارة حكيمة، فيفرضون بذلك ضغوطاً تدفع عملاتها إلى الارتفاع أيضا ــ ومرة أخرى، بما يتجاوز ما قد تسمح به العوامل الأساسية المحلية.

وليس من المستغرب أن تبدي المزيد والمزيد من الحكومات تخوفاتها بشأن ارتفاع أسعار الصرف. وبالإضافة إلى العراقيل المرتبطة بالسياسات القصيرة الأمد، فإن العملة الأقوى تحمل في طياتها تكاليف كبيرة محتملة تتمثل في تفريغ القطاعات الصناعية والخدمية. وعلى هذا، فبعد مزيج متفاوت من التسامح والاستجابات "غير التقليدية"، ينجرف المسؤولون إلى تخفيف سياساتهم النقدية من أجل إضعاف عملات بلدانهم، أو في أقل تقدير الحد من سرعة ارتفاع سعر الصرف.

وقد يتبين لنا أن هذه الفترة من تناقض السياسات مؤقتة وقابلة للانحسار إذا نجحت البنوك المركزية في دفع الاقتصادات دفعاً إلى الخروج من وعكتها، وإذا أدركت الدول الحاجة الماسة إلى المزيد من تنسيق السياسات بين الحدود.

ومكمن الخطر هنا هو أن تؤدي هذه الظاهرة إلى ارتباكات واختلالات واسعة النطاق، مع تغذية التحديات السياسية الوطنية المتزايدة الصعوبة للتوترات الإقليمية وإثبات النظام المتعدد الأطراف عجزه عن إصلاح اختلالات التوازن بأمان. وإذا لم يتعامل صانعو القرار السياسي مع الأمر بحذر وحكمة ــ وبقدر من الحظ ــ فإن حجم هذه المخاطر سوف يتضخم بشكل كبير في الأعوام المقبلة.

* الرئيس التنفيذي لمؤسسة بيمكو ومسؤولها الإعلامي المشارك، ومؤلف كتاب "عندما تتصادم الأسواق".

http://www.project-syndicate.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 27/كانون الثاني/2013 - 15/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م